الاثنين، 16 يوليو 2012

دفاعا عن القيم العلمية د. محمد كشكار

نص المرافعة، دفاعا عن القيم العلمية
السلام عليكم، استجابة لطلبكم - متجها للمنصة - أقدم نفسي: محمد كشكار أستاذ علوم الحياة و الأرض بمعهد برج السدرية، دكتور في علوم التربية و لا أنتمي لأي حزب
         بسم الله الرحمان الرحيم
         سأتدخل في نقطة واحدة تهم اختصاصي الأكاديمي و هو مجال علوم التربية
         عند تصفحي لبرنامج "النهضة" الثري بالتطلّعات المستقبلية الواعدة و المُطَمْئنَة، وجدت ضالتي و مقصدي في الفقرة التالية التي تقول: "تؤمن حركة "النهضة" بضرورة إرساء منظومة قيميّة متكاملة تقوم على تفعيل جملة القيم النابعة من المخزون الثقافي و الحضاري للمجتمع التونسي و هُويته العربية الإسلامية" و ذكرتم - متجها للمنصة - كأمثلة على ذلك قيم العدالة و التكافل و مكافحة الفساد
         ليس عندي ما أضيف لهذه القيم العالمية الإنسانية المتأصّلة في قرآننا و سنّة نبينا، صلى الله عليه و سلّم، و سيرة أصحابه رضي الله عنهم جميعا، سوى أنها قيم سمحة لكن و للأسف الشديد لا نطبقها، بل الأدهى و أمرّ أننا نطبق عكسها منذ وفاة علي بن أبي طالب، كرّم الله وجهه، و لو كنا نطبقها لَمَا كان حالنا اليوم بين الأمم كالذي تعيشون و تسمعون و ترون، حال أمة مستضعفة، مُهانة، مستباحة و محتلّة من قبل أمم، نحن الذين درّسناها العلم و كنا سببا مهما من أسباب نهضتها العلمية الحديثة
         حتى لا أطيل عليكم و أتطفل على غير اختصاصي، أرجع و أذكّر أن القيم الدينية و الاجتماعية تحتاج إلى قيم علمية تسندها و تقوّيها. و العلم، يا سادتي، يا كرام، لمن لا يعرفه، هو ليس موضوعيا عكس ما يعتقد الكثيرون من أهله و من غير أهله. العلم منحاز بطبيعة منتجيه. و من هم منتجوه؟ هم علماء الغرب الاستعماري الرأسمالي المتوحش
         سوف أعطي أمثلة تعاضد رأيي
-         لم يسمح لنا الغرب بتطوير بحث علمي وطني. لماذا لا نبحث علميا في أساليب و أدوات طِبّنا العربي التقليدي و نطوره باستعمال أعشاب محلية رخيصة و غير ضارّة تكون في متناول موظفينا و فقراءنا و تقيهم من الأعراض الجانبية للأدوية الكيميائية المستوردة باهظة الثمن؟
-         سرقوا بذورنا النباتية الأصلية (الزرّيعة) و أجبرونا على شراء بذورهم و أبقارهم غير المتلائمة مع بيئتنا و التي تكلفنا أموالا طائلة و تربطنا باقتصادهم برباط وثيق. هل تصدقوا أن دولة أستراليا طورت بذور نبتة قابسية اسمها "الفصّة" و أصبحت تصدرها إلينا بالعلامة المسجلة  "الفصّة القابسية
-         في الثمانينات، قام مهندس تونسي بتجربة تتمثل في فرز البذور الأجنبية المستوردة بالعملة الصعبة الصالحة للزراعة عام واحد فقط و توصل إلى تحصيل 15 بالمائة منها صالحة للزراعة مرتين. لم يُمكّن هذا المهندس المجتهد من تمويل و كان يكفيه ميزانية شعبة من شعب التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم المنحل
-         حاربت شركات صنع الأدوية الاحتكارية العالمية إنتاج دواء للسيدا في دولة جنوب إفريقيا، لا لشيء إلا لأنه بخس الثمن و في متناول فقراء إفريقيا و ربما ينافس تجارتهم و يضرب احتكارهم للعلم و المعرفة و الإنتاج التكنولوجي الحديث
-         يقتلون في المهد، بتواطؤ أنظمتنا العميلة، كل مشروع عالِم ينتج في بلاده الأصلية و سرقوا أدمغتنا بعد تخرجهم من جامعاتنا و نحن في سبات عميق و أمثال هؤلاء كثيرون مثل أحمد زويل و فاروق الباز و محمد الأوسط العياري و اعلموا أن عدد الأطباء الجزائريين في فرنسا قد يفوق عددهم في الجزائر  

أعود الآن إلى مخزوننا الثقافي و الحضاري الملئ بالكنوز المغمورة التي لا يراها إلا من أراد أن يراها  و قد بحّ صوتي و جف قلمي في التذكير بها بكرة و أصيلا، صباحا مساء و يوم الأحد حتى نستغلها في تعليم أبنائنا قيم علمية مفيدة، أورد بعضها على سبيل الذكر لا الحصر
-         "نظرية التربية البنائية الاجتماعية" المعاصرة و الحديثة للعالِمان المتناقضان المتكاملان، الليبرالي "بياجي" و الاشتراكي "فيقوتسكي" و التي تقول أن التلميذ قادر أن يبني معرفته بنفسه بمعية أقرانه و أنداده و تحت إشراف مدرّسه. كنا نطبقها دون أن ندري و نحن أطفالا في قرية جمنة الخمسينات، نلعب و نصنع لعبنا بأنفسنا تحت شجرة نخيل، ظلها وارف و تمرها لذيذ و كانت روضتنا الحرة، بصدق،  قطعة من الجنة. أما اليوم، فقد طغى الربح السهل و تفشت فينا المتاجرة حتى بفلذات أكبادنا و وضعناهم في روضات، لا تبعد كثيرا عن السجون الحقيقية بالنسبة لهم
-         "نظرية الحمام اللغوي" المعاصرة و الحديثة التي تحث على وضع التلميذ في وضعية تعلمية لغوية سليمة حتى و إن كان لا يفقه معانيها. نحن نملك تجربة ثرية في الكتّاب أين نعلّم صغارنا حفظ و تلاوة القرآن الكريم منذ سن مبكرة قد تبدأ من أربع سنوات. في الكتّاب، يتعلم الصغير النطق السليم و يسمع و يحفظ اللغة العربية القرآنية الفصحى الصحيحة في مرحلة الاستيعاب دون فهم و عندما يصل إلى مرحلة عمر الفهم قد يجد في تلافيف مخه أداة لغوية سليمة يوظفها في فهم النصوص العربية. أما اليوم، فطفلنا ضائع في المرحلتين السابقتين، يتلقى في صغره لغة ركيكة مشوشة و في مرحلة الفهم لا تخدمه لأنها لا تصلح للتوظيف
-         "نظرية التنمية المستديمة (أو المستدامة)" المعاصرة و الحديثة التي تحث على المحافظة على التوازن و التنوع البيئي لصالح الأجيال الحاضرة و أجيال المستقبل. كان إنتاجنا الفلاحي في قريتنا جمنة الخمسينات بيولوجيا مائة بالمائة، دون إضافة أسمدة كيميائية و الاكتفاء بالأسمدة العضوية الحيوانية و النباتية و البشرية. تاجر مصدّر تمور ألماني، يشتري تمر "الدقلة" من قريتنا جمنة، يشترط "دقلة" بيولوجية و يعرفها بوجود بعض الدود الحي داخل التمرة و هذا دليل علمي على أنها لم تُعالج بالمبيدات الكيميائية و إلا لماتت الدودة داخلها. و الشمس تعطي للأرض في ساعة، طاقة تساوي ما تستهلكه البشرية في عام
-         "النظام الغذائي المتوسطي" هو نظامنا التقليدي الذي يحث على استهلاك البروتينات النباتية الرخيصة أكثر من البروتينات الحيوانية الغالية. همّشوا نظامنا الغذائي الوطني الصحي و صدّروا لنا علما منحازا و الغريب أننا نحن الذين درسناه و درّسناه لأبنائنا عن جهل و قلة وعي علمي و أنا واحد منهم عندما كنت أؤمن أن العلم موضوعي. درّسونا و درّسنا أن أكل اللحوم مفيد لصحة أبنائنا و علّمونا أن السكر الأبيض التجاري مغذّ أساسي في النمو. كذبوا علينا عن حسن نية أو سوء نية، المهم أننا استوردنا أمراضهم مع نظامهم الغذائي فانتشرت فينا أمراض القلب و الشرايين و أصبح عُشر التونسيين مرضى بالسكري في حين أن في فرنسا 2 بالمائة فقط مرضى بالسكري. مع العلم أنني في طفولتي في الخمسينات بقرية جمنة لم أكن أعرف استهلاك السكر الأبيض التجاري إلا في الشاي فقط و دون مبالغة. لم نكن نأكل، لا شكلاطة و لا ياغورط و لا مرطبات و لا مشروبات غازية لأنها غير موجودة تماما في بلدنا الجميل و الصغير و اعلموا أن السكر الأبيض التجاري هو المادة العضوية الوحيدة المصنعة التي نستطيع أن نستغني عنها تماما و نلغيها نهائيا من نظامنا الغذائي - و هذا ما فعلته أنا - دون أن تتضرر صحتنا بل على العكس سوف تتحسن بقدرة الله لأننا سنحصل على غذاء الجليكوز أو سكر العنب الموجود في سكر الحانوت من أغذية أخرى كثيرة كالخبز و الغلال و بعض البقول و الفواكه الجافة و الخضر الطازجة أو المطبوخة
-         تتشكل تصورات الفرد حول موضوع ما أو مسألة ما من التفاعل الدائم و المستمر بين معارفه و ممارساته الاجتماعية اليومية و قيمه
أنهي تدخلي هذا بصيحة الفزع العلمي التالية: أهملنا بفعل فاعل تدريس القيم العلمية في حصص العلوم بمدارسنا التونسية بدعوى حيادية العلم. كذبة صدقناها و تخلينا بمحض إرادتنا عن دورنا كمربين أساسيين و تركنا تربية أولادنا تنهشها وسائل الإعلام الأجنبية و الخليجية و الوطنية العميلة

في الأخير، أوجه لوم ودّي لمصممي برنامج حركة "النهضة" في الأنترنات حيث جاءت فقرة الصحة في الترتيب 258 من بين 365 فقرة و تلاها التعليم في الفقرة 268
أنا أرى أن التعليم و الصحة يكوّنان معا البناء الأساسي للدولة الحديثة و لا "نهضة" - و افهموها كما تشاؤون – بدون تعليم ديمقراطي عصري مجاني و بدون صحة سليمة. و لنا أسوة في البلدان الإسلامية المتطورة حديثا كماليزيا و تركيا و إيران و البلدان غير الإسلامية ككوريا الجنوبية و سنغفورة و تايوان
أختم بالجملة الحكيمة التي استلفتها من الأنترنات
يبدو أن التعليم بدون قيم - كالعادة - شيطانا ذكيّا
و هل هناك شيطان يتفوق في خطورته على مدرّس أو طبيب أو مهندس، اكتسب علومه لكنه لم يكتسب قيما تساعده على استيعاب تلك العلوم و تطبيقها بحذافيرها؟

إمضاء د. م. ك 
يطلب الداعية السياسي أو الفكري من قرائه أن يصدقوه و يثقوا في خطابه أما أنا - اقتداء بالمنهج العلمي - أرجو من قرائي الشك في كل ما أطرح من إشكاليات و أنتظر منهم النقد المفيد
لا أقصد فرض رأيي عليكم بالأمثلة و البراهين بل أدعوكم بكل تواضع إلى تجريب وجهة نظر أخرى و على كل مقال سيء نرد بمقال جيد، لا بالعنف اللفظي أو المادي

التاريخ
قاعة الأفراح ببلدية حمام الشط في 18 سبتمبر 2011

_____________________________________
مقالات مأخوذة من صفحة الكاتب على الفيسبوك
https://www.facebook.com/notes/mohamed-kochkar/%D9%85%D8%B1%D8%A7%D9%81%D8%B9%D8%A9-%D8%AF%D9%81%D8%A7%D8%B9%D8%A7-%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%8A%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%AE%D8%AA%D9%85%D8%AA-%D8%A8%D9%87%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%88%D9%85-%D8%A7%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%A7%D8%B9-%D8%AD%D8%B1%D9%83%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%87%D8%B6%D8%A9-%D8%A8%D8%A8%D9%84%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D8%AD%D9%85%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B7/10150377174582363

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق