الجمعة، 4 نوفمبر 2011

العلمانية المؤمنة د.سالم لبيض

العلمانية المؤمنة د.سالم لبيض هذا المصطلح السحري الذي استخدمه أردوغان أثناء زيارته الأخيرة لمصر ولقي هجوما بسببه من قبل بعض قادة حركة الإخوان المسلمين، كان أصّله الشيخ راشد الغنوشي في مقال قصير ولكنه هام نشرته مجلة المستقبل العربي البيروتية في عددها 359 سنة 2009 بعنوان "الإسلام والعلمانية"، معتبرا أن ذلك النوع من العلمانية "لا يعترضها من مصادر الإسلام معترض". المقال يكاد يفصل فصلا تاما بين المجال السياسي بما هو شأن دنيوي والمجال الديني بما هو مجال تعبدي، ولكنه ترك هامشا من الرقابة الدينية على السلطة السياسية، ومع ذلك لم يسلم من انتقادات الباحث علي خليفة الكواري المشهود له في الدراسات حول الديمقراطية وذلك في مقال بعنوان "لا تقوم الديمقراطية في ظل حكومة دينية مناقشة لرأي الأستاذ راشد الغنوشي" نشرته المستقبل العربي في عددها 362. لقد كان انطباعي حينها هو أن الشيخ الغنوشي يتحوّل تدريجيا في أفكاره من مقولة الحاكمية الإلهية التي ورثها عن الجماعات الإخوانية والجهادية المشرقية لاسيما القطبية(نسبة إلى سيد قطب) إلى نوع من اللائكية المقيدة، وإن كنت ميالا إلى اعتبار أن تلك العلمانية المؤمنة ليست سوى تسمية جديدة مغازلة للعلمانيين لأن ما قيل فيها يندرج ضمن خصائص الدولة المدنية التي عرفها العرب منذ زمن الصحيفة ولم تكن سوى نتاج للعصبية بمعناه القرابي أو الأيديولوجي والعقدي. ولما قرأت برنامج حركة النهضة الصادر مؤخرا في 365 نقطة تأكد لي مفعول ذلك المقال على الرؤية السياسية الجديدة لهذه الحركة. فالبرنامج على درجة من الثراء ويمسح كافة مجالات تدخل السلطة، والمتأمل فيه جيدا لا يجد ما يحيل على أنه برنامج حركة إسلامية نشأت نشأة إخوانية إلا إذا استثنينا بعض التلميحات الواردة فيه بصفة محدودة باستخدام كلمة الإسلامية من حين لآخر. لقد انتابني الشك بأني بصدد قراءة برنامج حركة سياسية ليبرالية لو أني لم أكن أعرف أدبيات الحركة وأفكارها الكبرى وأيديولوجيتها. لكن ذلك يُسجل للنهضة في أنها باتت قادرة على استثمار جهد نخبة الخبراء في وضع تصور للحكم متجاوزة كافة أشكال التمترس الأيديولوجي التقليدي الذي لا يزال يكبّل حركات سياسية أخرى لا تعوزها الجماهيرية والنضالية والمصداقية وإنما تنقصها التصورات العملية. لقد تضمن البرنامج عدة رسائل مهمة ومطمئنة في نفس الوقت، أولها لمراكز القوى الداخلية التي استولت على الحكم بدون وجه حق ليلة هروب بن علي، في أن التوجهات الكبرى للدولة التي رُسمت بعد فشل التعاضد وتبلورت مع الإصلاح الهيكلي بداية من وسط الثمانينيات في مجالات الاقتصاد والمال والعقار والسياسات الاجتماعية والثقافية والتربوية لا يزال قائما. ثانيها أن الارتباط بالقوى الدولية الأمريكية منها والأروبية والمعاهدات المبرمة معها لاسيما اتفاقية الشراكة الأوروبية والمطالبة بالشريك المتميز والانفتاح على الأسواق العالمية والمحافظة على مصالح المستثمرين الأجانب ومزيد استقطابهم للسوق التونسية لا يزال ثابتا. لكن الرسالة المهمة التي من المفترض أن يتضمنها البرنامج ولم تصدر تهم الشعب الذي ثار وأسقط بن علي وبعض زبانيته، رسالة كان يجب أن تكون واضحة لا لبس فيها ولا غبار عليها، رسالة مضمونها استرجاع الدولة لمؤسساتها ولأملاكها المنهوبة ولدورها في تسيير الشأن العام وإدارة القطاعات الحيوية والإستراتيجية وعدم التلاعب بها، وذلك بعد أن بيعت تلك المؤسسات بالمزاد العلني بأبخس الأثمان ونهبت وسرقت وسُلبت لفائدة رأس المال العالمي والمحلي المافيوي والعائلي، وقد وصل الأمر إلى حد التفويت في الأراضي والجبال والبحار والشواطئ، لقد باتت الدولة مجرد ديكور سياسي لا أكثر في ظل سياسة الاقتراض وتسديد الدين التي انتهجتها في السنوات الأخيرة. وما لم تسترجع الدولة دورها السيادي في المجال الاقتصادي والعقاري والمالي فإن أداءها السياسي سيبقى مجرد تنفيذ سياسات مملاة ولن تحظى بثقة المجتمع فيها ولن تكون تعبيرته السياسية التي تمثّله.

الخميس، 3 نوفمبر 2011

وفي آخر المطاف.. هل هناك حلّ؟ منصف المرزوقي

وفي آخر المطاف.. هل هناك حلّ؟   27/01/2010
منصف المرزوقي

في كتابه "البقاء إبّان الأزمات" يستنتج جاك أتالي من استشراف المستقبل أنه زاهر بالنسبة لشعوب آسيا، لكن الأربعمائة مليون عربي سيتدنى مستواهم في كل المجالات إلى ما تحت المعدل العالمي وسيبقون خارج التاريخ.
كم غريب وصولنا لهذه الحالة ونحن نجري منذ النهضة وراء حلّ الإشكالية المزمنة: كيف نردم الهوة بيننا وبين الغرب وكيف الخروج من تخلف انجرّ عنه داخليا الجهل والظلم والفقر والعقم الحضاري وخارجيا التبعية؟
لنستعرض ما جربنا لحدّ الآن -أو حاولنا تجريبه- من حلول.
- الحلّ الوطني: منطلقه تقديس الأرض المطوقة بحدود خيالية رسمتها صدف التاريخ وتعظيم كائن خيالي اسمه الشعب واعتبار بناء دولته المستقلة الطريق لإخراجه من الظلمات إلى النور، كل هذا بقيادة نخبة مختارة من أبنائه هم الوطنيون أي الأوصياء الذين كلفهم التاريخ بتخليص الشعب من براثن الاحتلال الخارجي والسهر على قيادته وتربيته وتنميته.
- الحلّ القومي: منطلقه تقديس الأرض التي تمتد من المحيط إلى الخليج وتعظيم الأمة العربية واعتبار بناء دولتها المتحدة الطريق لإخراجها من الظلمات إلى النور، كل هذا بقيادة نخبة مختارة من أبنائها هم القوميون أي الأوصياء الذين كلفهم التاريخ بتوحيد الأمة وقيادتها وتربيتها وتنميتها فتعود لأولى الأماكن.
- الحلّ الشيوعي: رغم أنه لم يجرب عندنا، فإنه يجب تذكّر الأفواج الهائلة من الشباب العربي التي احترقت لتحقيقه. المنطلق تقديس الطبقة العاملة حاملة مشعل التاريخ واعتبار بناء دولة العمال والفلاحين، الطريق لإخراج المجتمع من الظلمات إلى النور، كل هذا بقيادة نخبة مختارة من أبنائها هم الثوريون أي الأوصياء الذين كلفهم التاريخ بتخليصها من براثن الإقطاع والإمبريالية.
كلنا نعرف النتيجة اليوم. لم يكن الاستقلال إلا سرابا. تعمقت التبعية. انقلب الوطنيون إلى محتلين داخليين لا يتورعون عن أبشع أصناف العنف للحفاظ على امتيازات مشينة. عامل المحررون الشعب كقطعان ماشية تورّث من الأب للابن. كان أداؤهم في ميدان التنمية الشاملة هزيلا. أضاف القوميون لموبقات الوطنيين تهشيم البلد الواحد. ساهموا في تكريه شعوبنا في بعضها البعض. أما فشل الشيوعيين فقد ثبت لحسن الحظ في بلدان غير بلداننا وديكتاتورية البروليتاريا تنقلب لديكتاتورية على البروليتاريا، مؤدية لانهيار شامل لدول خلناها أبدية.
ما الذي حدث لأحلام آبائنا وأجدادنا وكيف انقلبت للكوابيس التي نعرف؟
***
إن أكبر أسباب فعالية الطب –والعلم بصفة عامة- قدرته على التعلم من أخطائه خلافا للسياسة التي تكرّر نفس الأخطاء. لكن لنتصوّر أن كبار القادة الإسلاميين كلّفوا أكبر مثقف إسلامي بدراسة معمقة حول أسباب فشل الحلول الوطنية والقومية والشيوعية ثم بالبحث في أسباب نجاح الأمم المتقدمة وإصدار توصيات تقي المشروع الإسلامي من عثرات السابقين.
مؤكّد أنه سيكشف بسهولة العشرة قواسم مشتركة التي تفسّر هذا الفشل وهي أفكار مسمومة بذرت باكرا في العقول مواقف وتصرفات قادت إلى التهلكة.
1- سطحية تحليل أزمة المجتمع بالتركيز على عامل واحد كسبب كل المصائب ( الاستعمار، التجزئة، الطبقية) واتهامه بما فيه حقا، لكن أيضا بما لا يتحمّل والحال أن مشاكله نتيجة شبكة سببية معقدة تتداخل فيها العوامل البيئية والثقافية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية.
2- الإيمان بوجود وصفة تستند على حقيقة مطلقة، يملكها الطرف المعني دون الجماعات السياسية الأخرى التي أفرزها نفس المجتمع ومن ثم حق مجموعة ضيقة في تحديد برنامج الخلاص وحسب رؤيتها هي لا غير.
3- فرض الوصاية على المجتمع من منطلق أن الحزب القائد والزعيم الملهم والدولة العتيدة هم الوطن أو الأمة والمستقبل، ومن ثم جعلهم مسؤولين عن المجتمع لا مسؤولين أمامه... والموقف غطاء سهل على ما يعتمل داخل النفوس من جشع وظلم ونرجسية وتسلّط.
4- إساءة تقدير صعوبة التغيير وطول مدته وحدود الإرادة الفردية.
5- قطع خطّ الرجعة على النفس بمنع التقييم الذاتي والتعلّم من نقد الآخرين لأن من يملك الحقيقة المطلقة لا يخطئ.
6- تخريب الدولة بفعل قانون الاصطفاء العكسي، فخلافا للطبيعة التي تكافئ أحسن التصرفات، يصطفي الاستبداد أسوأها لأن من طبيعة المستبدّ إزاحة كل منافس كفؤ، وجعل الوفاء له -أو ادعائه– قاعدة اختيار أعوانه. هكذا يزاح الأكفاء لصالح المتملقين والانتهازيين. وهؤلاء يفعلون نفس الشيء عند وصولهم الحكم. وعلى منوالهم يسير المكلفون بالأنظمة الاجتماعية الكبرى كالتعليم والصحة والأمن، فتنتشر من القمة إلى القاعدة المواقف والتصرفات السلبية التي تؤدي إلى ضعف أداء هذه الأنظمة الحيوية. كل هذا بجانب الثمن الباهظ للقمع والثمن الأغلى لشلّ الطاقات الخلاقة.
7- انتشار الفساد الناجم عن طول الاستئثار بسلطة مطلقة ولا مسؤولة ومن أخطر مضاعفاته ضرب قيم النزاهة والاجتهاد والثقة بالعدالة وكلها من شروط المجتمع السليم.
8- الاستماتة في كسر مقاومة الواقع واحتجاج المجتمع على هزال النتائج بالإنكار في الفكر والعنف في الممارسة فلا يزداد الطين إلا بلة.
9- اعتماد تزييف الأفكار والقيم والمؤسسات والأشخاص كآخر حيلة للتغطية على فشل تام أصبح من المستحيل تداركه، فتتفاقم مشاكل المجتمع وهو يتخبط في واقع زاد غموضه بالأساطير والأكاذيب.
10- الرفض إلى النهاية لبديهيات تعمي الأبصار وأهمها. إنه لا تقدم دون تقييم أي دون حرية النقد أي دون الحرية.. إن تكبيل طاقات المجتمع المدني بالقيود يفاقم ضعف المجتمع والدولة.. إن البطش بالجماعات السياسية المخالفة كقطع اليد لليد الأخرى في محاولة تخليص الجسم من الروماتيزم.. إن الإفلاس آت كالموت لا ريب فيه.
***
هنا ينتبه مثقفنا أن مشروع "الإسلام السياسي هو الحل" جبة رابعة من لون مختلف لكن على نفس الهيكل العظمي، فكل الخصائص الفكرية والنفسية التي أجهضت المشاريع الوطنية والقومية والشيوعية متواجدة فيه بصفة واضحة أو جنينية، منها سحب قداسة العقيدة على دعاته الذي يظهر في عنف الردّ على كل نقد.
هو يعلم أيضا أن التقييم الموضوعي الوحيد للمشاريع السياسية لا يبنى على بلاغة أصحابها أو صدقهم أو وعودهم وإنما على أفعالهم، وأن عليه تقييم أداء الإسلاميين في الحكم بنفس المنهجية التي طبقها على الحلول الثلاثة. يا للهول وهو يتفحص ثلاث تجارب معاصرة: طالبان والوهابية ونظام الملالي. كيف ينكر شدة قهر النساء والتعصب والجهل في النموذج الأفغاني، وعمق الفساد والقمع والتبعية في النموذج السعودي، وحدة الصراعات داخل نفس المنظومة في إيران إضافة لغليان المجتمع بالثورة ضد الثورة.
قد يحاول البعض طمأنته -أو خداعه- قائلين له: ردّد للناس أن عليهم انتظار تحقيقنا نحن "للإسلام الحقيقي" وسيرون. المشكلة أن مثقفنا النزيه يعرف أنه جواب سخيف والشعوب المتخبطة في أزمات تغرق فيها يوما بعد يوم، حتى لا نقول ساعة بعد ساعة، ليس لها الوقت لانتظار تمكن الإسلاميين "الحقيقيين" لإعلاء راية الإسلام "الصحيح"، خاصة وأن تعريفه موضوع صراع متواصل منذ معركة الجمل وسيتواصل إلى يوم يبعثون.
لقائل أن يسرّ في أذنه: لا تترك هذا العلماني المغرض يحبطك، ذكّر بالنموذج التركي. نعم لينظر له مليا وسيكتشف أن نجاحه نتيجة تباينه مع فكر وممارسات أغلب الحركات الإسلامية "العادية".
***
المهم بقية البحث أي أسباب نجاح القادمين الجدد ومنهم تركيا والهند وماليزيا وكوريا وكلها بلدان انطلقت نحو القمم من وضع أصعب بكثير من وضعنا، ناهيك عن تواصل صعود خصومنا الأزليين.
لن يجد صعوبة في فهم سرّ نجاح الأوروبيين.
هم أربعمائة مليون نسمة يسكنون على مرمى حجر منا، لكنهم أغنياء، متعلمون، أحرار ومتحدون، ونحن أربعمائة مليون عربي نسكن على مرمى حجر منهم، لكننا فقراء جهلة مستعبدون ومتفرقون.
بديهي أن قاسمنا المشترك الاستبداد وقاسمهم المشترك ديمقراطية حررتهم ومكنتهم من بناء اتحادهم.
هو يستطيع الآن أن ينظر لتجربة أميركا، الناجح الآخر، ليجد داخل شبكة الأسباب: الجشع الليبرالي+ الإمبريالية إلخ ... لكن بخصوص ما يهمنا تقديس العلم والعمل.
لينظر الآن نحو الهند وتايوان وماليزيا والصين وكوريا الجنوبية وسيكتشف مع الباحثين سرّا أقلق الغربيين كثيرا لأنه ينذر بنهاية سيطرة دامت خمسة قرون.
القاسم المشترك بين كل هذه الدول -واليابان قبلها بقرن- سياسة التعليم فالتعليم ثم التعليم عشرون سنة على الأقل قبل الإقلاع الاقتصادي المذهل.
يا للفرق الهائل بين نسب الأمية ومستوى الجامعات والبحث العلمي عندهم وعندنا وذلك بعد نصف قرن من انتصاب دولهم التي استثمرت أين يجب الاستثمار ودولنا التي أهدرت مواردنا القليلة في الفساد والتسلح العبثي والأجهزة "الأمنية".
لنتصور الآن فحوى تقرير في ظرف مختوم بالشمع الأحمر كتب عليه سرّي للغاية، سيجده على مكتبهم ذات صباح زعماء الحركات الإسلامية في المشرق والمغرب.
حتى يكون الحل الإسلامي بديلا لا تكرارا.لفشل الوطنيين والقوميين والشيوعيين أسباب كثيرة لكن أولها الاستبداد. لنجاح الغربيين أسباب عدة لكن الديمقراطية قطعة أساسية من المحرّك الذي رفعهم إلى الأعالي. لذلك يجب أن نكون ألدّ أعداء الاستبداد أيا كان غلافه العقائدي خاصة إذا كان إسلاميا ولتكن أولى أولوياتنا تقويض صرح الاستبداد الحالي بالتنسيق مع كل القوى المناهضة له ومشاركتها من موقع نسعى ليكون متميزا بعطائه، في عملية بناء دولة ديمقراطية حقيقية.
يتطلب هذا ثورة ذهنية تمرّ بالتخلي عن الإيمان بامتلاكنا الحقيقة المطلقة وسحب قداسة الإسلام على أحزابنا وتطليق الاستبداد في الفكر وتطليقه أيضا في مواقفنا من الحركات السياسية الأخرى باعتبارها ظاهرة طبيعية تترجم للتعددية الوطنية وتملك مثلنا جزءا من الحقيقة ومن الخطأ وتقديم الوفاق السياسي معها على الخلاف العقائدي.
أما بخصوص نجاح القادمين الجدد فإنه يتبيّن أن صعود الهنود والكوريين ليس نتيجة تطبيق الهندوسية أو البوذية "الحقيقية"، مثلما لم يكن صعود الغربيين نتيجة تطبيق "المسيحية الحقيقية".
كل هذا يفنّد جدية الوعد بأن تطبيق "الإسلام الحقيقي" يوما ما بقيادة أحزاب دينية هو الطريق. خلافا لهذا التوجه الفارغ من كل مضمون عملي، يجب من جهة التركيز على الإسلام كمحور الهوية الجماعية وخزان القيم والدعامة الروحية للأمة وعدم إقحامه في الصراعات السياسية وهي صراعات بشر ضد بشر، ومن جهة أخرى حث الإسلاميين على حلّ مشاكل الناس اليومية فهذه المعادلة هي التي ساهمت في إنجاح تجربة تركية يجب ألا تبقى الشاذة التي تحصى وإنما القاعدة التي يقاس عليها.
ثبت لنا أيضا أن سرّ نجاح الأمم الصاعدة هو جعلها التربية أولوية الأولويات. لذلك يجب أن ندفع الدولة الديمقراطية التي سنشارك في صنعها أن تكون أولويات الأولويات التعليم والتعليم والتعليم والتعليم والتعليم والتعليم والتعليم والتعليم والتعليم والتعليم، كما يجب أن نتميز بتشجيع كل القيم والمؤسسات التي تعيد للعلم والعمل مكانتهما المركزية في المجتمع.
وفي آخر المطاف فإنه لا أحد يعرف "الحلّ" بمعنى الوصفة الكاملة والنهائية للتعامل مع مشاكل بخطورة وتعقيد التي تعرفها كل المجتمعات، بل ومن الأرجح أن المفهوم أسطورة عقيمة. إن المطلوب للتعامل الأسلم معها عقلية علمية عملية متواضعة، تقدّر حق قدره تعقيد الواقع، تبحث وتقيم وتحسّن باستمرار لخلق التراكمات الكفيلة بتذليل صعوبات تغير طبيعتها ولا تنتهي. لكن حتى هذه المنهجية عاجزة عن التأثير بعمق إن لم يجعل دعاتها القيم رائدهم لأن سيد القوم ليس من يعطي الأوامر وإنما من يعطي المثل وبالتالي نكون قدوة أو لا نكون.
***
من خبر البشر عموما والعقائديين خصوصا لا يخالجه الشك أن أغلبية متلقي التقرير سيرمونه في سلة المهملات ومنهم من سيكفّر صاحبه وقّلة ستعيد قراءته. هل لا فائدة إذن في البحث عن أي علاج وقد استعصى المرض على الدواء والنطاسي؟ هل يصدق جاك أتالي الذي تنبأ بأن التاريخ أسقطنا من حساباته وكأنه يئس منّا نهائيا؟
ما نسيه هذا المحلل قانون المؤرخ الشهير توينبي: التحديات الكبرى هي التي تصنع الأمم الكبرى. نسي خاصة أننا كائنات حية يتدفق في عروقها زخم الحياة وعنادها.
عناد الحياة هذا هو الذي يجعلنا لن نكفّ لحظة عن البحث عن حلول، ننهض بعد كل كبوة ونواصل الطريق مهما طال وتشعب ودمت عليه أقدامنا. حقا سيضيّع الجزء المتخلف من الإسلاميين وقتهم ووقت الأمة وقد يكلفونها ثمنا باهظا في تكرار الفشل، لكن الجزء الذكي منهم بادر وسيبادر أكثر فأكثر لتحديث المفاهيم والممارسات، كما فعل وسيفعل الجزء الذكي من الوطنيين والقوميين والاشتراكيين.
الأهم من هذا كله أن المجتمعات هذه الكائنات الحية الذكية –والتي لا يعكس نقاشنا الثري إلا تنامي وعيها– لن تنتظر "الحل" من المفكرين والسياسيين فقط وهم مجرد إفرازاتها في أعلى المستويات. هي ستبحث على صعيد الأشخاص والجماعات عن حلول جزئية بغض النظر عما يعتمل في صلب الدولة. ومن هذا الزخم الجبار ستبرز حلول مزدوجة وأخرى لم يتوقعها أحد.
أمة لها خمسة عشر قرنا من العمر ومعدل عمر أطفالها 22 سنة هي أمة لها حكمة الشيوخ وعنفوانية الشباب. لنثق فيها وفي أنفسنا وفي الله الذي حبانا بنعمة العقل ولنواصل سعينا نحو الأجمل والأرقى والأكثر حرية وإنسانية لنكون جديرين بمستقبلنا وليس فقط بماضينا.

الأحد، 30 أكتوبر 2011

الاستعمار الثقافي و الفكري : المارد الخفيّ

الاستعمار الثقافي و الفكري : المارد الخفيّ
بقلم يوسف بلحاج رحومة
مقال صدر بجريدة صوت الشعب، العدد 21، الخميس 27 أكتوبر 2011
بعد الحرب العالميّة الثانية تحرّرت عديد الشعوب من الاستعمار، إلاّ أن المستعمِر  و إن رحل  عسكريّا و إداريّا فهو قد  فرض بدائل استعماريّة صُمّمت لتكون  وسائل للسيطرة وفرض التَّبعيَّة، و لعلّ أخطر هذه البدائل و أشدّها تدميرا "الاستعمار الثقافيّ" أو "الإمبرياليّة الثقافيّة". و لتحقيق أهدافه وضع المستعمِر مجموعة من الآليات و البرامج الممنهجة و استعان بأطراف عميلة من ديكتاتوريات موالية و إعلاميين و مثقّفين.
الاستعمار الثقافيّ لا يقلّ خطورة عن الاستعمار العسكريّ باعتباره يحتلّ العقل الإنساني و ييسّر آليات الإخضاع الداخليّ و يؤدي إلى الضعف الذاتي وتخريب المناعة، بالتالي يضمن المستعمِر هيمنته على الشعوب و نهب خيراتها و عرقلة مشاريعها التّنمويّة الشاملة. فالمستعمر يسعى إلى تحطيم كرامة الشعوب و تدمير تراثها الحضاري و الثقافي وفرض ثقافة الاستعمار على أنها الثّقافة الوحيدة القادرة على نقل البلاد المستعمَرةِ إلى مرحلة الحضارة، فتعمّ الرداءة و الضعف و التشتت في جميع المجالات حتى الاقتصاديّة منها، و يصل الأمر إلى درجة أن يتحوّل العامّة أو حتّى النخبة إلى مدافعين عن الإمبرياليّة و الليبرالية المتوحّشة و الإقرار بأنّها الخيارات المثلى التي لا بديل لها رغم ما تسبّبه من مآسي و انهيارات اجتماعيّة و مكبّلات تعيق التنمية الشاملة و الحقيقيّة. حتّى أنّ اقتصادات الدّول المستهدفة تصبح موجّهةً نحو استهلاك منتجات المستعمِر و تلبية حاجياته من موادّ أوّلية و يد عاملة رخيصة و ذليلة.
هل تونس معنيّة بهذا الاستعمار ؟
 لا يمكن أن نستثني تونس من ضحايا هذا الاستعمار الّذي بلغ ذروته في عهد نظام بن علي، هذا النظام الّذي فرض الرداءة على جميع المجالات و لعب دور البطولة في تقييد العقول و تضييق مجالات التفكير و حصرها  بطريقة موجّهة، فارضا حالة من الخمول و اليأس و التغريب، مستعينا بسيطرته الكلّية على قطاعات إستراتيجية مثل الإعلام و الثقافة، فالإعلام لم يكن إعلاما بل كان بوقا لتمجيد و تزيين الحاكم و سياساته و تثمين كلّ ما من شأنه أن يضمن بقاء النظام و يخدم مصالحه و مصالح المقرّبين منه، في المقابل يسعى هذا الإعلام إلى شيطنة كلّ ما من شأنه أن يمسّ من ألوهيّة النظام و يعكّر صفو عمل الأطراف الناهبة لخيرات البلاد من دوائر احتكاريّة داخليّة أو دوائر امبرياليّة خارجيّة، و هذه الرداءة و هذا الاحتكار كانا يسبّبان الصداع و الاضطراب و سوء التركيز  لكلّ من تأمره نفسه بالسعي نحو تقديم عمل فكريّ أو إعلاميّ حرّ و موضوعيّ  و تقدّميّ، و لو تجرّأ على ذلك يتّهم بالتطرّف و الهمجيّة و يوصف باللا وطنيّة و المتآمر على أمن البلاد و المعرقل لمسيرتها التنمويّة. أمّا الثقافة و الفكر فلقد تحوّلا إلى مجرّد بلادة و تهريج، فمن يبدع أكثر في الرداءة و تجميد العقول و تشتيتها  و خدمة مصالح الحاكم و الأطراف الناهبة و المفسدة في البلاد، يتمتّع بالدّعم و التبجيل و الهالة الإعلامية، حتّى أنّ الرداءة أصبحت فنّا منظّما له مؤسّساته و مبدعوه.
ماذا بعد 14 جانفي  2011 ؟
المتابع للرأي العامّ و نشاط الأحزاب ووسائل الإعلام بعد 14 جانفي 2011  يلاحظ تهميشا شبه كلّي لقضيّة الاستعمار الثقافيّ و الفكريّ  و كأنّها غير موجودة، بل أنّ مواضيع جانبيّة مثل الحجاب و النقاب حضت باهتمام أكبر، و عديد الأطراف الّتي تدّعي أكاديميّتها و نخبويّتها لم تتناول هذا الموضوع و لم تشر إليه، بل هي في حدّ ذاتها أصبحت من ضحايا هذا الاستعمار الّذي يضرب العقول و الأذهان بحيث يعجز الفرد عن تشخيص حالته، و ينتابه شعور خفيّ بأنّه غير معنيّ بهذا الأمر، و يصبح منساقا في لا وعي نحو تمجيد سياسات الغرب الإمبرياليّة و الدعوة لتبنّيها و الإقرار بأنّها الحلول المثلى للرقيّ و التقدّم، فمجالات التفكير و النقاش و البحث عن الحلول و رسم البرامج اكتست طابعا أحاديّا منحازا نحو تطبيق ما رسمه الغرب في العقول و الأذهان على أنّه طريق النجاح الوحيد الّذي لا بديل له، فكلّ ما هو غربيّ يعتبر إيجابيّا و تقدّميّا أمّا غير ذلك فهو تطرّف و طريق نحو الفشل، فتجد الأمّة نفسها تخدم لاشعوريّا مصالح الغرب الإمبريالي و المشاريع الصهيونيّة.
عملاء السياسة الأمريكوصهيونيّة : حقيقة أم وهم ؟
بعد هروب بن علي، تغيرت الأثواب و لم تتغيّر الاتجاهات و البرامج الإستراتيجيّة، فالإعلام واصل خدمة المصالح السياسيّة الضيّقة و مصالح الدوائر الرأسماليّة و الامبرياليّة، و لا يحتاج التونسيّ إلى عبقريّة ليكتشف حقيقة عملاء المشاريع الأمريكوصهيونيّة  من سياسيّين وإعلاميين و مفكّرين و مثقّفين و جمعيّات متنكّرة بأسماء جميلة و متمتّعة بتمويلات مشبوهة ، فبرنامجهم السيطرة على العقول و توجيه الميولات الشعبيّة العامّة نحو الحفاظ على السياسات التي كانت قائمة حتى وان سقط النظام وهرب الرئيس، إضافة إلى  إدخال البلاد في صراعات إيديولوجية عقيمة وجوفاء الغاية منها إلهاء الرأي العام عن القضايا و المطالب الشعبيّة الحقيقيّة الّتي قامت من أجلها الثورة وإفقاد الشعب قدرته على مجابهة القوى الاستعمارية المتغلغلة في العقول وفي السياسة، كما تسعى هذه الأطراف العميلة  إلى خلق هوة بين المرء وواقعه و بالتالي يشعر بالغربة والوحشة والانخلاع والانسلاخ، واللا إنتماء. و هذه المخطّطات محورها خدمة الإمبرياليّة و الحفاظ على إسرائيل و دعم مخطّطاتها الصهيونيّة القريبة و البعيدة المدى.   
إنّ سياسات التغريب و السيطرة على العقول و تشتيتها، و سياسات التجويع الممنهجة وإبقاء الشعب لهّاثا خلف الرغيف، حقيقة تقف وراءها قوى أمريكوصهيونيّة تجمعها مصالح امبرياليّة و عنصريّة معروفة. فرغم صغر حجمها تتمتّع تونس بموقع استراتيجيّ و عمق تاريخيّ و حضاريّ عظيم باعتبارها كانت مهدا لأرقى و أذكى الحضارات، و لو تمكّنت من التحرّر و إرساء  نظام ديمقراطيّ و شعبيّ ستحقّق الرّقي و النجاح السريع  في كلّ المجالات، ممّا جعلها مستهدفة من طرف الدوائر الإمبرياليّة و العنصريّة.  
كيف يمكن التحرّر من هذا الاستعمار ؟
من يتابع نشاط الأحزاب و يتفحّص برامجها يلاحظ تركيزا شبه كلّي على المسألة الاقتصادية، أمّا مسألة الثقافة و الفكر فيقع التلميح إليها بسرعة و كأنّها مسألة جانبيّة، و لم نرى طرحا جدّيا لموضوع الاستعمار الفكري باعتباره من أهمّ المكبّلات الّتي تعرقل وضع أحسن البرامج و تطبيقها واستساغتها، فلا معنى للبرامج ما دامت العقول مكبّلة و مسيطر عليها. و على الأحزاب السياسيّة طرح المسألة بجدّية و إعطاءها حيّزا مهمّا يتماشى مع خطورتها.أمّا وسائل الإعلام فلم تتناول الموضوع بجدّية وارتمت مباشرة في تناول القضايا و المسائل دون التنبّه إلي أنّ البرامج و النقاشات لا فائدة منها ما دام الفكر الاستعماري متغلغلا في العقول. و على الإعلام النزيه و المثقفين و المفكرين الحقيقيين القيام بدورهم التاريخي في هذه الفترة الحسّاسة لتحرير العقول حتّى تنهض البلاد على أسس متينة و سليمة.  
يوسف بلحاج رحومة

كيف لشعبٍ لا يعتز بلغته وثقافته وهويته ولا يدعمها فيهمشها ويتناساها و يكتفي بالانسياق أن يعلو بمكانته في عيون غيره..
هكذا تصدر اللغة وتصدر الثقافة ..   http://www.facebook.com/photo.php?v=188316301248186