بقلم / د. سليم محمد الزعنون
د. معمر فيصل الخولي
يصادف الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني 2011 الذكرى السنوية الرابعة والتسعين لـ 'وعد بلفور 1917'، وما تضمنه من وضع الأسس لقيام وطن قومي لليهود في فلسطين؛ وشكل مدخلاً إلى النكبة الفلسطينية في الخامس عشر من مايو 1948 وما نتج عنها من تداعيات كان لها انعكاساتها من حيث مفاعيلها على الشعب الفلسطيني بشكل خاص والمنطقة بشكل عام، غير أن وعد بلفور 1917 لا يشكل البداية لفكرة الوطن القومي لليهود في فلسطين؛ فقد يكون 'آرثر بلفور' مهندس الفكرة ومجسدها السياسي؛ ولكن هذا لايعني أن أفكاره ورؤاه كانت جديدة فقد سبقه الكثيرون الذين وضعوا وطوروا تلك الأفكار قبل ذلك بثلاثة قرون, في هذا السياق فإن فكرة انشائه تضرب بجذورها في القرن السادس عشر الميلادي؛ حيث تبلورت في إطار ما سمي بـ 'الصهيونية المسيحية' التي وضعت المقدمات الحقيقية لظهور الصهيونية بوصفها مجموعة من المعتقدات المنتشرة بين غير اليهود والتي تؤيد قيام دولة قومية يهودية في فلسطين.
أولاً / الصهيونية المسيحية
يطلق مسمى الصهيونية المسيحية على معتقد جماعة من المسيحيين المنحدرين غالباً من الكنائس البروتستانتية الأصولية والتي تؤمن بأن قيام دولة إسرائيل عام 1948 كان ضرورة حتمية بوصفها تتمم نبؤات الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد وتشكل المقدمة لمجيء المسيح إلى الأرض كملكٍ منتصر، ويَعتقد الصهاينة المسيحيون أن من واجبهم الدفاع عن الشعب اليهودي بشكل عام وعن الدولة العبرية بشكل خاص، ويعارضون أي نقد أو معارضة لدولة إسرائيل.
ثانياً / السياق التاريخي للصهيونية المسيحية.
لا يمكن عزل مفهوم الصهيونية المسيحية عن التحولات الاجتماعية والاقتصادية والتطورات السياسية التي حصلت في أوروبا في القرنين السادس والسابع عشر, عصر التجارة والإكتشافات الجغرافية وعصر الاستعمار التجاري ' المركنتلي'؛ ووصلت إلى ذروتها في نهاية القرن التاسع عشر.
قام الفكر الكنسي الكاثوليكي في القرون الوسطى على الفصل بين العبرانيين القدامى و بين اليهود المعاصرين, وكانت فلسطين بنظر الكنيسة الكاثوليكية تعتبر أساس الوطن المقدس للمسيحيين، نظراً لذلك لم تنظر لليهود على أنهم الشعب المختار الذي قدر له أن يعود إلى الأرض المقدسة, ووفقاً للعقيدة الكاثوليكية لا يوجد لليهود مستقبل جماعي؛ من منطلق أنهم ارتكبوا إثماً فطردهم الله إلى منفاهم في بابل وعندما أنكروا أن عيسى هو المسيح المنتظر نفاهم ثانية وبذلك انتهى وجود ما يسمى ' بالأمة اليهودية' إلى الأبد.
1- المملكة المتحدة 'بريطانبا'
في القرنين الرابع والخامس عشر بدأت الاحتجاجات ضد الكنيسة الكاثوليكية التي كانت على قمة الهرم الإقطاعي والبابا الديكتاتور المطلق؛ وفي القرن السادس عشر تمكن الشعب الانجليزي من الانفصال عن الكنيسة الكاثوليكية، والانتقال إلى المذهب البروتستانتي، وبمرور الوقت تمكن ساسة انجلترا من نشر المذهب البروتستاني بالقوة في كل من اسكتلندا، والجزء الشمالي من إيرلندا، وبذلك أصبحت بريطانيا المكونة من 'إنكلترا واسكتلندا وشمال إيرلندا' أقوى دولة بروتستانتية في غرب أوربا.
لقد اعتمدت الكنيسة البروتستانتية على إحياء العهد القديم 'التوراه' بوصفه يمثل أساس المسيحية وجعلت الكتاب المقدس هو المرجعية بدلاً من تفسيرات الكنيسة الكاثوليكية؛ وأعادت الاعتبار للغة العبرية من منطلق أنها لغة الكتاب المقدسة؛ واستخدمتها كلغة للصلاة في الكنائس البيوريتانية 'طائفة من البروتستانتية '، وصارت ذكرى قيام المسيح يوم السبت بدلاً من يوم الأحد.
وقد جاءت البيوريتانية في القرن السابع عشر في بريطانيا لتعلن تمسكها بالعهد القديم وحده متجاهلة العهد الجديد؛ وتقديسهم للعهد القديم دفعهم إلى تحسين العلاقة مع اليهود بوصفهم أبناء الرب وشعب الله المختار، نظراً لذلك تبنوا فكرة إعادة أبناء الرب إلى وطنهم 'فلسطين' كمقدمة لعودة المسيح؛ ثم انتشرت هذه الفكرة 'عودة المسيح' في أنحاء أوروبا المسيحية وارتبطت بضرورة إعادة اليهود أولاً إلى أرضهم 'فلسطين'.
لقد أدى إيمان البروتستانتية المطلق بأفكار التوراه إلى وجود فكر يربط بين الديني والسياسي وبين مجيئ المسيح وإقامة دولة يهودية، ففي عام 1615 طالب البرلماني 'السير هنري فينش' حكومة بلاده بدعم اليهود ليرجعوا لأرض الموعد قائلاً ' ليس اليهود قلة مبعثرة، بل أنهم أمة، ستعود أمة اليهود إلى وطنها، وستعمر كل زوايا الأرض وسيعيش اليهود بسلام في وطنهم إلى الأبد'؛ وفي عام 1649م رفع اثنان من علماء الأديان الإنجليز خطاباً إلى حكومتهم جاء فيه : ' ليكن شعب إنجلترا أول من يحمل أبناء إسرائيل على سفنهم إلى الأرض التي وعد بها أجدادهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب لتكون إرثهم الأبدي'.
وقد تجسدت الصهيونية المسيحية في بعدها السياسي الأيديولوجي للمرة الأولى في بريطانيا عام 1655 عندما دعا 'أوليفر كرومويل' رئيس المحفل البوريتاني لعقد مؤتمر يسمح لليهود بالعودة للسكن والإقامة في المملكة 'فلسطين'؛ بعدما تم نفيهم منها بقرار من الملك إدوارد الأول عام 1290.
كما برز في القرن التاسع عشر العديد من الشخصيات تدعو للصهيونية المسيحية مثل 'جون نلسون داربي' و'القس لويس واي' بحيث اصبحت الجمعية التي يترأسها الأخير أهم منبر للتعبير عن أفكار الصهيونية المسيحية بما في ذلك الدعوة لعودة اليهود إلى فلسطين؛ اضافة إلى البرلماني البريطاني 'هنري دارموند' الذي ترك الحياة السياسية بعد زيارته الأراضي المقدسة ليكرس بقية حياته لتعليم المسيحية بنسختها الأصولية وليدعوا لعودة اليهود إلى فلسطين؛ وايضاً 'القس ويليام هشلر' الذي قام بتنظيم عمليات نقل المهاجرين اليهود الروس إلى فلسطين؛ ونشر كتاباً عام 1894 بعنوان 'عودة اليهود إلى فلسطين' اعتبر فيه أن العودة تجسد تحقيقاً لنبوءات وردت في العهد القديم، وأخيراً من أشهر السياسيين البريطانيين اللورد 'آرثر بلفور' مهندس وعد بلفور1917.
2- الولايات المتحدة الأمريكية
مع بدايات القرن التاسع عشر ولذات الاعتبارات الدينية مثلت الكنيسة البروتستانتية في الولايات المتحدة الداعم الأكبر لمشروع الوطن القومي لليهود في فلسطين، بوصفها تشكل أكبر الطوائف المسيحية 65% مقارنة بالكاثوليك 30%، ولاقت أفكار المذهب البروتستانتي رواجاً في الولايات المتحدة بفضل جهود لاهوتيين بروتستانت مثل 'دوايت مودي' و'سايروس سكوفيلد' و'ويليام بلاكستون'، حيث روج 'ويليام بلاكستون' في كتابه ' يسوع قادم' عام 1878 لفكرة عودة المسيح والحياة الألفية السعيدة، وذلك يستدعي قيام دولة اليهود الممهدة لذلك؛ وكتب 'سايروس سكوفيلد' حول الحرب الكونية على الأشرار، ولكنه جعلها حرباً نووية مدمرة 'هرمجدون' بين اليهود وأعدائهم من المسلمين والكفار.
أنشأ القس 'جيري فالويل' في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1979 'منظمة الأغلبية الأخلاقية'، التي تضم لجان سياسية لمسيحيين ذوي توجهات محافظة، وينص أحد المبادئ الأربعة التأسيسية للمنظمة على 'دعم إسرائيل والشعب اليهودي في كل مكان'، وقد عبرت تصريحات 'جيري فالويل' عن البعد الديني في العلاقة مع اسرائيل قائلا 'إن من يؤمن بالكتاب المقدس حقاً يرى المسيحية ودولة إسرائيل الحديثة مترابطتين على نحو لا ينفصم، إن إعادة إنشاء دولة إسرائيل عام 1948 لهي في نظر كل مسيحي يؤمن بالكتاب المقدس تحقيق لنبوءات العهدين القديم والجديد'.
أعطى قيام دولة إسرائيل عام 1948 زخماً قوياً لمتبني الصهيونية المسيحية في الولايات المتحدة، كما أن حرب حزيران عام 1967 كانت بالنسبة لهم أشبه بمعجزة إلهية تمكن فيها اليهود من دحر عدة جيوش عربية مجتمعة في آن واحد وأحكمت خلالها الدولة العبرية سيطرتها على بقية أراضي فلسطين التاريخية خصوصاً القدس الشرقية والمواقع الدينية التي تحتضنها؛ ويعتبر البروتستانت أنه باحتلال إسرائيل للقدس والضفة الغربية تحققت نبوءة الكتاب المقدس.
في عام 1989حل 'جيري فالويل' منظمة الأغلبية الأخلاقية لكن المسيحيين المحافظين حافظوا على دورهم كداعمين لإسرائيل رغم افتقارهم لوجود مؤسسة قوية رسمية لدعم الدولة العبرية بقوة؛ ولتأطير هذا الدعم أسس الصهاينة المسيحيين في الولايات المتحدة عدة مؤسسات هدفها المعلن التشجيع على مساندة إسرائيل، أبرزها 'مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل' وصفها القس 'جون هاجي' بالنسخة المسيحية من أيباك، ومؤسسات أخرى مثل 'مؤتمر القيادة المسيحية الوطني من أجل إسرائيل' و'ائتلاف الوحدة من أجل إسرائيل' و'السفارة المسيحية العالمية في أورشليم' وغيرها.
منذ ثمانينات القرن الماضي سيطر اليمين المسيحي المحافظ على الحزب الجمهوري منذ 'جيمي كارتر' و'رونالد ريغن' و'جورج بوش الأب' وصولاً إلى 'جورج بوش الإبن'، بما تشكل التحالف الجمهوري الجديد بين ' الصهيونية المسيحية '
ثالثاً / الانتاج الفكري والأدبي في خدمة الصهيونية المسيحية
منذ القرن السادس عشر بدت سيطرة البعد الديني واضحة في انتاج الغرب الفكري والأدبي والفلسفي؛ والقى بكل قيم الصهيونية المسيحية في معادلة فلسطين اليهودية؛ فكتب 'ميلتون' قصيدته الشهيرة ' الفردوس السعيدة ' التي تُظهر إيمانه بالعصر الألفي السعيد عن طريق اعادة اليهود إلى فلسطين بتدخل قوة إلهية خارقة؛ ونشر 'هنري فنش' عام 1621 كتابه حول 'البعث العالمي الكبير- أو عودة اليهود ومعهم كل ممالك الأرض إلى دين المسيح'، وجدد 'الكسندر بوب' فكرة المملكة اليهودية في قصيدته ' المسيح'؛ ونشر 'توماس برايتمان' كتابه الذي يدعو إلى إعادة 'الشعب اليهودي' إلى أرض 'آبائه وأجداده' لتحقيق نبوءة الكتاب المقدس؛ وصور 'جاك بوسيه' عام1681 قي كتابه ' دراسة التاريخ العالمي' إسرائيل على إنها الأمة التي تعلو كل الأمم؛ فهي حجر الأساس في تاريخ العالم.
وفي ألمانيا تناول 'هانس ساش' في كتابيه عام 1552 موضوعات عن التاريخ اليهودي؛ وأكدت 'كريستان وايز' نفس الأفكار في كتابها عام 1683؛ وكتب الشاعر 'جوتهلد ابهريم لستنغ' روايته ناتان الحكيم عام 1779 التي تنتقل إلى موطن البطل اليهودي ناتان وتصور الرواية الحملة الصليبية الثالثة وتصور صلاح الدين الأيوبي كمحتل للقدس.
في ذات السياق نلاحظ مناصرة لقضية عودة اليهود إلى فلسطين على أسس دينية في كتابات الفلاسفة 'جوزيف بريستلي'؛ 'جون لوك', 'إسحق نيوتن', 'جوهان جوتغريد وهودر'، 'جان جاك روسو'؛ 'بليز باسكال'؛ 'ايمانويل كانت'؛ 'فخته'، فقد كان جوزيف بريستلي هو أول من تصور بأن فلسطين أرضا ًغير مأهولة بالسكان وتمنى لليهود ' أن يجمعهم و يعيد توظيفهم في وطنهم أرض كنعان و يجعلهم أكثر الأمم شهرة'؛ وقام إسحاق نيوتن بوضع جدول زمني للأحداث التي سوف تؤدي إلى عودة اليهود إلى فلسطين انطلاقاً من نبوءات العهد القديم؛ أما الفيلسوف 'جان جاك رسو' صاحب نظرية 'العقد الاجتماعي' قال 'لن نعرف الدوافع الداخلية لليهود أبداً حتى تكون لهم دولتهم الحرة ومدارسهم وجماعاتهم'، وكتب 'بليز باسكال' ' إن بقاء اليهود 4000 سنة سبب كاف للإ قتناع بأن الله موجود'، ووصف الفيلسوف 'إيمانويل كانت' اليهود بأنهم «الفلسطينيون الذين يعيشون بيننا». وأوجد بعض الفلاسفة الأوروبيين ذرائع لاحتلال فلسطين، إذ يرى الفيلسوف الألماني 'فخته' بأن لا مكان لليهود في أوروبا، وحل مشكلاتهم لا يتم إلا 'باحتلال أرضهم المقدسة ثانية وإعادتهم جميعاً إليها'.
رغم تراجع هذا النوع من الكتابات بداية القرن الثامن عشر الا أنه شهد تصاعداً مع نهاية القرن وبدايات القرن التاسع عشر مع كتاب جيمس بشينو' عودة اليهود – أزمة جميع الأمم' عام 1800.
رابعاً / تزاوج الفكر الديني والمصلحة السياسية
في البداية كان يُنظر لعودة اليهود إلى فلسطين من منطلق ديني بحت من حيث تحقيق النبوءة؛ بما أوجد علاقة بين اليهود وتحقيق الوعد القائم على عودة المسيح المخلص وحلول العصر الألفي السعيد.
وفي القرن السابع عشر بدأت المصلحة السياسية تلقي بثقلها إلى جانب الدين، فتم ربط الأفكار الدينية مع السياسة الواقعية القائمة على الحصول على نفوذ في الشرق الأدنى وتقوية هذا النفوذ تحت شعار الدين، وأصبحت أفكار عودة اليهود تُستغل كستار للمصالح الإستعمارية البريطانية في فلسطين التي ارتبط موقعها بالمتطلبات الأساسية للإمبراطورية، تجسد ذلك فعلياً في مقررات مؤتمر 'وايت هول' الذي دعا اليه 'أوليفر كرومويل' عام 1655 لبحث شرعية عودة اليهود, وتمخض عنه نص القرار' بالسماح لليهود بدخول دولة بروتستانتينية ينبغي ألا يكون قانونياً فحسب بل وأمراً نفعياً '؛ بما يؤشر لبداية توظيف البعد الديني لخدمة البعد السياسي بالإستفادة من اليهود وتوظيفهم في خدمة المصالح البريطانية، وتلخص 'بربارة تخمان' المؤرخة الصهيونية دراستها عن الإرتباط الإنجليزي المبكر بالصهيونية فتقول ' الدين وحده لم يكن كافيا, إذ أن شعور البيورتانيين الغامض والتآخي الروحي مع أبناء إسرائيل وآرائهم المثالية في التسامح وأمالهم الصوفية بالتعجيل بالعصر الألفي السعيد ما كانت لتؤدي إلى نتائج عملية لو لم تتدخل المنفعة السياسية'، ومنذ عهد 'كرومويل' أصبح أي اهتمام بريطاني بفلسطين يعتمد على دافعين متلازمين : دافع الربح تجارياً أو استعمارياً وعسكرياً والدافع الديني.
وفي ذات السياق يمكن تفسير دعوة 'نابليون بونابرت' في آخر القرن الثامن عشر 1799 لعودة اليهود إلى فلسطين وإقامة دولتهم التي منحهم الله إياها؛ فقد أراد بذلك استثمار فكرة إعادة اليهود إلى وطنهم ليستفيد من أموالهم ومن جعل فلسطين دولة يهودية ترعى وتحمي مصالح فرنسا، وفي عام 1860 ظهر كتاب 'أرنست لاهاران' السكرتير الخاص لنابليون بَيَنَ فيه أهمية وجود دولة يهودية في فلسطين وما ستعكسه على المصالح الأوروبية؛ ودعا إلى مساعدة اليهود على إقامة دولة لهم في فلسطين، ورفع شأن اليهود إلى أعلى الدرجات.
لقد مثل القرن التاسع عشر ذروة المطالبة بعودة اليهود إلى وطنهم، حيث كانت المصالح المحرك الأساسي لعصر الإمبرياليات ولكنها بقيت مغلفة بالدين؛ أثراً لذلك سعي 'بالمرستون' وزير الخارجية البريطاني منذ ثلاثينات القرن الماضي من أجل تنفيذ الفكرة، وبذل 'تشارلز تشرشل' مجهوداً كبيراً في أربعينات القرن الماضي لحث شخصيات يهودية لتبني فكرة الوطن القومي في فلسطين، وأجرت شخصيات بريطانية العديد من الاتصالات مع الشخصيات اليهودية لإقناعها بمشروع الدولة اليهودية وطرد العرب منها أمثال 'كلورنس أوليفنت' 1829-1888، و'وليم هشلر' 1845-1931، وصاغ اللورد الانجليزي 'شافتسبيري' في مقاله عام 1839 عبارة 'شعبٌ بلا أرض؛ لأرضٍ بلا شعب'؛ تلك المواقف أسهمت في تجسيد فكرة الصهيونية اليهودية السياسية الرسمية في أواخر القرن التاسع عشر، من خلال المؤتمر الصهيوني اليهودي الأول الذي عقد في بال في سويسرا عام 1897م برئاسة 'تيودور هرتزل'، وفي إطاره تم خلق صلة ما بين أفكار الصهيونية المسيحية والمصالح الإستراتيجية لبريطانيا، وتتابعت مواقف الصهيونية المسيحية لتصل إلى 'آرثر جيمس بلفور' الذي خط اللمسات الأخيرة على المشروع بإستصدار وعد بلفور 1917 الذي يضع الأسس لعودة اليهود لفلسطين كتمهيد لعودة المسيح، وخدمة المصالح البريطانية في المنطقة.
في ذات الإطارت وظفت الولايات المتحدة البعد الديني لخدمة البعد السياسي، بدا ذلك واضحاً في تصريحات السياسين والمفكرين ورجال الدين، في هذا السياق تحدث ' جيري فالويل' بأن 'الله بارك أمريكا لأن أمريكا باركت اليهود. فإذا أرادت هذه الأمة أن ترى حقولها محافظةً على بهائها وإنجازاتها العلمية محافظة على ريادتها وحريتها محمية، فعلى أمريكا أن تبقى واقفة إلى جانب إسرائيل'، وكذلك القس المسيحي 'مايك إيفانز' بقوله 'إن إسرائيل تلعب دوراً حاسماً في المصير الروحي والسياسي لأمريكا'.
التقيم والخلاصة
يؤشر ما سبق إلى أن وعد بلفور 1917 لا يشكل البداية لفكرة الوطن القومي لليهود في فلسطين، وانما تضرب الفكرة بجذورها في القرن السادس عشر حيث تبلورت في إطار ما سمي بـ 'الصهيونية المسيحية' التي وضعت المقدمات الحقيقية لظهور الصهيونية بوصفها مجموعة من المعتقدات المنتشرة بين غير اليهود والتي تؤيد قيام دولة قومية يهودية في فلسطين من منطلقات دينية.
وفي القرن السابع عشر بدأت المصلحة السياسية تلقي بثقلها إلى جانب الدين، فتم ربط الأفكار الدينية مع السياسة، وأصبحت أفكار عودة اليهود تُستغل كستار للمصالح الإستعمارية البريطانية في فلسطين التي ارتبط موقعها بالمتطلبات الأساسية للإمبراطورية.
المحصلة أن ما حدث ولا زال يحدث مرتبط بالبعد العقدي للغرب الذي يؤمن بأن عودة المسيح لا يمكن أن تتحق إلا بعودة اليهود إلى فلسطين، لذلك ليس هناك أي احتمال يبدو في الأفق بموجبه يتراجع الغرب عن مساعدة اليهود إلا إذا حدث تغيُّر عقائدي جديد على غرار ما حدث في القرن السادس عشر.