الأحد، 25 سبتمبر 2011

حول تطبيق الشريعة 2/2

الكاتب: د. سلمان بن فهد العودة
نقل الحكم الشرعي من إطاره النظري المجرد إلى صورة عملية، ومحاولة تنزيلها على فعل المكلف؛ هي اجتهاد بشري يتراوح بين النصوص وبين أحوال الناس، ويقوم بهذا الاجتهاد بشر تعتريهم صفات البشرية؛ حتى مع تمام الإخلاص والتجرّد.

ومنطقة هذا الاجتهاد هي ملتقى الزمان، والمكان، والإنسان، والحدث، والنص؛ كما في بحث العلامة ابن بيّه "فقه الواقع والتوقع".

فَهْم واقع الأفراد والشعوب النفسي والفكري، وقدر ما يتحملون من الشرع، وما يصلحهم ويصلح لهم؛ هو فقه دقيق تختلف فيه الأنظار، ويتفاوت في دركه النظّار.

والتطبيق العملي مركّب من معرفة النصوص الأصلية أولاً، ومن معرفة الظرف التاريخي الذي يراد التماس حكمه ثانياً، بما في ذلك معرفة الاستعداد للقبول وردّات الفعل، وهل تعود على المجموع بالضرر، أو تربك مسيرة الحياة، أو تربك مسيرة الإصلاح المتدرّج؟

تربك مسيرة الحياة بإثارة المشكلات، والتنازع الشديد المؤدي إلى انفصام عروة الجماعة، أو تراجع التنمية والاقتصاد، أو تسلّط الأعداء..

أو تربك مسيرة الشريعة ذاتها؛ بالانقلاب عليها، وسوء الظن بدعاتها، واعتقاد أنها جزء من الماضي ينبغي هجره، وعدم محاولته؛ لأن القدر الذي شوهد منها لم يراع فيه ظروف الحال، ولم يعط حقه من الفقه كما ينبغي.

حين أفتى بعض الصحابة الرجل بالاغتسال من الجنابة وهو جريح فمات قال عليه السلام: « قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَلاَّ سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِىِّ السُّؤَالُ.. »، وهذا يؤكد أهمية الفقه في المسألة، والسؤال عنها، وألا يفتات فيها إلا من اكتمل فقهه، وتمّ له آلة الفهم والاستنباط.

فقد دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- على من ظن أنه اخذ بالظاهر، ولم يراع واقع الحال لفرد، ومراعاة واقع الحال لجماعة أولى.

ومنه يعلم أن الاستطاعة الواردة في الكتاب والسنة لا تعني قدرة الإنسان على فعل الشيء من حيث الإمكان المادي فحسب، بل تعني ما هو أبعد من ذلك، وهو تحقيق المصلحة ودرء المفسدة.

وقد كان النبي -عليه السلام- قادراً على منع الأعرابي من فعله، وكان قادراً على هدم الكعبة وإعادة بنائها على قواعد إبراهيم، وكان قادراً على قتل المنافقين، وترك ذلك كله لأن فعله يجرّ مفسدة أعظم، أو يُفوّت مصلحة أعظم، « لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ »، فهذه مفسدة إعلامية قصد تفويتها على المغرضين المتربصين، وخشية أن تنكر قلوب الناس تغيير الكعبة، أو يظنوا أنه قصد بذلك الجاه والمنزلة، وربما تزعزع يقينهم بحرمة البيت وهيبته!

الأمر الذي كان واضحاً منذ البداية وفي كافة الأحوال هو ما يتعلق بالكليات الأساسية والأصول الجامعة؛ من أمر التوحيد، ونبذ الشرك والأنداد، فهذا كان أعظم أصل دعا إليه الأنبياء جميعاً، وجاء خاتمهم -عليه الصلاة والسلام- لتعزيزه، وترسيخه، وأفاض القرآن الكريم في الدعوة إليه، وبيان أدلته، ونفي ما يضاده أو ينقصه، بما في ذلك أمر الإيمان بالرسل، والكتب، والآخرة، وسائر ما يجب الإيمان به.

والأمر الثاني يتعلق بالكليات؛ التي عليها مدار حياة الناس وسلامتهم؛ بحفظ ضروراتهم، ومصالحهم، ومتطلبات عيشهم؛ كالعدالة، وحفظ كرامة الناس، وحرياتهم، وسائر حقوقهم.

وقد يسمي الأصوليون هذا بـ"الضرورات الخمس"؛ التي هي حفظ الدين، والنفس (الحياة)، والمال، والعقل، والنسل أو العرض. ويُضاف إليها حفظ الاجتماع ومتطلباته من الحرية والكرامة الإنسانية والنسيج الاجتماعي المكون لشعب أو أمة.

والشريعة لم تأت بحفظ ذلك فحسب، بل بتنميته، وزيادته، وتعزيزه.

ولو تأملت جملة الأحكام الشرعية لوجدتها تدور حول هذه المعاني الجوهرية.

والسياسة الشرعية تقتضي تقديم هذه الأصول العظيمة على غيرها، ولو ترتب على ذلك تفويت بعض الجزئيات والتفصيلات.

وسأحاول لاحقاً تدوين بعض الشواهد الدالة على السياسة النبوية في رعاية الأصول الربانية، أو رعاية الأصول الإنسانية؛ التي عليها مدار صلاح الدين، أو مدار صلاح الحياة الدنيا، واستقامة أحوالها.

إنه لسوء الحظ تبدو كثرة كاثرة من المهتمين مشغوفة بالفروع والجزئيات أكثر من شغفها بالأصول والكليات، ونتيجة لهذا الخلل في النظام الفكري والمدرسي يقع الجور على الأصول الكلية وإهمالها وإغفالها، أو اعتبار الحديث عنها تحصيل حاصل، أو عدّه هروباً من الميدان، فالميدان جدل محتدم لا يتوقف حول فروع الغالب أنها غير قطعية في الشريعة، أو حول صغائر في الحياة ليست ذات تأثير، بينما الأصول العظام تعاني من نقص الوعي وضعف الاهتمام!

فاللهم اهدنا لأحسن الأقوال والأعمال والآراء لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.

حول تطبيق الشريعة 1/2

يكثر الاستشهاد في باب الأمر بالمعروف لدى أئمتنا بقصة الرجل الذي بال في المسجد، وقد خطر ببالي سؤال يتعلق بما يسميه الأصوليون بـ(تحقيق المناط)، وهو: ماذا كانت الشريعة في تلك الحالة؟ هل كانت الإنكار الفوري والمنع الإجرائي؛ الذي فعله الصحابة بزجر الرجل ومطالبته بالكف وهو كان يفعل منكراً ظاهراً تدل الشريعة والفطرة على قبحه؟ وقد قال الرسول -عليه السلام-: « مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ » رواه مسلم.

والأمر هنا ممكن باليد وباللسان، والذين أنكروا استخدموا اللسان ثم همّوا باستخدام اليد فنهاهم النبي -عليه السلام- عن الأمرين، وترك الأمر بعض الوقت حتى أتم الرجل ما بدأه، ثم عالج الأمر بحكمته، وعلّم الرجل ماذا اخطأ، وأمر بتنظيف المكان.

الشريعة الأصلية هي نظافة المساجد، وصيانتها عن الأذى والنجاسة، والشريعة الأصلية في شأن الرجل الإنكار عليه، ومنعه بما هو مقدور عليه.

والذي حدث شيء غير هذا بادي الرأي.

والغريب أن النبي -عليه السلام- أنكر على المنكرين، ونهاهم عن المضي في إنكارهم، وطلب إليهم الكفّ والترك، وألا يعجلوا الرجل ولا يزرموه ولا يقطعوا عليه بوله (لاتعجلوه، لا تُزْرِمُوهُ،لا تقطعوا عليه بوله)، ولم يعمل في حقهم ما أعمله في حق الأعرابي من التريث والمراعاة، ولعل ذلك لأن فعل الرجل كان عفوياً بدافع ذاتي فطري، بينما فعل المنكرين كان فعلاً يتكئ على الشريعة، ويظن أنه يطبق نصوصاً صريحة صحيحة، وهو فعلاً أمام نصوص صريحة وصحيحة، ولكن الشأن في تطبيقها، وهنا تبرز معضلة (تطبيق الشريعة)، هل هي وضع الأحكام موضع التنفيذ والإمضاء العملي فحسب كما حدث من المنكرين في تلك القصة ؟ أم يعنى جانباً خاصاً كإقامة الحدود، والذي هو زاجر عن الفعل وحافز على الترك بحيث لو لم يقع الجرم أصلاً لم يقم حد، وله إجراءاته العملية والظرفية المعروفة.

وإقامة الحد مما ليس يجتهد في تحصيله، بل جاءت السنة النبوية بدرئه بالشبهات، وعدم تطلّبه، والحث على الستر ونحو ذلك؛ لأن الحاكم أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة، وربما كان الزجر بتشريع الحكم أقوى من الزجر بتطبيقه، والشبهة ربما التبست فرداً، وربما اتسعت لتشمل خلقاً كثيرين، كما في الخلاف الفقهي في شرب بعض الأنبذة التي يلحقها بعضهم بالخمر ويراها آخرون في دائرة المباح، ومثله بعض الأنكحة المختلف فيها.

أم إن تطبيق الشريعة وإنفاذها يعني -ولابد- فهم الأمر القائم لفرد أو جماعة، والاجتهاد في اختيار ما يناسبه، وإعطاء الزمن حقه ولو تأخر الأمر عن الفور والآن، وهو نوع خاص من الاجتهاد لا يتيسر إلا للخاصة من العلماء الربانيين، المتوفرين على معرفة نصوص الشريعة وقواعدها، والعارفين بالواقع البشري الثقافي، والسياسي، والاجتماعي.

تطبيق الشريعة ليس يعني أن الناس سيصبحون ملائكة، ولا أن الخطأ البشري سيختفي أكان خطأ متعمداً أم كان جهلاً، أو كان معاندة للشرع ونبذاً لحكمه.

ثمَّ خطأ بسيط فردي كما هنا، وثمَّ خطأ مركّب ومتراكم تحوّل إلى عادة تاريخية اجتماعية أو سياسية، ولا يخلو من تعقيد والتباس.

وأخطاء غدت جزءاً من هوية شعب أو قبيلة حتى يدافعوا عنها ويقاتلوا دونها.

وأخطاء هي عرف عالمي، تكرّسه علاقات، ووسائل إعلام، وتقاليد، ومؤثرات.

وثمَّ ما لا يُعدّ خطأ، ولكنه عرف سارٍ جارٍ متداخل، يمكن تحليله إلى صوابات كثيرة ومشتبهات، وربما تستقر أوضاع بشرية استقراراً تصعب مقاومته، ويعدّ الجهل به تعامياً عن حقائق مادية ماثلة للعيان، ولو كانت غريبة، كما قال أبو تمام:

عَجِبتُ لِصَبري بَعدَهُ وَهوَ مَيِّتٌ وَكُنتُ اِمرِءاً أَبكي دَماً وَهوَ غائِبُ

عَلى أَنَّها الأَيّامُ قَد صِرنَ كُلَّها عَجائِبَ حَتّى لَيسَ فيها عَجائِبُ!

حتى الخطأ هو جزء من الوجود الإنساني لا يمكن خلو الحياة منه، ولهذا شُرعت التوبة، وشُرع الاستغفار، وشُرعت الكفّارات، وكان من أسماء الله "الغفور"، حتى قال النبي عليه السلام: « وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ ».

قطعاً لم يكن الموقف النبوي موقف التسويغ أو الرضا، فالمنكر يظل منكراً ولو فعله الناس، والإنكار بالقلب هو أدنى درجات الإيمان؛ كما في حديث أبي سعيد: « مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ ».

لكن ثمَّ مسافة بين النص وبين تطبيق النص، فالشريعة إذاً شيء، وتطبيق الشريعة شيء آخر، وهذه فكرة جوهرية تحتاج إلى تأمل ومناقشة.

هنا يدخل الجانب البشري في محاولة التطبيق، وهو اجتهاد يحتمل الصواب والخطأ، ولذا كانت اجتهادات الأئمة غير معصومة، وهي بين الأجر والأجرين إذا صحّت النية، كما في حديث عبد الله بن عمرو.

ولا أفضل من الصحابة الذين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: « وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلاَ تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِى أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لاَ » كما في حديث سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ وهو في صحيح مسلم.


قراءة في كتاب 'نقض الجذور الفكرية للديمقراطية الغربية': الديمقراطية الإسلامية في المجتمعات العربية

في مقدمة كتابه القيم: 'نقض الجذور الفكرية للديمقراطية الغربية' (إصدارات مجلة 'البيان')، يشير الدكتور محمد أحمد علي مفتي إلى أن الديمقراطية أضحت القاسم المشترك بين كل المفكرين السياسيين من مختلف المشارب، وحتى بعض رموز التيار الإسلامي، لإضفاء الشرعية على مفاهيم كل تيار فكري، ولترسيخ السلطة وإضفاء شرعية جديدة على بعض ممارساتها السياسية، تدعي الأنظمة السياسية أنها تنتهج الديمقراطية وتنادي بها لتحقيق القبول الجماهيري.
في الفصل الأول، يعرف الباحث الديمقراطية، بأنها كلمة يونانية قديمة تعني حكم الشعب، ويقسم تعريفاتها إلى ثلاثة أقسام : تعريف معياري كلاسيكي، تعريف إجرائي، وآخر إيديولوجي.
يبنى التعريف الأول على قاعدة (الخير العام) و(الإرادة العامة) التي تدفع الأفراد نحو المشاركة الشعبية في الحكم، وينقسم أرباب هذه المدرسة إلى فرديين وجماعيين. يركز الفرديون على الفرد، ويجعلون الحرية أهم قيمة اجتماعية، وينصب تحليلهم على حقوق الأفراد الطبيعية الثابتة، التي تسبق وجود الدولة، وتجعل مهمتها الحفاظ على حرية الأفراد وحقوقهم الطبيعية، ويركز الجماعيون على رفاهية الجماعة، ويهتمون بالمساواة، ومفهوم الإرادة العامة والخير العام. ويشترك الاتجاهان في المفاهيم الأساسية، التي يدعون إليها، كالسيادة الشعبية وحكم الشعب للشعب، وافتراض الأفراد خيرين وعقلانيين بطبعهم، قادرين على اختيار نظام الحياة المناسب لهم.
ومن الانتقادات الموجهة للمفهوم الكلاسيكي للديمقراطية:
- أن الشعب لا يستطيع أن يحكم نفسه، فالواقع الملموس يناقض ذلك المفهوم.
- قاعدتا الإرادة العامة والخير العام غير واقعيتين، فلا يوجد خير عام متفق عليه يشمل كل أفراد المجتمع.
- مفهوم القانون الطبيعي والحقوق الطبيعية لا يمكن إثباته تاريخيا ولا إخضاعه للاختبار، وهذه الحقوق الطبيعية تصور ذهني لا علاقة له بالواقع التاريخي ارتبط بالعلمانية، التي جعلت الطبيعة المرتكز الأساس للحقوق والواجبات في المجتمع، بعد أن تم عزل 'الله' عن التدخل في شؤون الناس، وإنكار وجود قوانين إلهية تنظم تلك الحقوق.
- وجود تناقض بين الحرية والمساواة، فإذا كان الناس أحرارا فهذا يعني أنهم ليسوا متساوين، وإن فرضت عليهم المساواة، فهذا يعني أن حريتهم قد سلبت منهم.
- عدم واقعية فكرة عقلانية الأفراد، لأن الفرد يعتمد في رؤيته السياسية للأشياء على دوافعه الداخلية أكثر من النزعة العقلانية المجردة.
أما التعريف الإجرائي فيعتبر الديمقراطية طريقة معينة لاتخاذ القرارات، يمكن أن تبنى على أي نسق سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي، كالديمقراطية الرأسمالية والديمقراطة الاشتراكية، ويؤكد الإجرائيون أن الديمقراطية توجد إذا توفرت لها عدة شروط كالانتخابات الدورية، التعددية السياسية، المنافسة، المشاركة السياسية، وهي الأسس العامة للديمقراطية الليبرالية، ومن الانتقادات الموجهة لهذه النظرية أنها تحصر الديمقراطية في انتخابات دورية، وينحصر دور المواطنين في اختيار النخبة وتمكنيها من الحكم، ثم إغفالها تحليل البعد الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع، كما أن اختزال الديمقراطية في الانتخابات يفرغها من محتواها، فهناك أنظمة يقوم فيها الأفراد باختيار الحكام دون أن تكون ديمقراطية.
ووفقا للتعريف الإيديولوجي، تعد الديمقراطية نمط عيش ينبثق من طراز ذهني مبني على عدة افتراضات، كالإحساس الدائم بالرغبة في التغيير؛ الديمقراطي هو الإنسان القادر على تعديل أوضاع حياته وأفكاره حسب المتغيرات الاجتماعية، والمجتمع الديمقراطي لا يتبنى منظورا أحاديا (عقائديا أو أخلاقيا) للوحدة الاجتماعية. الديمقراطية تبنى على المنظور العلماني التعددي للمجتمع، وجوهر النظرية الديمقراطية يكمن في تقبل أفكار الآخرين مهما كانت، وتشجيع الناس على تطوير أفكارهم الدينية. والتعدد وإمكانية الاختلاف العقيدي شرطان مسبقان لقيام مجتمع ديقراطي، يكفل حرية التدين للجميع.
ويخلص الباحث إلى أن الديمقراطية نظام للحياة قائم على حيادية الدولة اتجاه القيم الدينية والأخلاقية، للأفراد الحق في اعتناق ما شاؤوا دون تدخل أحد من أحد؛ إنها نظام علماني قائم على قاعدة حيادية الدولة اتجاه العقيدة، وقاعدة سيادة الأمة المترتبة عليها، والتي تعني حق الأمة في تبني نظام الحياة التي تراه مناسبا.

' ' '
في الفصل الثاني يعالج الكاتب مفهوم سيادة الأمة، الذي يعد المرتكز الأساس للنظرية الديمقراطية، فالشعب في النظام الديمقراطي هو صاحب السيادة ومصدر السلطات. ولانعدام قواعد عقيدية أو فكرية تميز الباطل عن الحق، لا يحدد الفكر الديمقراطي الغربي ثوابت منطقية عقلانية للغايات الاجتماعية خارج إطار الاختيار الفردي، لذا تخضع غايات الفرد لرغباته وتتغير بتغير حاجاته الأساسية. ويرفض الباحث أطروحة أن ما تقرره الأغلبية يمثل الحق والعدل لمجرد صدوره من الأغلبية لعدة أسباب، منها أن هذا التوجه يضفي قداسة وعصمة على رأي الأغلبية فقط، والمصلحة تتغير بتغير نظرة الأفراد إلى الأشياء، فضلا عن تنازل الأفراد للأغلبية المسيطرة، وبالتالي الخضوع لتشريع قد يكون مغايرا لقناعات ومعتقدات الأفراد، بينما عصمة الأغلبية وصحة آرائها لا يصلح في المجتمعات الإسلامية، لأن المسلم ملتزم باتباع الشرع وليس قبول رأي الأغلبية، وهذه الأغلبية لا تعني أغلبية سكان الدولة، مما يعني أن السيطرة على شؤون الدولة بيد الأقلية، وهو ما يتعارض والنظرية الديمقراطية، وفي الأنظمة الغربية تحكم النخبة، وهي أقلية تتحكم في الموارد الطبيعية ومصادر الثروة والقوة، وتسعى تلك الأقلية إلى ترسيخ مصالحها ومزاياها الاجتماعية عن طريق مؤسسات اجتماعية، مما يتعارض والمعنى الحرفي للديمقراطية، التي تعني حكم الشعب وليس النخب، وهناك من دافع عن هذه الديمقراطية النخبوية، لأن وجود نخبة مثقفة تدير دفة الحكم يحول دون طغيان الأغلبية الدهماء. ويطرح حكم الأغلبية تساؤلا منهجيا مشروعا، وهو : ماذا لو قررت هذه الأغلبية التخلي عن الديمقراطية واللجوء إلى الدكتاتورية؟ ومتى يمكن الرجوع للأمة بأسرها وإلغاء دور الأغلبية؟...
ويختم الكاتب هذا الفصل بتحريم تبني الديمقراطية شرعا، لأن ربط السيادة بالأمة يجعل لها حق تبني نظام الحياة السياسي والاقتصادي والاجتماعي، مما يجعل النظام الديمقراطي يقف طرف نقيض مع النظام الإسلامي، والحكم بقوانين وضعية يخرج الدولة عن مقتضى الشرع الإسلامي.

' ' '
في فصل 'الديمقراطية والحل الوسط'، يتطرق الدكتور محمد مفتي إلى مفهوم الحل الوسط، الذي يثير مشكلة في الحياة السياسية حين ترتبط دوافع السلوك بالالتزام العقائدي، حيث يلجأ الفرد إلى التعصب نحو الآخرين، الذين لا يشاركونه توجهاته العقائدية، وإذا كان الحل الوسط وسيلة لحل النزاعات في ظل النظام الديمقراطي، وذلك بإرضاء الأطراف المتنازعة عن طريق تقديم التنازلات المتبادلة، فالديمقراطية تتعارض والالتزام العقائدي، لأنها تفصل العقيدة عن الممارسة السياسية، التي لا تخضع لمقياس الحلال والحرام.
ويخلص الدكتور مفتي إلى أن مفهوم الحل الوسط باطل شرعا، لأنه في الدولة الشرعية لا يصح جعل الحل الوسط قاعدة لحل المشكلات، ويرى أن الاستعمار أخضع البلاد العربية والإسلامية للتبعية الفكرية للغرب، ومن ثم فرض الرأسمالية العلمانية والديمقراطية كأفكار يتصدى بها المسلم للخطر الشيوعي، ومعالجة مشاكل كل جوانب الحياة، فسادت ممارسات كثيرة تتكئ على 'الحل الوسط' وهو ما خلق ازدواجية في المفاهيم والمشاعر والسلوك عند الكثير من المسلمين، وصار هناك من يعلن أنه يدين بالإسلام ويتبنى العلمانية في نفس الوقت، وصار الإسلام ديمقراطيا عند الديمقراطيين واشتراكيا عند الاشتراكيين، حتى غيّبت أحكام الإسلام ومفاهيمه المعالجة للواقع.
' ' '
في مستهل مبحث 'الحرية والتعددية السياسية'، يشير الكاتب إلى تعدد تعاريف الحرية، فالليبراليون يؤكدون أنها تتمثل في غياب القيود الخارجية أو التدخل من طرف الآخرين في الشؤون الخاصة، ويدعون إلى إطلاق الحرية الفردية والحد من تدخل الدولة في النشاطات الإبداعية للفرد، وله أن يتمتع بحريته التامة، قانونيا واجتماعيا، ويفعل ما يراه ويتحمل ما يترتب عليه من نتائج، ويصبح للمجتمع الحق في التدخل في سلوك الفرد إذا أثر تصرفه على مصالح الآخرين.
وتعرف المدرسة الجمهورية الحرية من خلال ربطها بالتنظيم السياسي، فيصير الإنسان حرا حين يعيش في جماعة سياسية حرة، وتكون الجماعة حرة حين يحكمها الشعب، ويصبح المرء سيد نفسه، وهذه هي الحرية التي بنيت عليها فكرة الديمقراطية الغربية، ومن مظاهر الحرية السياسية حرية الرأي وحرية العقيدة، وحرية الرأي أساس 'التعدية السياسية' في الفكر الديمقراطي الغربي، وهو ما فرض الدعوة إلى احترام الرأي الآخر، والاعتراف بالتنوع والاختلاف في العقائد والمصالح والرؤى، وبالتالي التعايش بين تيارات سياسية مختلفة الآراء، من منطلق حرية الرأي للجميع.
والحرية بمفهومها الليبرالي- حسب الكاتب- تتناقض والنظرة الإسلامية القائمة على الخضوع لأحكام الشرع، والمجتمع المسلم محكوم بعقيدة لا تجيز تعدد دوائر الانتماء القائم على إعطاء كل الناس الحق ذاته في الدعوة إلى ما يدعون إليه، مهما كانت أفكارهم ومعتقداتهم، لأن الدولة الإسلامية قائمة على سيادة الشرع.

' ' '
يستهل الدكتور مفتي الفصل الأخير 'المسلمون والديمقراطية' بالحديث عن تغلغل الديمقراطية بفضل دعوات كتاب ومفكرين مسلمين إلى تبنيها، بدعوى أنها لا تعارض الشريعة الإسلامية، منهم يوسف القرضاوي، الذي ربط بين تبني الديمقراطية وتبني الوسائل والأساليب، معتبرا جوهر الديمقراطية من صميم الإسلام، ويشير الباحث إلى أن عدة جماعات إسلامية جديدة أقرت الديمقراطية كمنهج عمل سياسي، فجماعة 'الإخوان المسلمون' بمصر تبنت المفاهيم الديمقراطية، التي تؤكد المشاركة السياسية والتعددية الحزبية والنظام النيابي، بينما أكد حزب جبهة العمل الإسلامي بالأردن تمسكه بالديمقراطية، الدفاع عن الحريات وإقرار التعددية السياسية.
ودعا عدة كتاب ومفكرين إلى إقرار الاختلاف بين الشرائح الاجتماعية، لأنه يضفي مشروعية على العمل السياسي، كفهمي هويدي، محمد عمارة، محمد سليم العوا وآخرين، وأجمعوا على ضرورة تكيف الحركة الإسلامية مع واقع المجتمع التعددي، المبني على وجود تيارات سياسية مختلفة، تتنافس لكسب أصوات الناخبين، ويدعو القرضاوي تلك الحركات في حالة فوزها في الانتخابات، وتسلمها السلطة إلى احترام الاختلاف والتعدد، وألا تحظر العمل على باقي التيارات، حتى لا تضيّع من اختاروها وأيدوها، وعدم خشية الأفكار المخالفة للإسلام، وعدم التفريط في التربية والعدل وإقناع الناس، حتى تستطيع البقاء وتحوز على ثقة الناخب.
وحث عدة كتاب على ضرورة المشاركة السياسية في الأنظمة المعاصرة، لتحقيق أهداف الحركة الإسلامية، خاصة المشاركة في البرلمانات، وبعضهم جعل الديمقراطية مطلبا شرعيا، يمكن من خلاله استئناف الحياة الإسلامية، رابطين الديمقراطية بالنظام السياسي الإسلامي، ممارسين الانتقائية في فهم وتطبيق الديمقراطية، مما أدى إلى خلل في المفاهيم عند أولئك الكتاب، ويستشهد الباحث بحيدر علي الذي انتقد الديمقراطية الإجرائية، التي يقبلها الإسلاميون رغم رفضهم للفلسفة التي تقوم عليها كنظام للحياة، ويبدو له اختزال الديمقراطية في الانتخابات والمشاركة يقدم نظرة ناقصة لها، فالصيغة الإسلامية للديمقراطية (الديمقراطية الإسلامية) مطالبة بتكييف نفسها مع ثوابت عقيدية وتحريمات ونواهٍ دينية قد تكون عوائق للديمقراطية الصحيحة، ويسوق نموذج الردة وحدّها القتل، وهو ما يتعارض مع حرية العقيدة، ويؤكد حيدر علي أن هناك مؤسسات وأجهزة يعيق وجودها قيام الديمقراطية، وتصطدم بالحريات الشخصية، مثل هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... ويخلص الباحث إلى أن الديمقراطية تقتضي 'علمنة العقول' ليس بقبول الآخرين فقط، وإنما بإلغاء المؤسسات الدعوية والأخلاقية، التي تتعارض والحريات الشخصية، مما يعني أن الديمقراطية ليست إجراءات شكلية تختزل في الانتخابات وتداول السلطة، وإنما هي نظام حياة قائم على النظرة الفردية للإنسان المستمدة من الفكر الليبرالي، والدولة الإسلامية لا تقوم على الحيادية الفكرية والعملية اتجاه التيارات السياسية المختلفة، وإنما دولة عقيدة، والتعددية السياسية والحزبية تتعارض معها، فوجود أحزاب علمانية أو شيوعية يتعارض والمجتمع الإسلامي، القائم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وينتقد المؤلفُ قول محمد عمارة ان الفقه الإسلامي لم يعالج ظاهرة التعددية الحزبية، فأجازها في الدولة الإسلامية، بأن 'الاجتهاد' في إجازة ما لم يجزه الشرع الإسلامي ليس اجتهادا، ويرى أن هذا الاجتهاد لون من ألوان مخالفة أحكام الشريعة، بإجازته قيام أحزاب مخالفة للشريعة الإسلامية.
وبخصوص مشاركة الإسلاميين في البرلمانات، يعتبر الباحث دخولهم البرلمان ليس انتصارا للمبدأ الإسلامي، إذ رغم اشتراكهم في البرلمان لا يطبق الإسلام في واقع الحياة، وقد يستغل وجودهم لإضفاء شرعية على عمل الدولة، ومن ثم الاستمرار في تعطيل شرع الله المنزل، والمشاركة البرلمانية تعزل العمل الإسلامي عن التأثير السياسي الجماهيري، وتفقد هذه المشاركة الحركة الإسلامية مصداقيتها المبدئية، بحيث تنظر إليها الجماهير على أنها تتاجر بالشعارات، كباقي التيارات السياسية المتنافسة، وأنها تسعى للوصول إلى الحكم 'بطريقة ميكافيللية'، تؤدي بها إلى التنازل عن المبادئ التي كانت تدعو إليها.

http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=data%2F2011%2F07%2F07-25%2F25qpt890.htm