الخميس، 15 ديسمبر 2011

ماليزيا.. تجربة.

في ظل ربيع الثورات العربية، صعد الإسلاميون إلى سطح الأحداث في الكثير من الأقطار العربية، ففي مصر تم تشكيل ما يقرب من أربعة عشر حزبا على خلفيات إسلامية، ويستعد الإسلاميون لخوض انتخابات برلمانية يتوقع أن يحصلوا فيها على أكثر من ثلث المقاعد، كما أن هناك عدة مرشحين للرئاسة ذوي اتجاهات إسلامية، وفي تونس تحصل النهضة على ما يقرب من نصف مقاعد البرلمان، وفي ليبيا بعد مقتل القذافي صعد الإسلاميون على الصدارة لمشاركتهم في قتال القذافي، كما أنهم يتصدرون ساحات التغيير في اليمن لإقصاء الرئيس اليمني علي عبد الله صالح، ويسجل الإسلاميون صعودا في العديد من الأقطار الأخرى.



وأمام هذه الحالة لوحظ أن الكثير من الإسلاميين يركزون على خطاب الهوية في حضورهم السياسي، في حين أن البعض حتى من ذوي الاتجاهات الإسلامية يرى أن مسألة الهوية حسمت في غالبية الأقطار العربية لصالح الهوية الإسلامية، وأن على الإسلاميين أن يطرحوا خطابا حياتيا يساهم في حل مشكلات الناس، ويستطيع هذا الخطاب تجديد بناء الهوية على أسس من العدل والحرية والديمقراطية، باعتبارها عناصر كفيلة ببناء هوية ناهضة وليس بناء هوية جامدة.



ويطرح هذا الموضوع تجربة ماليزية تنمي للأمة الإسلامية في مجموعها في كيفية بناء هوية ترتكز على العدل والتنمية في ظل مجتمع متنوع، وهي تجربة تحتاج إلى قراءة عميقة حتى نتجنب خوض المعارك "الغلط".



البداية



حصلت ماليزيا على استقلالها عام 1957م وسط توقعات أن تنهار هذه الدولة وتشهد صراعات عرقية عنيفة نظرا للتحالف الهش بين العناصر المكونة لها من المالاي والهنود والصينيين، وترسخ هذا الظن بعد أحداث الشغب الطائفي التي شهدها شهر مايو 1969م.



ومحاضير محمد هو رابع رئيس وزراء لماليزيا من استقلالها، تولى منصبه عام 1981 وتجددت ولايته خمس مرات في انتخابات ديمقراطية نزيهة، واختار أن يترك السلطة عام 2003 بعد 22 عاما وهو في أوج تألقه ويجلس على قمة هرم من الانجازات؛ حيث نقل دولته نقلة نوعية من دولة زراعية متخلفة اقتصاديا إلى دولة متقدمة وصناعية، وذلك في إطار نظام سياسي احتفظ بالموروث الماليزي التقليدي الإسلامي، محققا التوليفة الصحيحة بين التنمية الاقتصادية والسياسية والمجتمعية.



نجح محاضير في جمع شمل الماليزيين من مختلف الأعراق والديانات حول برامجه السياسية والاقتصادية محققا اندماجا نادرا بين الماليزيين، "فلم تعرف البلاد في عهده نزاعا عرقيا أو طائفيا علي الرغم من انتقادات البعض له بالسعي لهيمنة المالاي الذين يشكلون نحو60% من إجمالي السكان علي مؤسسات الحكم والثروة في ماليزيا ولكن فعل ذلك دون أن يجحف فئات المجتمع الأخرى حقوقها أو أن يسلبها أموالها تحت ذريعة التأميم والمصادرة بحجة أنها أموال الشعب".[1]



وكان يقول:" لا يمكن وجود ماليزيا موحدة قبل بناء أمة ماليزيا موحدة تشعر بوحدة المصير، هذه الأمة يجب أن تعيش في سلام مع نفسها من خلال مشاركة عادلة وكاملة بين عرقياتها".



مشكلة التهميش





"كان المالاي لا يحوزون غداة الاستقلال سوى 2.4% من ثروة البلاد، أما الصينيون الذين لم يكن يزيد تعدادهم عن ربع السكان فكانوا يحوزون ثلث الثروة، وكان ذلك وراء تفجر الأوضاع في ماليزيا في مايو 1969. التي اندلعت شرارتها بسبب الصدم بين الصينيين والمالاي، وكشفت تلك الأحداث عن هشاشة الوضع العرقي في ماليزيا، إذ لم تفلح حكومة "تنكو عبد الرحمن" والملقب بـ"أبو الاستقلال" في إرضاء طرفي المعادلة الماليزية الإثنية (المالاي والصينيين)، فقد ظن تنكو أن ما يرضي الصينيون هو تحقيق أكبر قدر من الربح المادي، وأن ما يحقق رضا المالاي هو الحصول على وظائف حكومية والسيطرة على تنظيم آمنو (الحزب القائد في الائتلاف الحاكم) .



وكان هذا الإدراك المبسط لحاجات ومطالب العرقيتين من جانب تنكو وراء اندلاع شرارة العنف العرقي الذي أعقب إعلان نتائج العامة التي حصلت فيها أحزاب المعارضة على 40 مقعدا من إجمالي عدد المقاعد (104) إضافة إلى حصول المعارضة على الأغلبية في برلمانات 4 ولايات ماليزية، وهو الأمر الذي هدد تفرد المالاي بالقرار السياسي، وولد لديهم شعورا بإمكانية التهميش السياسي إلى جانب التهميش الاقتصادي الذين تعرضوا له على يد الأقلية الصينية"[2].



"وفي ظل تلك الأحداث الدموية لمع نجم محاضير في سماء الحياة السياسية الماليزية، وزادت شعبيته لدى أبناء عرقيته من المالاي، وكان من أسباب ذلك انتقاده الحاد لتنكو، إبان أحداث مايو 1969، وكان تنكو انقاد وراء مطالب الجماعة الصينية الخاصة بتعظيم المكاسب الاقتصادية لأكبر حد ممكن، انطلاقا من نظره للصينيين على أنهم قاطرة التنمية في ماليزيا، وهو الأمر الذي عارضه محاضير بقوة، حتى إن محاضير وزع رسالة سرية تنتقد تنكو وشاع أمر هذه الرسالة مما أدى إلى فصل محاضير من الحزب، وتعرضه للفصل من تنظيم الأمنو، وتم منع تداول كتابه "معضلة المالاي في ماليزيا" الذي نشره عام 1970م، والذي حاول فيه أن يشرح أسباب الاضطرابات العرقية التي حدثت عام 1969، وأسباب تخلف المالاي عن باقي العرقيات في بلادهم."[3].



العدالة العرقية



"كان محاضير يرى أن تاريخ الهجرات البشرية الكبرى يشهد باندماج المهاجرين الأوائل في التركيبة الاجتماعية والثقافية للأوطان التي اختاروها مستقرا لهم، ويشهد أيضا بأن سكان البلاد الأصليين هم أصحاب الثقافة الرئيسية، كما أنهم الأقدر على وضع الثوابت العقائدية والفكرية لمجتمعاتهم..فالمهاجرون الصينيون الأوائل استوعبوا الثقافة المالاوية وهو ما أدى إلى إحداث سلام اجتماعي مستقر"[4]، فنشا نوع من التفاهم العرقي في إطار ما يشبه الهوية الجامعة.



كان محاضير يرى أن عامل المصلحة وليس عامل العلاقات الاجتماعية والإنسانية هو العامل الحاكم في تحديد شكل العلاقات العرقية في ماليزيا، وأن انتهاج سياسة اقتصادية جديدة هو السبيل لتحقيق التجانس العرقي والسلام الاجتماعي وبناء هوية توافقية في ماليزيا، وأن وجود تمييز ضد المالاي العرقية الأكبر في ماليزيا يعني حتما عدم إمكانية قيام ماليزيا موحدة وعدم إمكانية بناء إطار جامع للهوية في البلاد، ولذا رفع شعار العدالة العرقية.



ومادام المالاي هم السكان الأصليين فإنهم أحق العرقيات بأن تكون لغة البلاد الرسمية هي لغتهم، وأنهم أحق العرقيات بوضع شروط وأسس المواطنة الماليزية، بالشكل والطريقة التي تضمن اندماج الأقليات العرقية المختلفة في النسيج الاجتماعي والثقافي لماليزيا، وبالتالي لم تقم رؤيته على تفضيل المالاي، ولكن قامت على الإبقاء على ثقافة وتراث وحضارة الوطن ممثلا في سكانه الأصليين، أي أن الأغلبية هي التي تشكل الهوية، وأن وجود تنوع عرقي ولغوي على أرض ماليزيا لا يعني الافتئات على السكان الأصليين في فرض لغتهم وثقافتهم على بقية المواطنين.



أين تكمن أزمة الهوية؟



وكان محاضير يرى أن أزمة الهوية تنبع من اعتبار المالاي لغيرهم بأنهم ضيوف يجب حسن ضيافتهم، ولكن لابد من اعتبارهم مواطنين وشركاء في الوطن، وبالتالي فبناء هوية جامعة في ماليزيا وتحقيق الوحدة الوطنية في مجتمع متعدد الأعرق يعتمد على قدرة ماليزيا على بناء رموز لها يلتف حولها الشعب بمختلف مكوناته، وكان أن أهم العوائق التي تقف وتحول دون بناء الوحدة في ماليزيا تتمثل في الفجوة الاقتصادية بين العرقيات.



والملاحظ في تجارب النهوض في أي بلد أو قومية أنها تسعى للإجابة على تساؤلين كبيرين، الأول: لماذا التخلف، والثاني كيف النهوض؟.



ففي " كتابه "معضلة المالاي في ماليزيا" انطلق من حقيقة أن الحكومة الماليزية لا يمكن أن تنجح في حل مشكلة المالاي ما لم يقتنع هؤلاء بأنهم في معضلة حقيقية، ومن هنا فالمالاي أمام خيار مصيري:إما أن يكونوا الأغلبية الفقيرة في دولة تسعى للنمو، وإما أن يعملوا ويجتهدوا للمشاركة في ثروة البلاد.



ورأى محاضير أن انتهاج السياسة الاقتصادية الجديدة هي الخطوة الأولى في طريق تحقيق السلام والتجانس العرقي في البلاد، وان دور الحكومة الماليزية في تحسين أوضاع المالاي لا يجب أن ينتهي إلا إذا وصل المالاي إلى نفس المستوى الاقتصادي والثقافي والتعليمي لغير المالاي في ماليزيا، ولذا فإن واجب الحكومة يكون في إقحام المالاي في الأنشطة الاقتصادية"[5].



بعيدا عن الأيدولوجيا



"ويعد أهم ما يلفت النظر في فكر محاضير هو أنه انطلق من قاعدة محلية قومية، وهي تشخيص طبيعة المشكلة التي يواجهها شعب المالاي في دولة متعددة الأعراق يشكل المالاي 53%، من السكان، والصينيون 35%، و الهنود 9%، ويتمتع المالاي بالسلطة السياسية، ولكن السلطة الاقتصادية في يد الصينيين.



انطلق محاضير من إثارة السؤال: ما هو مصدر الخلل ؟ ولم ينطلق من قاعدة أيديولوجية حاول أن يفرضها على مجتمع المالاي، ولم يحاول أن يطوع مجتمعه لتحقيق أهداف أيديولوجية حاول أن يفرضها على مجتمعه. ولكنه انطلق من منظور استقرائي لمجتمعه.



وقال محاضير أن المالاي ليسوا متخلفين بالطبيعة، ولكن لأن عوامل الجغرافيا خلقت فيهم روح الاسترخاء، فالبيئة الجغرافية توفر إنتاجا زراعيا وفيرا في فترة قصيرة من السنة، ومعدلات إنتاج عالية تكفي استهلاك السكان، إضافة إلى عدم قدرة المالاي على التعايش مع المهاجرين الصينيين أو الاستفادة منهم، وخلص محاضير إلى أن تغيير نسق القيم لدى المالاي وإيجاد صيغة للتعايش الإيجابي بين الأعراق الماليزية هو نقطة البدء لتحقيق نهضة ماليزيا"[6].



"كان محاضير يرى أن مواجهة مشكلات ماليزيا لن تتأتى إلا من خلال عملية تنموية تأتي في إطار أوسع وأشمل يتمثل في التنمية الآسيوية، التي عرفها بأنها اقتصادية في الأساس، ترسي دعائم سياسية وثقافية واجتماعية للتنمية. وأن على ماليزيا وفقا لوجهة نظره الموازنة بين البعد الاقتصادي والأبعاد الأخرى، ومنها البعد الاجتماعي، وأن عليهم في الوقت نفسه أن يسعوا إلى تحسين وضعهم الاقتصادي للنهوض بالاقتصاد الماليزي، وأن يحتل الجانب القيمي جانبا مهما ومتقدما في التنمية، حيث يرى أن الحفاظ على الهوية والقيم هو حق للماليزيين.



قيم تنموية



وقد وضع محاضير أربع قيم محورية للتنمية وهي:

* القدرة على العيش بشكل منسجم للعرقيات المختلفة في ماليزيا.

* السعي إلى التفوق.

* أهمية الإيمان بالقدرة على الوصول للنتائج وتحقيق النجاح.

* الحفاظ على القيم الاجتماعية الآسيوية الشائعة، مثل الحفاظ على مؤسسة الأسرة، واحترام كبار السن، مع الاستفادة من القيم الغربية في التمسك بالجودة في كل شيء، والاستفادة من الشرق المتمثل في اليابان من قيم الولاء والإخلاص في العمل"[7].



" وفي فبراير سنة 1991 قدم محاضير "رؤية 2020" وهي التي تضمنت أربع ركائز جوهرية للرؤية الفكرية له، وهي "القومية الماليزية" و "التطور الرأسمالي" و " الدور التنموي للإسلام" و " الدور القومي للدولة" ويمكن القول أن رؤيته 2020 تتكامل مع رؤيته للعلم والتكنولوجيا، والعولمة"[8].



"وتلك السياسة من الممكن أن نطلق عليها "المحاضيرية" التي دمجت بين عدة توجهات وتصورات خاصة بالإسلام والغرب، والديمقراطية والتنمية، والنظام الاقتصادي العالمي والعولمة، بالإضافة إلى بعض المنطلقات والافتراضات الخاصة بالعلاقة بين الدين والدولة، والإسلام والتنمية، والديمقراطية والتنمية، ووفق بعض التعريفات فإن المحاضيرية خليط من القومية والرأسمالية والإسلام والشعبية والسلطوية"[9].



" وفي رؤيته التنموية رأى محاضير ضرورة أن تقترن التنمية الاقتصادية بتحقيق المساواة، حيث رأى استحالة أن يوجد انفصام بين الجانبين خاصة في ماليزيا التي تتسم بتعددية عرقية ودينية، وكان حريصا على تحقيق التنمية في ظل هامش كبير من المساواة، ولم تقم سياسته على أساس انتزاع جزء من ثروة الأغنياء لصالح الفقراء.



ولكن قامت على أساس تخصيص قسط أكبر من الكعكة الاقتصادية لصالح المالاي، أي تحسين أوضاع المالاي الاقتصادية دون الإضرار بالآخرين، وأثمرت هذه الخطة مع عام 1990 عن تحقيق بعض الطموحات في الارتقاء بوضعية المالاي من الثروة بالفعل، بحيث شغل هؤلاء أكثر من نصف عدد الوظائف الحكومية، كما تضاعف نصيب العرقيات الأخرى، فقد راعت رؤيته التنموية الأعراق الأخرى، وهو ما حال دون وقوع أية توترات" [10].



القيم حاضرة



و"تشير مراجعة الإطار الفكري لمحاضير محمد على محورية دور القيم في نسقه الفكري، وتستلزم القيم عنده وجود عاملين أساسيين، الأول: وجود نظام للقيم بغض النظر عن كونها جيدة أم سيئة، وثانيها: أن يحظى نظام القيم بالقبول من جانب قطاع كبير من المجتمع لكي يبقى ويستمر.



وقد تكون الإطار القيمي لمحاضير من خلال تفاعل مجموعة من العناصر، أبرزها عنصرين أساسيين هما: الإسلام، والقيم الأسيوية"[11].



" وتشكل الكونفوشيوسية أحد الروافد الأساسية في النسيج الفكري للمجتمعات الأسيوية، وتؤكد على مجموعة من القيم منها: تجنب الصراع، والتأكيد على ثقافة الاتفاق، وضرورة التزام الحاكم بإطار أخلاقي، فضلا عن الطاعة التي تتمثل في طاعة المحكوم للحاكم، والصغير للكبير، والابن للأب، والزوجة لزوجها.



وتلك القيم في مجملها عمل محاضير على تبنيها في إطار البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي لماليزيا مفضلا إياها على قيم الثقافة الغربية التي لم يدع إلى معاداتها بل إلى ضرورة التعامل معها بحذر لعدم الوقوع في براثنها.



كما دعا مسلمي ماليزيا إلى تعلم الكفاءة الصينية، واعتبر تلك الكفاءة بمثابة النموذج الأمثل للمالاي وكانت هذه أفكاره عندما أصبح رئيسا للوزراء، وهو ما دعا القيادات الإسلامية في ماليزيا إلى اتهامه بأنه لا يسعى إلى بناء توازن بين المالاي والصينيين، ولكنه يريد تحول المالاي إلى صينيين، لكنه اعتبر هذا الاتهام تنبيها مهما له دفعه لتعزيز تواصله مع العناصر الإسلامية بتوازن يحفظ زخم التجربة، وهو توازن يدرك طبيعة التركيبة الماليزية.

وبالنسبة للمالاي فإن الإسلام ليس مجرد ديانة ، ولكنه دائما مكون محوري من مكونات أسلوب المالاي في الحياة، كما أن نظام القيم في المالاي مرتبط بالإسلام"[12].



ونلاحظ هنا " أنه عندما زاد نفوذ حركة دار الأرقم" الإسلامية في بناء قرى إسلامية مستقلة لأبنائها يتم فيها تطبيق مبادئ الدولة الإسلامية بالشكل الانعزالي الذي تتصوره الحركة، ويخلق فُرقة وتنافر بين أطراف المجتمع؛ بل انعزالا عدائيا ضد بقية عناصر الأمة، قامت حكومة محاضير بالحصول على فتوى شرعية حظرت من خلالها أنشطة الحركة"[13].





--------------------------------------------------------------------------------


1 - جريدة الأهرام 23/1/2004


[2] - محمد السيد سليم وآخرون –الفكر السياسي لمحاضير محمد – برنامج الدراسات الآسيوية- جامعة القاهرة- الطبعة الأولى 2006 ص 187، 179.


[3] - محمد السيد سليم وآخرون –الفكر السياسي لمحاضير محمد – برنامج الدراسات الآسيوية- جامعة القاهرة- الطبعة الأولى 2006 ص181.


[4]) جابر عوض- محاضير محمد وقضية التعددية العرقية في المجتمع الماليزي-بحث ضمن كتاب الفكر السياسي لمحاضير محمد-القاهرة- ص 175


[5] ) محمد السيد سليم- محاضير محمد آخر عظماء آسيا والمسلمين في القرن العشرين –مجلة الهلال- القاهرة ديسمبر 2003ص 102.


[6] - محمد السيد سليم وآخرون –الفكر السياسي لمحاضير محمد – برنامج الدراسات الآسيوية- جامعة القاهرة- الطبعة الأولى 2006 ص5،181.


[7] - نيلي كمال الأمير – دور البرلمان في السياسات الاجتماعية :دراسة حالة ماليزيا- بحث مقدم إلى مؤتمر البرلمان والسياسات الاجتماعية بنقابة الصحفيين المصرية –أكتوبر 2004.


[8] - محمد السيد سليم- محاضير محمد آخر عظماء آسيا والمسلمين في القرن العشرين –مجلة الهلال- القاهرة ديسمبر 2003ص 102.


[9] - محمد فايز فرحات- ماهي المهاتيرية؟ ملف الاهرام الاستراتيجي- يناير 2001.


[10] - هدى ميتكيس – رؤية محاضير محمد للتنمية- بحث ضمن كتاب "الفكر السياسي لمحاضير محمد- مرجع سابق :ص71


[11] - ماجدة صالح: محاضير محمد والقيم الأسيوية- بحث ضمن كتاب الفكر السياسي لمحاضير محمد- مرجع سابق- ص 149.


[12] - سليمان العسكري- ماليزيا-مهاتير ..إجابة عن سؤال محوري- مجلة العربي الكويتية- عدد 552 نوفمبر 2004.


[13] - سليمان العسكري- ماليزيا-مهاتير ..إجابة عن سؤال محوري- مجلة العربي الكويتية- عدد 552 نوفمبر 2004.

الأحد، 11 ديسمبر 2011

طموحات قطر: ضيق المكان

أسعد أبو خليل

ماذا يحدث أمام ناظرينا؟ الشيخ محمد بن راشد ينظّر في أمور الثورات العربيّة، وأبواق أمراء آل سعود تعظ الشعب المصري في أصول الحكم الديموقراطي. والشيخ حمد بن جاسم يعدّ نفسه الراعي الرسمي للانتفاضات العربيّة، مع أنّ قطر دعت تسيفي ليفني ذات مرّة للوعظ في مؤتمر عن الديموقراطيّة. ليس من يسأل في عصر طغيان المال السعودي والقطري في الإعلام العربي: كيف تأهّلت قطر لقيادة مسيرة الديموقراطيّة (المزعومة) في العالم العربي؟ هل بالوسيلة نفسها التي أهّلت قطر لاستضافة الـ«فيفا»؟ وماذا حصل كي تنتقل الحكومة الأميركيّة من تجريم «الجزيرة» وتحريمها، إلى دعوة المحطات الأميركيّة لاقتفاء آثارها في التغطية؟ سنة واحدة قلبت الموازين وعكست المعايير. كيف لا تُصاب بالدوار وأنت تتابع الأحداث؟

كان مشهد المُراسِلة القديرة والشجاعة منى عشماوي وهي تسأل ـــــ لا بل تسائل ـــــ وزير الخارجيّة القطري، حمد بن جاسم، مشهداً للتاريخ. لم يعتد مندوبو دول الطغيان العربيّة أن يُسائلهم صحافي عربي. هؤلاء تعوّدوا أن يسمحوا فقط للمراسلين الأجانب بمساءلتهم: للرجل الأبيض في بلاطات حكّام العرب (ملكيّين وجمهوريّين على السواء) حظوة ما بعدها حظوة. أما الصحافيّون العرب، فهم عادة جزء من الحاشية التي يصطحبها الزعيم أو وزير الخارجيّة معه للزينة ولجلب المشروبات في بعض الأحيان. منى عشماوي (التي لم تهب حكم مبارك في عزّه) كثّفت في ثلاثة أسئلة كلّ التناقضات التي تستعر في السياسة الخارجيّة القطريّة وفي ما يصدر عن الجامعة العربيّة من فتاوى مُرتبكة وغير نهائيّة (وذات نفس مُستورَد ومُترجَم عن الإنكليزيّة). ما استطاع حمد بن جاسم أن يجيب إلا من خلال التعريض بالمحطة، ناسياً أنّها موالية لسياسة قطر. لمّح حمد بن جاسم إلى السياسات والصراعات اللبنانيّة، وكأنّ سؤال منى عشماوي لا يخطر ببال العرب.

ماذا يستطيع أن يقول في مسألة التجاهل التاريخي للجامعة العربية إزاء جرائم إسرائيل، وخصوصاً أنّه مرّة دعا العرب إلى التوسّل لأميركا لعلّها تعطف على الحق العربي؟ ماذا تستطيع أن تقول، يا حمد بن جاسم، وأنت الذي أدى دور عرّاب التطبيع في قطر؟ ولماذا لم تكترث قطر لمعاناة الشعب السوري عندما أقامت حلفاً وثيقاً مع النظام السوري؟ ألم يكن القمع جارياً قبل الانتفاضة؟
لا شك في أنّ لقطر طموحات تفوق حجمها وتاريخها وموقعها. ولا شكّ في أنّ قطر تؤدي دوراً محوريّاً في السياسة العربيّة حاليّاً، وأنّها باتت المندوب الرسمي لمجلس التعاون الخليجي الذي راح بلا وجل، يختزل جامعة الطغاة العرب. ولا شك في أنّ محطة «الجزيرة» هي العماد الأساسي للسياسة الخارجيّة للحكم القطري. لكنّ هناك تحوّلاً حصل في السياسة القطريّة منذ اندلاع الانتفاضات العربيّة، أو قبلها بقليل. باتت السياسة القطريّة ملتصقة بسياسة تلك السلالة (السعوديّة) التي ناصبتها العداء (المتبادل) لسنوات. التساؤلات عن الدور القطري تشغل الكثيرين من متتبّعي السياسة الخارجيّة لدولة قطر ودورها في قيادة الثورة العربيّة المضادة.
تستطيع أن تعترف بأنّ قطر نجحت في تخطّي حدود ضيق المكان لترسم لنفسها دوراً إقليميّاً يمتدّ في كلّ العالم العربي. وتستطيع أن تعترف بأنّ الحكم القطري بات المُنفّذ الأساسي للسياسة الأميركيّة في المنطقة العربيّة، وخصوصاً أنّ الإعياء أصاب عدداً من وكلاء أميركا الإقليميّين. وعدوّ قطر الشرس، حسني مبارك (الذي رفض حتى آخر أيّامه أي حديث في المصالحة مع قطر)، مُستلقٍ على حمّالة ينتظر وفاته؛ لأنّ محاكمته ممنوعة بأمر سعودي. مثّلت محطة «الجزيرة» القوّة الضاربة للحكم القطري، ونافست محطة «العربيّة» السيّئة الذكر في إهمال المعايير المهنيّة وفي تسييس التغطية، على حساب جرائم إسرائيل المُستمرّة، من دون التقليل من أهميّة تغطية جرائم النظام السوري، وجرائم كلّ الأنظمة العربيّة بلا استثناء. لكن الأساس المُقرِّر في السياسة القطريّة هو العداء المُستحكم بين الأمير الحاكم والحكم السعودي. وسم العداء بين الحكومتيْن العلاقة الخارجيّة لقطر منذ وصول الأمير إلى السلطة في 1995. والأمير يحلّل ويعزو معظم قراراته في السياسة الخارجيّة إلى ما يراه من مؤامرات (حقيقيّة) من السعوديّة على حكمه (حتى من خلال النفاذ إلى داخل العائلة الحاكمة في قطر). لم يوافق آل سعود على تغيير الحكم في قطر لأنّه يتناقض مع المسلّمات السياسيّة التقليديّة (القبليّة ـــــ الجاهليّة) للسعوديّة، التي لا تقبل أي مساس بحكم السلالات وباحترام الأبناء للآباء وطاعة النساء للرجال و... بقطع الرؤوس. قرر الحاكم القطري الجديد أن يختطّ لدولته الصغيرة سياسة خارجيّة مميّزة ومتميّزة. البند الأوّل في سياسته كان في ربط قطر عضويّاً بالولايات المتحدة عبر تقديم خدمات عسكريّة كبيرة تدمج قطر بالاستراتيجيا الأميركيّة على المدى الطويل. سألتُ الأمير في أوّل لقاء لي معه في 2004 (دعاني مرتيْن للقائه، الأولى في 2004 والثانية في 2010، وفي المرتيْن كنت في الدوحة بدعوة من محطة «الجزيرة» للظهور على برامجها الحواريّة) عن سبب بناء قاعدة جويّة عملاقة للولايات المتحدة في قطر. أجابني بأنّها لم تكن للولايات المتحدة، بل هي لخدمة قطر. عاجلتُه بالقول إنّ قطر لم تكن تملك سلاحاً جويّاً عندما بنت القاعدة، وإن سارعتْ بعدها لشراء طائرات مُقاتلة. لكن الأمير عاد واستفاض في الحديث عن مخاوفه من الدور السعودي ومن مؤامرات سعوديّة على حكمه. قال لي إنّه مع احترامه لاختلافي مع خياراته السياسيّة، عليه تقرير مصلحة بلده. وتقديم الخدمات للحكومة الأميركيّة ليس بجديد على دول المحميّات الخليجيّة، وحتى على باقي ـــــ كلّ ـــــ الدول العربيّة، بما فيها تلك التي تتسربل برداء الممانعة؛ إذ إنّ الحكم السوري قدّم معونات استخباريّة و«تعذيبيّة» للولايات المتحدة، عبر العقود.
لكن قطر لم تكتفِ ببناء سياستها الخارجيّة بتقديم قواعد عسكريّة للولايات المتحدة. كانت أذكى من سائر الدول المُحيطة التي تنعمّت، ولم تمانع، في انتهاج صفة الخادم المُطيع لأميركا. قد يعود ذلك إلى توجّهات قوميّة عربيّة يُقال إنّها أثّرت على نشأة حمد بن خليفة، وقد يعود ذلك لذكاء في الترويج لقطر في الرأي العام العربي، وقد يعود إلى حرص شديد على تمييز سياسات قطر عن سياسات عدوّها السعودي اللدود. انطلقت «الجزيرة»، وكانت تتمتّع بحريّة شبه مطلقة في التغطية مع محاذير وممنوعات واضحة: عدم التطرّق للشأن الداخلي القطري، والابتعاد عن مواضيع الاقتصاد السياسي للطاقة في دول الخليج. كانت المحطة تستضيف معارضين ومعارضات من كلّ الدول العربيّة ـــــ إلّا من قطر طبعاً. وبرنامج «الاتجاه المعاكس» كان في السنوات الأولى نقطة جذب؛ لأنّه لم يترك دولة عربيّة إلا تطرّق إليها بجرأة لم تعهدها الصحافة العربيّة من قبل (خصوصاً بعد تدجينها في الحقبة الشخبوطيّة من التاريخ العربي المعاصر). لكن «الجزيرة» كانت لها أهداف سياسيّة واضحة لا لبس فيها (تكذب الوسيلة الإعلاميّة ـــــ العربيّة أو الغربيّة ـــــ التي تدّعي الحياديّة أو الموضوعيّة. هذه الكلمات تحاول أن تخفي الأغراض والنيات السياسيّة للوسيلة، ليس إلّا): كانت تركّز على السعوديّة وعلى نظام الحكم فيها. كان أوّل ظهور لي على المحطة من كاليفورنيا للحديث عن السعوديّة. وينسى البعض أنّ التحريض المباشر (ولا عيب في التحريض إذا كان من منطلق زعزعة الأنظمة القمعيّة كلّها على أن تكون الزعزعة غير مُنتقاة من أميركا وفقاً لمصالح إسرائيل) تبّنته المحطة قبل نحو عقد من انطلاق الانتفاضات العربيّة. كانت تستضيف المعارض السعودي، سعد الفقيه ـــــ وهو يزعج جدّاً الأمير نايف الذي شكّل لوبياً داخل العائلة المالكة لتحسين العلاقات مع قطر ـــــ وكان الفقيه يدعو إلى اعتصامات وتظاهرات واحتجاجات ـــــ وكانت دعواته تلقى بعض التجاوب. كذلك كانت المحطة تزيد من «تغطيتها» لهذه الدولة أو تلك، إذا ما عادت قطر، لسبب من الأسباب. كانت تغطية النظام الأردني، مثلاً، تصعد وتنخفض بناءً على مسار العلاقات. وكانت الدول العربيّة صريحة في مراميها من مفاوضاتها مع قطر، من حيث الطلب إلى حمد بن خليفة أو حمد بن جاسم للتقليل من هجمة «الجزيرة» (أخبرني أمير قطر أنّ الملك السعودي طلب منه منعي من الظهور في المحطة، مثلاً). وكان الصلح بين دولة ما وقطر يؤثّر على التغطية. لاحظتُ مثلاً، أنّ الصلح بين السعوديّة وقطر في الأعوام الماضية قلّل كثيراً من هامش التعبير في المحطة، وأكثر مَن عانى ذلك هو فيصل القاسم.
أضافت قطر جانباً آخر في علاقتها مع أميركا. تقرّبت من إسرائيل وأقامت علاقات سريّة وعلنيّة معها. سألتُ أمير قطر في لقائي الأوّل معه عن سبب هذه العلاقة مع إسرائيل وعمّا إذا كان الكونغرس يضغط عليه للتقرّب من تل أبيب. اعترفَ بأنّ هناك ضغطاً وأنّه لن يرضخ له بالضرورة، وقلّل من شأن هذه العلاقة. وعندما دخل حمد بن جاسم أثناء الحديث في 2004، قال له الأمير: الدكتور أسعد غير راضٍ عن سياستك التطبيعيّة مع إسرائيل، ولم يقل الأوّل كلمة واحدة جواباً. العلاقة القطريّة مع إسرائيل تُفهم من منطلق الصراط السائد بين الدول العربيّة (وشارك فيه ياسر عرفات مُبكّراً): أن المفتاح لقلب واشنطن لا يمكن إلا أن يمرّ بتل أبيب. والعلاقة مع إسرائيل تُفهم أيضاً، شأنها شأن الكثير من سياسات قطر الخارجيّة، من باب العداء السعودي ـــــ القطري. كانت قطر ترسل إشارات إلى واشنطن بأنّها مُستعدّة لأن تذهب أبعد من آل سعود في خدمة المصالح الأميركيّة في المنطقة، وأنّها أكثر جرأة في تحدّي الرأي العام العربي. لكن السياسة القطريّة مُعقّدة: لم تُهمل الرأي العام العربي (الذي لا يكترث آل سعود له إلا من باب التحريض الطائفي والمذهبي)، بل زاوجت بين سياستها التطبيعيّة ومساندتها لحركة حماس. كذلك استعانت قطر بيوسف القرضاوي لإنشاء إسلام إخواني موال لقطر، ومنافس لإسلام السلفيّة الوهّابيّة السعوديّة. ومحطة «الجزيرة» عكست هذا التناقض الذي تضمّنته؛ فهي من ناحية عبّرت عن نبض الشارع العربي والإسلامي، إلاّ أنّها فرضت على المشاهد (والمُشاهدة) في العالم العربي صورة الناطق الدعائي الإسرائيلي وصوته. صحيح أنّ ذاك الناطق لم يحظ بالترحاب على المحطة (خلافاً لمحطة «العربيّة»)، إلا أنّ فرض وجهة النظر الإسرائيليّة الدعائيّة من خلال مسؤولين إسرائيليّين ناقض مبدأ رفض التطبيع مع إسرائيل. خرقت «الجزيرة» الحاجز السياسي (سماه أنور السادات «الحاجز النفسي»، وكأنّ صراعنا مع إسرائيل هو نتاج حالة مرضيّة عند العرب)، وعمّمت نموذج التخاطب المُباشر مع الإسرائيلي. وهذا التطبيع الإعلامي أقام علاقة مباشرة بين الإعلامي العربي والحكومة الإسرائيليّة. لم تتورّع تسيفي ليفني، مثلاً، عن محاولة استدعاء مدير «الجزيرة»، وضّاح خنفر، أثناء زيارة لها في قطر للتعبير عن عدم رضائها عن تغطية «الجزيرة» لإسرائيل. (أخبرني خنفر في 2010 أنّه رفض الاستدعاء، لكنّه قبل أن يجتمع معها بحضور مسؤولين في «الجزيرة»، إلا أنّ الاجتماع كان غير ودّي، كما قال لي؛ لأنّ ليفني كانت فظّة في نقد «الجزيرة»، وأضافت أنّ محمود عبّاس يوافقها في نقدها). وكلّما كانت «الجزيرة» تعبّر عن نبض الرأي العام العربي، وخصوصاً في موضوع فلسطين الغالية، كانت أسهم قطر ترتفع. واستطاعت قطر أن تسرّب تحالفها الوثيق مع أميركا وتطبيعها مع العدوّ. السياسة كانت معقّدة وحقّقت مكاسب للحكومة القطريّة.
لكن الحرب الأميركيّة على العراق أثّرت في سياسة قطر وسلوكها السياسي. ضغطت إدارة بوش بقوّة على حكومة قطر، كذلك إنّ مدير الاستخبارات الأميركيّة في عهد بوش، جورج تينيت، نقل مرّة شبه تهديد إلى أمير قطر ولمّح إلى إمكان ضرب المحطة. انتهى اللقاء بمشادة، كما روى لي الأمير. كذلك إنّ نائب الرئيس الأميركي أنهى لقاءً رسميّاً مع الأمير، بعدما رفض الأخير بحث موضوع تغطية «الجزيرة»؛ لأنّ الموضوع لم يكن مُدرجاً على جدول الأعمال (كما روى لي الأمير، أيضاً). وكانت تلك الحقبة صعبة بالنسبة إلى الحكومة القطريّة، وقد تعاملت فيها «الجزيرة» مع أميركا بحذر شديد، وكان وضّاح خنفر يتباحث بتفصيل مع السفير الأميركي وغيره في أسلوب تغطية المحطة لمواضيع تهم أميركا، وتهم إسرائيل (أخبرني خنفر أنّ التقرير الدوري الأميركي عن تغطية «الجزيرة» كان يتضمّن نقداً لتغطية القناة مواضيع تهم إسرائيل، لا أميركا فقط). وبلغ الضغط على قطر بسبب «الجزيرة» حدّ الضغط على الأمير نفسه لخصخصة المحطّة. سألتُ الأمير عن إشاعة حصول مفاوضات لبيع المحطة من الإسرائيلي حاييم صابان (يتوافد عدد من ساسة لبنان «للمحاضرة» أمام مركزه في واشنطن)، فلم ينفِها. قال إنّه دخل في مفاوضات مع صابان، لكنّه لم يكن جديّاً فيها، ولم يكن في وارد بيع المحطة، لكنّه أراد تخفيف الضغط عن حكومته.
لكن الأمير ارتأى أنّ مصالحه تقتضي المصالحة مع السعوديّة، وكان هذا بداية لتغيير وجهة المحطة ووجهة السياسة الخارجيّة لقطر. وفي لقائي في 2010 مع الأمير (بحضور وضّاح خنفر)، عاجلتُه بالقول إنّني بتّ مطلوباً اليوم في «الجزيرة» للتعليق فقط على أحداث بعيدة كلّ البعد عن العالم العربي، وقلت له: أنا مُستعدّ لأن أساهم بحماسة في إثارة الخلاف والعداء من جديد بين السعوديّة وقطر. ضحك الأمير ونفى أن أكون ممنوعاً من الحديث عن الموضوع السعودي، وفهمتُ من جوابه أنّ الصلح بين السلالتيْن لم يكن عميقاً. تغيّرت «الجزيرة» مذّاك. التطبيع مع إسرائيل لم ينته. سألتُه عن الموضوع بالتفصيل في اللقاء الأخير، فقال إنّه لا تطبيع مع إسرائيل ولا عودة إلى العلاقة مع الكيان الغاصب. سألتُه إن كانت إصلاحاته التي كان يحدّثني عنها تسمح بتأليف لجنة أو حركة لمقاومة التطبيع مع إسرائيل في داخل قطر، فأجاب: لا، لأنّه ليس هناك تطبيع (يبدو أنّ الأمير لا يعلم أنّ هناك لجنة قطريّة سريّة لمقاومة التطبيع).
لكن اندلاع الانتفاضات العربيّة هو الذي قرّب بين قطر والسعوديّة إلى درجة غير مسبوقة. بعد انتفاضة البحرين (التي لم تقلق خاطر حمد بن جاسم؛ لأنّ عدد القتلى لم يكن كبيراً كما قال ردّاً على سؤال منى عشماوي)، رصّت دول مجلس التعاون صفوفها، وبدا كأنّ قطر سلّمت تماماً بالشروط السعوديّة لتشكيل المنطقة. سألتُ في 2010 أمير قطر عن سبب عدم السماح للأحزاب بالتشكّل في قطر، وعدم إتاحة المجال أمام التعبير عن معارضة الحكم، فقال لي إنّه لا يستطيع أن يسمح بذلك. سألته مُلحّاً، لماذا؟ قال: إنّ التطوّر السياسي في دولة ما في الخليج لا يمكن أن يتفوّق على التطوّر السياسي في دولة أخرى فيها. مجلس التعاون الخليجي أقرّ على عجل بعد اندلاع انتفاضة البحرين مبدأ تكافل بناء الطغيان الخليجي، وضرورة التعاون في فرض الطغيان في المنطقة برمّتها، على أن تتدخّل دول المجلس للتأثير على نتائج الانتخابات إذا كان فرض النظام بات مُستحيلاً. أقرّ المجلس مبدأ حق السعوديّة وباقي الدول في حماية طغاة الخليج. عندها فقط، ترسّخ الاتفاق السعودي ـــــ القطري. عندها فقط، زالت الفوارق بين «العربيّة» و«الجزيرة». بات المشاهد العربي في أزمة: يحار في أمره (وأمرها) كيف أنّ المحطة التي اختلفت نوعيّاً عن «العربيّة» باتت تبزّها في الدعائيّة وفي احتقار المعايير المهنيّة.
وقطر تنطّحت لأداء دور (مرسوم بالنيابة عن أميركا وحلفائها) متصدّر: هي التي قادت حملة دفع الجامعة العربيّة لإقرار مبدأ جعل حلف الناتو عضواً مرموقاً في الجامعة، وقوّتها الضاربة. والدور القطري في ليبيا كان مزدوجاً: لستر تدخّل الناتو قصفه وجعله عربيّاً وعروبيّاً، ولدعم القوى الأصوليّة المتطرّفة بين الثوّار في ليبيا كي لا تخرج ليبيا الجديدة عن السيطرة. السعوديّة لم تمانع في إتاحة المجال أمام الدور القطري، وخصوصاً أنّ بينها وبين القذّافي ثأراً طويلاً. لكن الصراع على السلطة في السعوديّة (ولنا عودة إليه قريباً) ترك فراغاً كبيراً في ساحة القرار العربيّة (في الجامعة وخارجها)، وقد زاد حجم هذا الفراغ بعد رحيل حسني مبارك. قطر تبوّأت مركز الصدارة، وتحوّل الأمين العام للجامعة العربيّة (وهو متخرج من المدرسة الساداتيّة للدبلوماسيّة) إلى مجرّد أداة في يد حمد بن جاسم.
لكن هذا التساهل السعودي مع الدور القطري القيادي لن يعمّر: إنّه مُتاح ما لم تتبلور معالم نتائج الصراع على السلطة بين مختلف أجنحة آل سعود. الحكم السعودي اليوم ضالع في مؤامرات إسرائيليّة عدة في المنطقة، لكن هناك غياب لسياسة موحّدة: إنّ صحف أمراء آل سعود تنطق بالخلافات بين الأمراء. كل أمير يغرّد على ليلاه، وكلّ أمير يتنافس مع أخيه لبناء علاقة مع إسرائيل. جريدة الأمير سلمان وأولاده، «الشرق الأوسط»، مثلاً، ترى أنّ العقيدة الليكوديّة هي أقصر طريق لتتويج الأمير سلمان. (هذا لا يعني أنّ نظريّات جماعة 8 آذار حول براءة الملك السعودي من السياسات والمؤامرات السعوديّة هي صحيحة ـــــ على العكس، إنّها تعكس الغباء السائد في تحليلات قنوات النظام السوري في العلاقات الدوليّة).
تنتشي الحكومة القطريّة بهذا الدور المُتعاظم. تأخذ راحتها فيما يتصارع أمراء آل سعود في السرّ، والخناجر مرفوعة تحت الأثواب الفخمة. لكن قطر لم تنعم بـ«عبقريّة المكان» وعدد السكّان بالكاد يتساوى مع سكّان حيّ من أحياء القاهرة. لكن حمد بن جاسم سيتواضع عمّا قريب بالتأكيد. أميركا تستنفد أغراضها وتغيّر وكلاءها كما يغّير المرء جواربه بعد يوم طويل. وأمراء آل سعود سيستيقظون من سباتهم عمّا قريب: وقد تصبح المنافسة بين الإخوان والسلفيّين في مصر (أو غيرها من الدول) تعبيراً عن الخلاف السعودي ـــــ القطري الذي لم يمت. ولا يستطيع حمد بن جاسم الحكم في أمور الديموقراطيّة: الرضيع من آل ثاني لديه من الحقوق والحظوة أكثر من كل القطريّين (والقطريّات) مجتمعين (ومجتمعات).
أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)