v
حديث في الهوية ـ 1 ـ
حديث في الهوية ـ 1 ـ
تفاديتُ دوما الخوض في مسألة الهوية، لأمور كثيرة، أولها أنني لن أبلغ الضفة
الاخرى مهما توغّلت في المعنى، و مهما أجدتُ التوغل، و ثانيها أنها تستلزم نمط
كتابة مرهق أيما ارهاق، لا يتحمله الوقت النادر الذي يتاح لي. و ثالثها أنني لا
أحبّ للقارئ أن يزج بقولي في معترك المطاحنات السياسية الحاصلة في البلاد،
فيتعبرها انتصارا لجهة ما.
لكن أعتقد اليوم أن الحاجة ملحّة لمعرفة من نحن، لما أراه من لخبطة تاريخية و
حضارية في أحاديثنا و أفكارنا. و أيضا تمهيدا لما قد أكتب لاحقا في خصوص مشاكلنا
مع التاريخ و هو من أوثق مشاكلنا و أكثرها اثارة للصداع...
و كان لكتاب أمين معلوف "الهويات القاتلة" أثر كبير في قراري الخوض
في الأمر، لسببين : الاول أن أغلب من عرفتهم قد قرأوا الكتاب، أساؤوا قراءته أو
لعلهم تعمدوا الاساءة في قراءته، فأخذوا بعضه و تركوا البعض الآخر. و لكنني سأحسن
الظن، و أحاول تبيين ما نقص من قراءتهم بما أوتيت من مودّة. أما الثاني، فلأن
الكتاب و قد اجتهد صاحبه في تنظيم أركانه و فصوله، قد سهّل لي مهمة الخوض في
المسألة، و تشكيل حديث على شيء من التناسق، من فوضى الافكار المتناثرة في اركان
خلاياي الرمادية.
لا يعني هذا أنني سأكتفي بتلخيص قول أمين معلوف في هذه الاسطر المعدودات و
امضي هانئ البال، فلئن أعجبني اجتهاد الرجل و حسن قوله و دقّة عباراته، فإنني لا
ازال أؤاخذ عليه مناقضته لنفسه بين قسميْ الكتاب. و لعلّ ذلك ما أحدث المغالطة
التي تبناها أكثر من قرأوا الكتاب، فكأنهم قرأوا جزءه الأول دون الثاني.
و لكي لا يكون الكلام ضاربا في التجرّد، أذكّر أن الكتاب تحدّث عن شكلين من
الهويّة، هوية الفرد، و هوية الجماعة. فبيّن من خلال الهوية الفردية، خصوصيات
الهوية، فهي ليست قالبا، و القالب كما تعلمون، هو ما يشكل أجساما متماهية تمام
التماهي، فهل الهوية كذلك؟ طبعا يسهل دحض الامر بمجرد تطلع المرء إلى أول شخص آخر
يصادفه.
و الهوية أيضا ليست أحادية الخليّة، بل هي مركّبة شديدة التركيب و التعقيد،
إلى حدّ يصعب تكراره و هو ما يجعل قولبتها مستحيلة. فكل امرئ متفرّد بذاته من خلال
الروافد التي شكلت هويّته : عائلته، زمن ولادته، الناس الذين عرفهم، الكتب التي لم
يقرأها، الحوادث التي عاشها أو عايشها، الحب الذي آلمه، الدين الذي دان به، الربّ
الذي عبده، اللغة التي شتم بها، الفيلم الذي اعجبه، التاريخ الذي لم يعرفه،
العظماء الذين تأثر بهم، العادات التي أنكرها، و حتى الفريق الذي تعصب له... كلها
روافد تشكّل هوية المرء، و تختصرها الدولة في رسم تسلسليّ على بطاقة بلاستيكية
صغيرة. اما نحن فنختصرها كل حسب أفكاره إلى "تونسيّ" أو
"عربيّ" أو "مسلم" أو "انسان"... و هذا الاختصار هو
لبّ حديث أمين معلوف كله و منتهاه كما سأبيّن لاحقا..
و فضلا عن القولبة، فللهوية سمة الحركية (الديناميكية)، فهويّة المرء حين
ولادته تختلف حتما عن هويته حين وفاته. و لا يمكن لشخص أن يظل نفسه و لو عزلوه
سنين طوال، لأن الهوية تنمو و تتحوّل كما الجسد تماما، او تباعا للدقة.
من أنا؟ انا اذا خليط تشكل قبل ولادتي فورثته، و خليط تشكل بعد ولادتي فعشته.
أنا اسمي الذي لم يسمّ به غيري و الذي ينتهي عند أول البشر. و اسمي لو عرفته
لاختزل أمورا كثيرة في هذا الموقف، ففيه مفردات من الجزيرة العربية، و أخرى من
تركيا، و أخرى بربرية، و ربما بونية، و ربما عثرت في رحلتي على اسم مسيحيّ او
اثنين، حتى اذا بلغتُ الاسماء اللوبية، أو القبصية، تلفتت في ذعر باحثا في ظلمة
التاريخ عن بقيّة الطريق، فخبتُ، فعدتُ إلى حيث أنا و قد عرفتُ أن ما بلغني من
هويّتي هو بعضها لا غير.
على أنّ الهويّة لا تشكّلها الثقافات فحسب، بل هي تؤثر عليها تأثيرا مباشرا و
قويا، و تحدد سبل تشكلها و نموّها، لكنها قطعا لا تشكلها بمفردها. إن الهوية اكثر
تعقيدا و خصوصية من الثقافة. فالثقافة جماعية بالاساس، لكنّ الهوية يمكن أن تكون
فردية. و لعل من السليم القول إنّ الثقافة هي الهوية الجماعية. لكنني لن أتعمق في
هذا المعنى لأن الصداع بدأ يكتنفني، و لأنني لم أرد بهذا القول إلا التمهيد للخوض
في الهوية الجماعية، و هو بمثابة الخوض في الجحيم برأيي.
و لأنّ هوية المجتمع هي "هوية" بالاساس، فهي تحافظ على ذات خصائص
هوية الفرد و ميزاته مع اختلاف بسيط في المصطلحات، فالتجربة عند الفرد، تصبح عند
الجماعة تاريخا، و اللغة عند الجماعة لا يلتزم بها الفرد تماما، و انما لكل فرد
لغة خاصة يختلف بها و يتميز بها عن اقرانه من الجماعة نفسها، (و هكذا، يتعرّف
الناس بيسر و سهولة على الشخص الذي أعنيه حينما أقول "بحيث.. انما.. " و
انثر النصوص القرآنية و النوادر في كل ركن من حديثي..*)، و تصبح آراء الجماعة و
أفكارها، دينا، كما يمكن تسمية خيارات المرء في حياته (كطريقة الاكل و الشرب و
اللباس و غيرها) عند الجماعة عادات و تقاليد.
فالهوية الجماعية تشكلها اللغة، و التاريخ و الدين و العادات و التقاليد. أو
هذا ما درج علماء الاجتماع على اعتماده. لكن لا يجب أن ننسى ابدا، ان الهوية
الجماعية ليست قالبا، و لا هي احادية الخلية، و لا هي ثابتة. و هو ما يقع فيه معظم
الناس في توصيفهم لهوية مجتمع ما.
هكذا، ينظر اليوم بعض التونسيين إلى بعض الاصول العرقية التي تعرّفهم دون غيرها،
فيقول إننا أمازيغ و لسنا عربا. و بنفس المنطق أيضا، يختصر المتديّن هويته في
"الاسلام" فكلنا مسلمون، و هذا كافٍ عنده. بينما يحاول آخرون التخلص من
هذا الصداع بالحديث عن "الهوية التونسية". من المحقّ و من المفتري؟ أين
المشكلة وسط هذه الفوضى الفكرية تحديدا؟ أعتقد أنه من الافضل الاجابة عن كل ذلك في
المقال التالي.
v
حديث في الهوية ـ 2 ـ
هذا ليس تدوينة مفردة، انما تكملة للحديث السابق بخصوص
الهوية. و هو حديث ـ على قصره ـ لا يلخّص، و الاسلم أن تبذل أصابعك شيئا من الجهد
و تنزل الى التدوينة السابقة، و كن واثقا أنها لن تأخذ منك وقتا أكثر من زمن
استهلاك سيجارة...
و التدوينة السابقة توقفت عند الاسئلة التي طرحها
التونسيون، كما المصريون و غيرهما من الدول العربية، بخصوص الهوية. و لعلّ مسألة
الهوية من نوادر المسائل التي يكون فيها السؤال أسهل من الاجابة. فلكل اجابة واثقة
و معتدّة بذاتها، أسئلة تقصمها، و تفتت غرورها. كأن يقول أحدهم (التونسيين) "نحن
عرب."، فماذا عن الاتراك الذين يملأون المدن العتيقة؟ و ماذا عن الذين وجد
آباؤهم في هذه البلاد من قبل أن يأتيَ العرب أصلا إلى هنا؟ أنطردهم جميعا من حاء
"نحن" و نحصر المعنى في شراييننا؟ ثم من "العرب" أصلا؟ بنو
هلال؟ بنو رياح؟ لو خضنا في مسألة الأعراق لتراءت لنا حقيقتان بديهيتان قد تفزعان
كل قوميّ متعصّب : هل كان الرسول صلى الله عليه و سلم عربيا؟ هو من قريش طبعا،
لكنّ نسبه ينتهي عند إبراهيم عليه السلام، فمن أي القبائل العربية كان إبراهيم؟ و
لو أن من نسله جاء بنو إسرائيل، فهم عربٌ أيضا. و حينما نوغل في هذا المعنى يَعرض
السؤال الثاني : فماذا كان أوّل العرب؟ و ماذا كان أول البشر؟ أليس العرق واحدا؟
هنا يمتدّ لسان أحدهم بالاجابة : انما نعني الثقافة العربية. فهل الثقافة
العربية كافية لتعريفنا؟ و ماهي الثقافة العربية؟ هل هي المعلقات السبع، و كرم
حاتم الطائي، و وفاء السموأل، و حكمة قسّ بن ساعدة، و حرب داحس و الغبراء، و أصنام
قريش، و اسماء الابل التي لا تنتهي؟ فماذا عن اسقفية الاسكندرية؟ و ماذا عن خبز
"الطابونة"، و الكسكسي المغاربي؟ و ماذا عن الطربوش التركي، و الحلوى
الحلبيّة، و موسيقى الراي الجزائرية، و ما تبقى في بغداد من الرقوق الآشورية
الثمينة؟ حتى في قلب شبه الجزيرة العربية، مالعربيّ في معمار الرياض و جدّة اليوم؟
حتى معمار المدينة المنوّرة بل المسجد النبويّ نفسه، ستجد خبراء يدلونك عن تفاصيله
ذات الاصول الفارسية او البيزنطية.
ما الذي يعنيه كل هذا؟ يعني أن الهوية الجماعية ليست قالبا تماما كما الفرد، و
انها ايضا مركبة، خليط من روافد أخرى كثيرة، او ربما للدقة تراكمات لا تنتهي
يرسّخها التاريخ يوما بعد يوما، و الا فما الذي يفرّق بين مصريّ و ليبيّ مثلا؟
أليست الاصول اللوبية التي تختلف حتما عن الاصول المصرية الفرعونية؟ و ما الذي
يجعل لبنان اقرب شبها للفلسطينيّ من البحرينيّ؟ أليس تاريخ الفينيقيين المجيد الذي
جمع بين تلك الربوع قبل ازدهار الثقافة العربية فيها؟
و بهذا المعنى، يمكن هدم كل محاولة لاختصار الهوية الجماعية في دين أو عرق أو
لغة أو ثقافة من الثقافات الرافدة (هذه الثقافات الرافدة نفسها خليط من ثقافات
مركبة اخرى)، و لن تبقى سوى عبارة وحيدة : نحن تونسيون، نحن جزائريون، نحن عراقيون
أو اماراتيون أو سعوديون.
و هي في الواقع عبارة شديدة الالتصاق بالارض و الزمن، فالغجر بهذا القول لا
هوية لهم، و اليهود أيضا (أعني بني اسرائيل طبعا)، كما أن بن دارفور كان بالامس
سودانيا، فتحول بجرّة قلم إلى جنوبيّ!
و لو اقتربنا أكثر مما نسميه "هويّة تونسية" فسيحيّرنا الاقتراب، و
سيزيد من أسئلتنا، يقال إن لغتنا العربية، و يقال إن لنا لغة بذاتها يمكن أن
نسميها "تونسية"، فكيف نقول "أنا" بتونسيتنا؟ على الطريقة
العاصمية؟ أم "آني" على الطريقة الساحلية؟ ام "أني" كما يقول
أهل قابس؟ أم "نايا" و هو المصطلح المستعمل في اغلب ارياف الشمال؟ ثمّ
إننا لو اقتربنا من الحدود الليبية، فسيطالعنا السؤال : مالذي يجعل هذه الاماكن
تونسية لا ليبية غير التقسيم الاداري؟ فلهجتهم أقرب إلى الليبيين من تونسيي
الشمال، و بالمنطق نفسه، سنجد اهل بنغازي اقرب للمصريين منهم الى الليبيين، أو
لعلّه العكس.
هكذا تسقط افكارنا الصماء بخصوص الهوية الجماعية، و هكذا توجّب علينا اعادة
تشكيل مفهوم الثقافة (اي الهوية الجماعية) بالبحث مرة اخرى، عن منطلق جديد. لكنّ
المنطلق هنا، موجود منذ البدء، و ان اسأنا استخدامه. ألم نقل منذ البداية، إن هوية
الجماعة كهوية الفرد في خصائصها؟ لم لا ننطلق من الفرد لنقيس على الجماعة؟ أين أجد
فردا أسوقه مثالا؟
هل قال أحدكم "انظر الى المرآة"؟
انا لستُ ربع مهندس، أنا مهندسٌ كامل، هل يعني ذلك أنني
أتماهى مع بقية المهندسين؟ حتما لا. ففضلا عن كوني مهندسا، فأنا
"فرشيشيّ"، و حينما أقول إنني كذلك، فليس رأسي فرشيشيا، و لا يداي، بل
انا كاملا، احمل كلي الصفتين. كنت أيضا طالبا بالجامعة. و كان عليّ ان اتعامل بشيء
من الاحترام مع استاذة درستني، هي منذ سنتين صديقة لي تقريبا. حينما ينتهي الدرس،
تنتهي هويتي كطالب و هويتها كمدرسة، و نعود صديقين.
و هويتي كطالب لا تنتفي و لا هويتي ككاتب أو كرئيس ناد
جامعيّ، بل كل منها يتقدم على الاخر باختلاف الحال و الموقف دون ان يذهب أي منها
دون رجعة.
و لو قسنا على ذلك، فأعتقد أن نصف مشاكلنا قد انزاحت جانبا، فنحن متوسطيون ان
بحثنا عمّا يجمعنا بالايطاليين مثلا، و نحن عرب اذا بحثنا عن ما يميّزنا عنهم. نحن
امازيغ ان اردنا التميز عن العرب، و نحن شرق ان اردنا التميّز عن الغرب. نحن
تونسيون ان بحثنا ما يجمع بيننا و نحن "منازلية" و "قراوة" و
"سواحلية" لو بحثنا في ما يميّزنا..
الثقافة شديدة الديناميكية، و هي و ان كانت واحدة
فمتعددة الاوجه، بتعدد الناس الذين يمثلون الجماعة. و من الحمق نكران بعض الوجوه و
ان كان وجها شاحبا أو لا يكاد يرى لضعف تأثيره.. خصوصا اذا كان تأثير ذلك
"الوجه" ملحوظا في حياتنا. لذلك فمن ينكر وجهه الامازيغيّ من التونسيين،
تعصبا لفكر قوميّ مثلا، هو شخص لا ينظر إلى نفسه جيدا في المرآة، و من يرفض وجهه
العربيّ، لتعلات ايديولوجية أو ميتافيزيقية ضيقة، لا أظنه يملك مرآة أصلا...
و لأن الأمور لا تحلّ بهذه البساطة، فالاسئلة لا تكفّ عن
الهطول، و تزداد ازعاجا كلما ازداد المرء توغّلا.. فالقول الاخير يشي بوجود ما
يجمع بين الناس و ما يميّز بينهم، مهما اختلفت احوالهم و مهما بعدت المسافات ما
بينهم. و مثال ذلك ما يجمع بين الاسبان و اهل امريكا اللاتينية من اللغة، و ما
يجمع بين اليابانيين و الامريكيين من حب كرة القاعدة (البايزبول)، و قد تكون
العلاقة أكثر عمقا و اثارة للحيرة، مثلما يشهد بذلك التشابه المريب بين اهرامات
الجيزة في مصر و اهرامات الازتيك في المكسيك.. فللتاريخ أيضا خباياه بخصوص
حقيقتنا... و لأن الانسان سيجد دوما ما يجمع بينه و بين الآخرين، فلِم يبحث عمّ
يميّزه؟ ألم يكن ذلك مهدا لصراع الحضارات؟ أليست الهويات كما يقول معلوف
"قاتلة" لتفريقها بين الناس و حملهم على التعصّب؟ ألا تمثل العولمة
مخرجا من كل هذا؟ و هل هويتنا او هوياتنا هي سبب تخلفنا و نكبتنا؟
v
حديث في الهوية ـ 3 ـ
هذا ليس تدوينة مفردة، انما تكملة للحديث السابق بخصوص
الهوية. و هو حديث ـ على قصره ـ لا يلخّص، و الاسلم أن تبذل أصابعك شيئا من الجهد
و تنزل الى التدوينة السابقة، و كن واثقا أنها لن تأخذ منك وقتا أكثر من زمن
استهلاك سيجارة...
كنتُ قد
لخصتُ في نهاية حديثي إلى طابع الهوية الجماعية الديناميكيّ، و إلى تعدد أوجهها
التي يشعّ أحدها أكثر من الآخرين، و يخفت بريق بعضها حسب الحالة و حسب المكان و
الزمان و الوضعية التي يمرّ بها المجتمع.
كما تعظم بعض الوجوه و يكبر سطحها مقارنة ببعض الوجوه
الاخرى التي قد لا تكاد تُرى لولا بعض كلمات متسللة إلى اللغة، أو بعض آثار لا
تزال صامدة بوجه الزمن.. و كي نقترب أكثر بمثال الشكل المتعدد الاوجه لشكل الهوية،
يجب الاشارة أنّ كل وجه من وجوه الهوية، ليس "مسطّحا" تماما و انما هو
نفسه يتكوّن من ملايين الوجوه الصغيرة غير المتداخلة بشكل غير مرئيّ حتى يبدو
للناظر كأنه وجه واحد. ففي هويتنا مثلا وجه عربيّ، و وجه أمازيغيّ، و وجه اسلاميّ،
لعلها أبرز الوجوه و أكبرها مساحة، و بها تتلوّن هويتنا أكبر تلون، لكن لا يمكن
نسيان بعض الوجوه الاخرى فقط لأنها صغيرة لا تكاد ترى، كالجرمانية مثلا، او
الفندالية، فنحن لا نلحظ في ثقافتنا أي طابع "فنداليّ"، لكن هناك يقين
أن هذا الوجه هنا، في مكان ما من انفسنا و عاداتنا... لكنّ الوجه العربيّ أو
الاسلاميّ ليسا مسطحين تماما، بمعنى ليسا خالصين، بل إن كلا منهما خليط دقيق من
الوجوه المجهرية التي لا تكاد ترى، فوجهنا الاسلاميّ قد لا يخلو من عادات و طقوس
ذات أصول يهودية، بل وثنيّة أحيانا، و هذا لعله موضوع آخر، و وجهنا العربي هو خليط
من الوجه اليمانيّ، و الشآميّ، و ربما الآشوريّ، و الفينيقيّ، و العبرانيّ...
هذه حقيقة هويتنا، معقدة، مركبة، ضخمة، عسيرة الاستيعاب،
حيّة، متحركة، متشكلة بتشكل الاحوال و المجتمعات. فما الذي يجعلنا نرفع لواء وجه
دون غيره، و ما الذي يجعلنا نرفض وجها دون آخر و هو فينا؟
أمين معلوف الذي انطلقت من كتابه (الهويات القاتلة) في
بداية حديثي، لم يهتم كثيرا بطابع الهوية الجماعية المركب و الديناميكي، و انما
تحدث عن ذلك في بداية الكتاب كميزة لهويّة "كل فرد" فينا، و خلص في
النهاية إلى استنكار ضرورة الانتماء الى "هوية" (يقصد وجه من وجوه
الهوية) ما دون غيرها، و رأى أن ليس على الشخص الافتخار بأن يكون عربيا أو كرديا
أو تركيا، فهو لم يختر ذلك، و مهما تكن هويته فسيفخر بها و هو ما يجعل هذا الفخر
سخيفا. مع ذلك، قدم في قالب حديثه عن الهوية الجماعية (الثقافة) تفسيرا واضحا لهذه
الظاهرة.
يقول بن خَلدون "الاجتماع الإنساني ضروري ويعبر
الحكماء عن هذا بقولهم الإنسان مدني بالطبع أي لا
بد له من الاجتماع الذي هو المدينة في اصطلاحهم وهو معنى العمران" و لأن كل
حاجة اجتماعية (كالتكاثر) تقابلها حاجة نفسية (كالحبّ) تدفع الانسان إلى تحقيق
الاولى، فحاجة الانسان إلى الاجتماع، تفرض عليه الحاجة إلى الانتماء، و لا يوجد
انسان قادر على التخلص من الحاجة إلى الانتماء. أنت تبحث أن تنتمي إلى أشياء بسيطة
جدا، موسيقى الفلامنكو، فريق كرة قدم، جمعية خيرية، كارهو اللون الرماديّ، أحباء
الننتاندو، أو كارهو الـiPhone، لذلك،
ستفرح كثيرا حينما تقدم الـplaystation لعبتها الجديدة، أو ستضحك كثيرا على النسخة الجديدة من الـwii، ستغني بفخر آخر أهازيج جماهير اليوفي، لأن الفخر ليس المعنيّ بحد
ذاته، و انما النشوة التي يحدثها الانتماء.. و يمكن لذلك أن نسوق ذات المعنى على
عظيم الامور : الانتماء إلى حزب سياسي، إلى مذهب دينيّ، إلى فلسفة، إلى وطن، إلى
عرق، إلى لغة، الخ.. الانتماء فطريّ في الانسان و لا يمكن أن يرفضه عاقل. و لأن
التعصب هو اسراف في الانتماء، فلا يمكن الحكم على شيء من خلال الاسراف فيه،
فالاسراف في كل شيء سيء و مضرّ، اما لماذا يحدث الاسراف في الانتماء فهذا ما سأعود
إليه لاحقا.
لكنّ حاجة الانتماء، تقابلها حاجة أخرى يمارسها الانسان
بكل امتياز، ألا و هي الحاجة للتميّز. و الحاجة للتميّز هي حاجة الانسان الفطرية
لأن يشعر بذاته الفرد. لأن لا يذوب وسط الجمع الذي ينتمي إليه. لذلك فالانسان في
خضم نخوته بالانتماء لجماعة، يبحث أيضا عمّا يميّزه عنهم. و في هذا التواتر بين
التميّز و الانتماء، تتكون شخصية الانسان، اما ثائرا مفرطا في ثورته عن جماعته حتى
ينعزل، و اما ذائبا تماما وسط القطيع، منسحبا مع التيار ناسيا وجوده الفرد تماما،
و اما على شيء من التوازن بين هذا و ذاك.
و لأن الحاجة البشرية إلى الانتماء و التميّز فطرية
بالاساس، فالمفرط في ثورته، سيبحث عن الانتماء إلى جماعة أخرى غريبة عما حوله،
سيبحث عن تلك الجماعة في عالم آخر، أو تاريخ آخر، أو جنس آخر، أو لغة أخرى... و
الذائب في تيار الجماعة، ستمرّ به لحظات كثيرة من الشك و التفكير بذاته الغارقة،
فيرهبه البعد، و ترهبه المحاولة، فيعود إلى السطح مرتبكا "مستغفرا" من
أحساسيسه... قد اذهب الى اعتبار أن الدول الشيوعية، بالغت في طمس فعل التميّز و
تضخيم فعل الانتماء، بينما حاولت الليبرالية قتل الانتماء و التكريس "لأنا و
من بعدي الطوفان"، لكنّ هذا سيجرّنا إلى متاهات لا يتحمّلها حديثنا.
ان هذه الطبيعة البشرية المتأرجحة بين التميّز و
التماهي، بين التمرد و الانتماء، تجعل من المحال أن يتوحد البشر تحت هوية واحدة،
او ثقافة واحدة، مهما كانت متعددة الاوجه مركبة، سيظل دوما هناك اختلاف باختلاف
المناخ، و التاريخ، و المعتقد، و طريقة النطق، و غيرها. لكنّ العالم اليوم، مع
تطور وسائل التواصل و الاعلام، بدأ يكوّن وسائل تلقي مشتركة، كالتلفاز و الانترنت،
و من خلال هذه الوسائل، باتت ثقافة الآخر متاحة لكلّ مجتمع (تقريبا) و كلّ بيت، و
لم يعد بعد المسافة حاجزا لتفاعلات ثقافية لا تقل أهمية عن التفاعلات التي تحدث في
حالات الغزو، أو التواصل التجاريّ المكثف (و قد كانا أكثر الطرق التي كرّست
للتلاقح الثقافي عبر التاريخ).. و لكنّنا حينما نتحدث عن التلاقح فإن هناك دوما
مجتمعا سيفرض ثقافته على مجتمع آخر، و لو عبر من الثاني شيء إلى الاول. و هذا
بالضبط ما يحدث اليوم. فوسائل التواصل لا تقدم ثقافة المجتمعات بصفة متوازنة، و
انما للأقوى الحظُ الأوفرُ، و هذا لعمري أمر طبيعيّ، لكنّ نتائجه ليست طبيعية
بالمرة. فالتلاقح الحضاريّ اليوم ليس عموديا فحسب، بل و سريعا إلى درجة تفوق
الاستيعاب أحيانا. ما الذي سيحدثُ إذا؟ ستحدثُ ردّة فعل قويّة تجاه ذلك. تبدأ
بتضخم نزعة الانتماء إلى أحد وجوه ثقافة المجتمع المتلقي، تضخما كبيرا، قد يصل حد
التعصب، و التطرف أيضا.
تقدّم العولمة على أنها ثقافة مشتركة، قيم كونية، و مجمع
لثراء التراث البشري و تراكماته، لكنّ الامر أبعد ما يكون عن الصورة المثالية التي
تقدم. فلو اعتبرنا بموجب تعريفنا السابق للثقافة أن العولمة هي ثقافة العالم، فهي
ككل ثقافة، متعددة الاوجه، و طبعا هناك وجه ما (أو أوجه) ستحتل أغلب المساحة،
بينما تكون بعض الوجوه مجهرية تماما. لذلك يستقبل مجتمع ما هذه الثقافة الجامعة،
على أنها مألوفة، فهو يرى فيها وجهه بوضوح، بينما لا يجد مجتمع آخر مساهمته فيها،
فيعتبرها دخيلة، و في غالب الاحيان مخالفة لثقافته، فيعاديها و يرفضها، خصوصا
حينما تلعب عناصر أخرى غير الثقافة دورا في هذا العداء (كالمصالح الاقتصادية).
و لكن هذا التفسير لا يمكن أن ينطبق طبعا على كل حالات
التعصب الثقافيّ، لأن الامر معقد و تتداخل فيه امور كثيرة، لكنّه دوما الاحساس
بالتهديد هو ذاك الذي يدفع للتعصب. الخوف كان و لا يزال المفتاح. خوف الغجر من
الذوبان في الاوطان التي تأويهم، تجعلهم منغلقين على ثقافتهم، خوف اليهود من زوال
ثقافتهم جعلتهم أكثر المجتمعات انغلاقا، خوف البريطونيين من ذوبان ثقافتهم
في الثقافة الفرنسية، جعلتهم ينغلقون على انفسهم، كذلك المطالبات بالاستقلال في
اسبانيا، أغلبها رفض لاسقاط الثقافة القشتالية اسقاطا عليهم، فلكل منهم لغته و مكوّنات
هويته. و مادام لا يرى في القشتالية شيئا من مساهمته هو، فلا يمكن أن يتقبلها.
و لأن عالم اليوم، يجعل من التواصل حتميا، فإن هذا
التهديد قائم لكل الثقافات بلا استثناء. فما الحل اذا؟ المساهمة! قواعد اللعبة
سهلة : دافع عن ثقافتك، انشر ثقافتك، ستجد انعكاسها في ثقافة العالم، و لن تبدوَ
حينئذ هوية العالم غير مألوفة لناظريك، و ستتقبلها على أنها نابعة منك، و من
ذاكرتك. حينما تنقذ ثقافتك من الذوبان، فانت تحقق حاجتك من التميز و الانتماء.
و لم الانتماء إلى ثقافة خاسرة؟ لماذا الانتماء إلى وجه
مجهري؟ اليس من الطبيعيّ ان تذوب ثقافات و تنشأ ثقافات جديدة؟ لأن الانسان ولد
مختلفا عن اخيه الانسان، لأنه لو ذاب وسط ثقافة اخرى، فسيخسر العالم ثقافة كاملة
بكل ما فيها من قيم و افكار و فلسفة و رؤى مختلفة للعالم. لقد جُعل الانسان شعوبا
لتعارف فيما بينها، و تتواصل و تتبادل الافكار و الرؤى و الفلسفات، و ما يجعل هذا
ممكننا هو اختلاف هذه الشعوب. إنه سرّ اختلافنا و اجتماعنا.
لقد خلص أمين معلوف أن جهود الامم في الدفاع عن هوياتها
مردها الخوف من الذوبان و التلاشي، لكنه ـ ربما لعدم اقراره بحاجة الانسان الفطرية
للانتماء و التميز ـ لم يخلص إلى مشروعية هذا الدفاع. أن تدافع فرنسا على لغتها من
الغزو الانكليزي، لا يعني قط ان تحارب اللغة الانكليزية، بل هي تحاول ان تحتويها
في قالبها الفرنسيّ، يساعدها في ذلك تقارب اللغتين، و اليوم و ان طرأت كلمات
انكليزية كثيرة على اللغة الفرنسية، فإن عدد الكتب المترجمة من الانكليزية الى
الفرنسية، و قدرة فرنسا على الانتاج الثقافيّ، تحد كثيرا من ذلك. كما أن تأثير
الثقافة الفرنسية على الامريكية حول الكثير من الثقافة الفرنسية إلى الثقافة
العالمية المشتركة.
رغم كل ذلك، و رغم حجم التأثير الثقافي الفرنسي على
العالم، أجد نفسي جالسا امام عجوزين فرنسيين في أحد ضواحي باريس، اواخر تشرين،
بينما الرجل يسأل المرأة : "لكن هذا "الهالوين" ليس من عاداتنا.
لماذا علينا الاحتفال به؟"
ان هذا التطلع للمشاركة في الهوية الجماعية، ترنو إليه
كل الشعوب و اكثرها تأثيرا في العالم، و لأنني سقت فرنسا مثالا، فلاواصل و لأسق
مثال اللجنة الاولمبية العالمية، التي اسسها الفرنسيّ بيار دي كوبرتان، فأصرت
فرنسا أن تظل اللجنة معتمدة على الفرنسية كلغة رسمية لها. انها البصمة التي تريد
ان تتركها. انه الوجه الذي تريد أن تراه في الهوية العالمية، حتى تتقبله كاملا
كأنه منها.
لكنني قبل أن اختم، أعتقد أن عليّ العودة إلى عالمنا
الصغير، نحن العرب مثلا، مادمت اسوق الحديث بلغة الضاد، كي أبيّن أننا على
اختلافاتنا الكثيرة بفعل المكان و الزمان و الاحداث، فما يجمعنا كثير، لم يزد ما
حصل في المنطق مؤخرا الا تأكيده : فبمجرد هبوب رياح الثورة في تونس، تبعتها مصر،
فاليمن، فليبيا فسوريا، و عمت الاحتجاجات كامل المنطقة العربية، و ان نجح بعضها في
قلب النظام و فشل آخرون، لكن كان ذلك دليلا ان همومنا واحدة و ما يحركنا واحد. بل
اننا نعاني الالم ذاته، و ربما دواؤنا سيكون واحدا. فصغتُ هذا الحديث في الهوية،
لأبين من نحن، و ما نبغي، أو على الاقل ما ينبغي أن نبغيه. و خلصتُ أن اختلافاتنا
طبيعية، و ان اجتماعنا طبيعيّ ايضا، و ان خوفنا شرعيّ، و حقنا في الدفاع عما
يجمعنا ليس فيه ما يصمُ، لأن انقاذ العروبة، هو انقاذ لأحد وجوه الهوية العالمية
الاكثر ثراء.
إن الهوية قاتلة بقدر ما هي مقتولة، و لا يمكن التخلص من
التطرف و التعصب الا بمحاربة الخوف أولا. حينها، لن تقدر الاصوات الجاهلة و
الحمقاء أن تؤثر قيد انملة في الشعوب. لأن الفطرة سوية.