الثلاثاء، 18 سبتمبر 2012

حديث في الهوية

v               
حديث في الهوية ـ 1 ـ
تفاديتُ دوما الخوض في مسألة الهوية، لأمور كثيرة، أولها أنني لن أبلغ الضفة الاخرى مهما توغّلت في المعنى، و مهما أجدتُ التوغل، و ثانيها أنها تستلزم نمط كتابة مرهق أيما ارهاق، لا يتحمله الوقت النادر الذي يتاح لي. و ثالثها أنني لا أحبّ للقارئ أن يزج بقولي في معترك المطاحنات السياسية الحاصلة في البلاد، فيتعبرها انتصارا لجهة ما. 

لكن أعتقد اليوم أن الحاجة ملحّة لمعرفة من نحن، لما أراه من لخبطة تاريخية و حضارية في أحاديثنا و أفكارنا. و أيضا تمهيدا لما قد أكتب لاحقا في خصوص مشاكلنا مع التاريخ و هو من أوثق مشاكلنا و أكثرها اثارة للصداع...

و كان لكتاب أمين معلوف "الهويات القاتلة" أثر كبير في قراري الخوض في الأمر، لسببين : الاول أن أغلب من عرفتهم قد قرأوا الكتاب، أساؤوا قراءته أو لعلهم تعمدوا الاساءة في قراءته، فأخذوا بعضه و تركوا البعض الآخر. و لكنني سأحسن الظن، و أحاول تبيين ما نقص من قراءتهم بما أوتيت من مودّة. أما الثاني، فلأن الكتاب و قد اجتهد صاحبه في تنظيم أركانه و فصوله، قد سهّل لي مهمة الخوض في المسألة، و تشكيل حديث على شيء من التناسق، من فوضى الافكار المتناثرة في اركان خلاياي الرمادية.

لا يعني هذا أنني سأكتفي بتلخيص قول أمين معلوف في هذه الاسطر المعدودات و امضي هانئ البال، فلئن أعجبني اجتهاد الرجل و حسن قوله و دقّة عباراته، فإنني لا ازال أؤاخذ عليه مناقضته لنفسه بين قسميْ الكتاب. و لعلّ ذلك ما أحدث المغالطة التي تبناها أكثر من قرأوا الكتاب، فكأنهم قرأوا جزءه الأول دون الثاني.

و لكي لا يكون الكلام ضاربا في التجرّد، أذكّر أن الكتاب تحدّث عن شكلين من الهويّة، هوية الفرد، و هوية الجماعة. فبيّن من خلال الهوية الفردية، خصوصيات الهوية، فهي ليست قالبا، و القالب كما تعلمون، هو ما يشكل أجساما متماهية تمام التماهي، فهل الهوية كذلك؟ طبعا يسهل دحض الامر بمجرد تطلع المرء إلى أول شخص آخر يصادفه.
و الهوية أيضا ليست أحادية الخليّة، بل هي مركّبة شديدة التركيب و التعقيد، إلى حدّ يصعب تكراره و هو ما يجعل قولبتها مستحيلة. فكل امرئ متفرّد بذاته من خلال الروافد التي شكلت هويّته : عائلته، زمن ولادته، الناس الذين عرفهم، الكتب التي لم يقرأها، الحوادث التي عاشها أو عايشها، الحب الذي آلمه، الدين الذي دان به، الربّ الذي عبده، اللغة التي شتم بها، الفيلم الذي اعجبه، التاريخ الذي لم يعرفه، العظماء الذين تأثر بهم، العادات التي أنكرها، و حتى الفريق الذي تعصب له... كلها روافد تشكّل هوية المرء، و تختصرها الدولة في رسم تسلسليّ على بطاقة بلاستيكية صغيرة. اما نحن فنختصرها كل حسب أفكاره إلى "تونسيّ" أو "عربيّ" أو "مسلم" أو "انسان"... و هذا الاختصار هو لبّ حديث أمين معلوف كله و منتهاه كما سأبيّن لاحقا.. 

و فضلا عن القولبة، فللهوية سمة الحركية (الديناميكية)، فهويّة المرء حين ولادته تختلف حتما عن هويته حين وفاته. و لا يمكن لشخص أن يظل نفسه و لو عزلوه سنين طوال، لأن الهوية تنمو و تتحوّل كما الجسد تماما، او تباعا للدقة.

من أنا؟ انا اذا خليط تشكل قبل ولادتي فورثته، و خليط تشكل بعد ولادتي فعشته. أنا اسمي الذي لم يسمّ به غيري و الذي ينتهي عند أول البشر. و اسمي لو عرفته لاختزل أمورا كثيرة في هذا الموقف، ففيه مفردات من الجزيرة العربية، و أخرى من تركيا، و أخرى بربرية، و ربما بونية، و ربما عثرت في رحلتي على اسم مسيحيّ او اثنين، حتى اذا بلغتُ الاسماء اللوبية، أو القبصية، تلفتت في ذعر باحثا في ظلمة التاريخ عن بقيّة الطريق، فخبتُ، فعدتُ إلى حيث أنا و قد عرفتُ أن ما بلغني من هويّتي هو بعضها لا غير.

على أنّ الهويّة لا تشكّلها الثقافات فحسب، بل هي تؤثر عليها تأثيرا مباشرا و قويا، و تحدد سبل تشكلها و نموّها، لكنها قطعا لا تشكلها بمفردها. إن الهوية اكثر تعقيدا و خصوصية من الثقافة. فالثقافة جماعية بالاساس، لكنّ الهوية يمكن أن تكون فردية. و لعل من السليم القول إنّ الثقافة هي الهوية الجماعية. لكنني لن أتعمق في هذا المعنى لأن الصداع بدأ يكتنفني، و لأنني لم أرد بهذا القول إلا التمهيد للخوض في الهوية الجماعية، و هو بمثابة الخوض في الجحيم برأيي.

و لأنّ هوية المجتمع هي "هوية" بالاساس، فهي تحافظ على ذات خصائص هوية الفرد و ميزاته مع اختلاف بسيط في المصطلحات، فالتجربة عند الفرد، تصبح عند الجماعة تاريخا، و اللغة عند الجماعة لا يلتزم بها الفرد تماما، و انما لكل فرد لغة خاصة يختلف بها و يتميز بها عن اقرانه من الجماعة نفسها، (و هكذا، يتعرّف الناس بيسر و سهولة على الشخص الذي أعنيه حينما أقول "بحيث.. انما.. " و انثر النصوص القرآنية و النوادر في كل ركن من حديثي..*)، و تصبح آراء الجماعة و أفكارها، دينا، كما يمكن تسمية خيارات المرء في حياته (كطريقة الاكل و الشرب و اللباس و غيرها) عند الجماعة عادات و تقاليد.
فالهوية الجماعية تشكلها اللغة، و التاريخ و الدين و العادات و التقاليد. أو هذا ما درج علماء الاجتماع على اعتماده. لكن لا يجب أن ننسى ابدا، ان الهوية الجماعية ليست قالبا، و لا هي احادية الخلية، و لا هي ثابتة. و هو ما يقع فيه معظم الناس في توصيفهم لهوية مجتمع ما.

هكذا، ينظر اليوم بعض التونسيين إلى بعض الاصول العرقية التي تعرّفهم دون غيرها، فيقول إننا أمازيغ و لسنا عربا. و بنفس المنطق أيضا، يختصر المتديّن هويته في "الاسلام" فكلنا مسلمون، و هذا كافٍ عنده. بينما يحاول آخرون التخلص من هذا الصداع بالحديث عن "الهوية التونسية". من المحقّ و من المفتري؟ أين المشكلة وسط هذه الفوضى الفكرية تحديدا؟ أعتقد أنه من الافضل الاجابة عن كل ذلك في المقال التالي. 



v                حديث في الهوية ـ 2 ـ
هذا ليس تدوينة مفردة، انما تكملة للحديث السابق بخصوص الهوية. و هو حديث ـ على قصره ـ لا يلخّص، و الاسلم أن تبذل أصابعك شيئا من الجهد و تنزل الى التدوينة السابقة، و كن واثقا أنها لن تأخذ منك وقتا أكثر من زمن استهلاك سيجارة...


و التدوينة السابقة توقفت عند الاسئلة التي طرحها التونسيون، كما المصريون و غيرهما من الدول العربية، بخصوص الهوية. و لعلّ مسألة الهوية من نوادر المسائل التي يكون فيها السؤال أسهل من الاجابة. فلكل اجابة واثقة و معتدّة بذاتها، أسئلة تقصمها، و تفتت غرورها. كأن يقول أحدهم (التونسيين) "نحن عرب."، فماذا عن الاتراك الذين يملأون المدن العتيقة؟ و ماذا عن الذين وجد آباؤهم في هذه البلاد من قبل أن يأتيَ العرب أصلا إلى هنا؟ أنطردهم جميعا من حاء "نحن" و نحصر المعنى في شراييننا؟ ثم من "العرب" أصلا؟ بنو هلال؟ بنو رياح؟ لو خضنا في مسألة الأعراق لتراءت لنا حقيقتان بديهيتان قد تفزعان كل قوميّ متعصّب : هل كان الرسول صلى الله عليه و سلم عربيا؟ هو من قريش طبعا، لكنّ نسبه ينتهي عند إبراهيم عليه السلام، فمن أي القبائل العربية كان إبراهيم؟ و لو أن من نسله جاء بنو إسرائيل، فهم عربٌ أيضا. و حينما نوغل في هذا المعنى يَعرض السؤال الثاني : فماذا كان أوّل العرب؟ و ماذا كان أول البشر؟ أليس العرق واحدا؟
هنا يمتدّ لسان أحدهم بالاجابة : انما نعني الثقافة العربية. فهل الثقافة العربية كافية لتعريفنا؟ و ماهي الثقافة العربية؟ هل هي المعلقات السبع، و كرم حاتم الطائي، و وفاء السموأل، و حكمة قسّ بن ساعدة، و حرب داحس و الغبراء، و أصنام قريش، و اسماء الابل التي لا تنتهي؟ فماذا عن اسقفية الاسكندرية؟ و ماذا عن خبز "الطابونة"، و الكسكسي المغاربي؟ و ماذا عن الطربوش التركي، و الحلوى الحلبيّة، و موسيقى الراي الجزائرية، و ما تبقى في بغداد من الرقوق الآشورية الثمينة؟ حتى في قلب شبه الجزيرة العربية، مالعربيّ في معمار الرياض و جدّة اليوم؟ حتى معمار المدينة المنوّرة بل المسجد النبويّ نفسه، ستجد خبراء يدلونك عن تفاصيله ذات الاصول الفارسية او البيزنطية.

ما الذي يعنيه كل هذا؟ يعني أن الهوية الجماعية ليست قالبا تماما كما الفرد، و انها ايضا مركبة، خليط من روافد أخرى كثيرة، او ربما للدقة تراكمات لا تنتهي يرسّخها التاريخ يوما بعد يوما، و الا فما الذي يفرّق بين مصريّ و ليبيّ مثلا؟ أليست الاصول اللوبية التي تختلف حتما عن الاصول المصرية الفرعونية؟ و ما الذي يجعل لبنان اقرب شبها للفلسطينيّ من البحرينيّ؟ أليس تاريخ الفينيقيين المجيد الذي جمع بين تلك الربوع قبل ازدهار الثقافة العربية فيها؟

و بهذا المعنى، يمكن هدم كل محاولة لاختصار الهوية الجماعية في دين أو عرق أو لغة أو ثقافة من الثقافات الرافدة (هذه الثقافات الرافدة نفسها خليط من ثقافات مركبة اخرى)، و لن تبقى سوى عبارة وحيدة : نحن تونسيون، نحن جزائريون، نحن عراقيون أو اماراتيون أو سعوديون. 
و هي في الواقع عبارة شديدة الالتصاق بالارض و الزمن، فالغجر بهذا القول لا هوية لهم، و اليهود أيضا (أعني بني اسرائيل طبعا)، كما أن بن دارفور كان بالامس سودانيا، فتحول بجرّة قلم إلى جنوبيّ!
و لو اقتربنا أكثر مما نسميه "هويّة تونسية" فسيحيّرنا الاقتراب، و سيزيد من أسئلتنا، يقال إن لغتنا العربية، و يقال إن لنا لغة بذاتها يمكن أن نسميها "تونسية"، فكيف نقول "أنا" بتونسيتنا؟ على الطريقة العاصمية؟ أم "آني" على الطريقة الساحلية؟ ام "أني" كما يقول أهل قابس؟ أم "نايا" و هو المصطلح المستعمل في اغلب ارياف الشمال؟ ثمّ إننا لو اقتربنا من الحدود الليبية، فسيطالعنا السؤال : مالذي يجعل هذه الاماكن تونسية لا ليبية غير التقسيم الاداري؟ فلهجتهم أقرب إلى الليبيين من تونسيي الشمال، و بالمنطق نفسه، سنجد اهل بنغازي اقرب للمصريين منهم الى الليبيين، أو لعلّه العكس.

هكذا تسقط افكارنا الصماء بخصوص الهوية الجماعية، و هكذا توجّب علينا اعادة تشكيل مفهوم الثقافة (اي الهوية الجماعية) بالبحث مرة اخرى، عن منطلق جديد. لكنّ المنطلق هنا، موجود منذ البدء، و ان اسأنا استخدامه. ألم نقل منذ البداية، إن هوية الجماعة كهوية الفرد في خصائصها؟ لم لا ننطلق من الفرد لنقيس على الجماعة؟ أين أجد فردا أسوقه مثالا؟ 
هل قال أحدكم "انظر الى المرآة"؟

انا لستُ ربع مهندس، أنا مهندسٌ كامل، هل يعني ذلك أنني أتماهى مع بقية المهندسين؟ حتما لا. ففضلا عن كوني مهندسا، فأنا "فرشيشيّ"، و حينما أقول إنني كذلك، فليس رأسي فرشيشيا، و لا يداي، بل انا كاملا، احمل كلي الصفتين. كنت أيضا طالبا بالجامعة. و كان عليّ ان اتعامل بشيء من الاحترام مع استاذة درستني، هي منذ سنتين صديقة لي تقريبا. حينما ينتهي الدرس، تنتهي هويتي كطالب و هويتها كمدرسة، و نعود صديقين.
و هويتي كطالب لا تنتفي و لا هويتي ككاتب أو كرئيس ناد جامعيّ، بل كل منها يتقدم على الاخر باختلاف الحال و الموقف دون ان يذهب أي منها دون رجعة.
و لو قسنا على ذلك، فأعتقد أن نصف مشاكلنا قد انزاحت جانبا، فنحن متوسطيون ان بحثنا عمّا يجمعنا بالايطاليين مثلا، و نحن عرب اذا بحثنا عن ما يميّزنا عنهم. نحن امازيغ ان اردنا التميز عن العرب، و نحن شرق ان اردنا التميّز عن الغرب. نحن تونسيون ان بحثنا ما يجمع بيننا و نحن "منازلية" و "قراوة" و "سواحلية" لو بحثنا في ما يميّزنا..

الثقافة شديدة الديناميكية، و هي و ان كانت واحدة فمتعددة الاوجه، بتعدد الناس الذين يمثلون الجماعة. و من الحمق نكران بعض الوجوه و ان كان وجها شاحبا أو لا يكاد يرى لضعف تأثيره.. خصوصا اذا كان تأثير ذلك "الوجه" ملحوظا في حياتنا. لذلك فمن ينكر وجهه الامازيغيّ من التونسيين، تعصبا لفكر قوميّ مثلا، هو شخص لا ينظر إلى نفسه جيدا في المرآة، و من يرفض وجهه العربيّ، لتعلات ايديولوجية أو ميتافيزيقية ضيقة، لا أظنه يملك مرآة أصلا...

و لأن الأمور لا تحلّ بهذه البساطة، فالاسئلة لا تكفّ عن الهطول، و تزداد ازعاجا كلما ازداد المرء توغّلا.. فالقول الاخير يشي بوجود ما يجمع بين الناس و ما يميّز بينهم، مهما اختلفت احوالهم و مهما بعدت المسافات ما بينهم. و مثال ذلك ما يجمع بين الاسبان و اهل امريكا اللاتينية من اللغة، و ما يجمع بين اليابانيين و الامريكيين من حب كرة القاعدة (البايزبول)، و قد تكون العلاقة أكثر عمقا و اثارة للحيرة، مثلما يشهد بذلك التشابه المريب بين اهرامات الجيزة في مصر و اهرامات الازتيك في المكسيك.. فللتاريخ أيضا خباياه بخصوص حقيقتنا... و لأن الانسان سيجد دوما ما يجمع بينه و بين الآخرين، فلِم يبحث عمّ يميّزه؟ ألم يكن ذلك مهدا لصراع الحضارات؟ أليست الهويات كما يقول معلوف "قاتلة" لتفريقها بين الناس و حملهم على التعصّب؟ ألا تمثل العولمة مخرجا من كل هذا؟ و هل هويتنا او هوياتنا هي سبب تخلفنا و نكبتنا؟




v                حديث في الهوية ـ 3 ـ
هذا ليس تدوينة مفردة، انما تكملة للحديث السابق بخصوص الهوية. و هو حديث ـ على قصره ـ لا يلخّص، و الاسلم أن تبذل أصابعك شيئا من الجهد و تنزل الى التدوينة السابقة، و كن واثقا أنها لن تأخذ منك وقتا أكثر من زمن استهلاك سيجارة...

 كنتُ قد لخصتُ في نهاية حديثي إلى طابع الهوية الجماعية الديناميكيّ، و إلى تعدد أوجهها التي يشعّ أحدها أكثر من الآخرين، و يخفت بريق بعضها حسب الحالة و حسب المكان و الزمان و الوضعية التي يمرّ بها المجتمع.
كما تعظم بعض الوجوه و يكبر سطحها مقارنة ببعض الوجوه الاخرى التي قد لا تكاد تُرى لولا بعض كلمات متسللة إلى اللغة، أو بعض آثار لا تزال صامدة بوجه الزمن.. و كي نقترب أكثر بمثال الشكل المتعدد الاوجه لشكل الهوية، يجب الاشارة أنّ كل وجه من وجوه الهوية، ليس "مسطّحا" تماما و انما هو نفسه يتكوّن من ملايين الوجوه الصغيرة غير المتداخلة بشكل غير مرئيّ حتى يبدو للناظر كأنه وجه واحد. ففي هويتنا مثلا وجه عربيّ، و وجه أمازيغيّ، و وجه اسلاميّ، لعلها أبرز الوجوه و أكبرها مساحة، و بها تتلوّن هويتنا أكبر تلون، لكن لا يمكن نسيان بعض الوجوه الاخرى فقط لأنها صغيرة لا تكاد ترى، كالجرمانية مثلا، او الفندالية، فنحن لا نلحظ في ثقافتنا أي طابع "فنداليّ"، لكن هناك يقين أن هذا الوجه هنا، في مكان ما من انفسنا و عاداتنا... لكنّ الوجه العربيّ أو الاسلاميّ ليسا مسطحين تماما، بمعنى ليسا خالصين، بل إن كلا منهما خليط دقيق من الوجوه المجهرية التي لا تكاد ترى، فوجهنا الاسلاميّ قد لا يخلو من عادات و طقوس ذات أصول يهودية، بل وثنيّة أحيانا، و هذا لعله موضوع آخر، و وجهنا العربي هو خليط من الوجه اليمانيّ، و الشآميّ، و ربما الآشوريّ، و الفينيقيّ، و العبرانيّ...

هذه حقيقة هويتنا، معقدة، مركبة، ضخمة، عسيرة الاستيعاب، حيّة، متحركة، متشكلة بتشكل الاحوال و المجتمعات. فما الذي يجعلنا نرفع لواء وجه دون غيره، و ما الذي يجعلنا نرفض وجها دون آخر و هو فينا؟
أمين معلوف الذي انطلقت من كتابه (الهويات القاتلة) في بداية حديثي، لم يهتم كثيرا بطابع الهوية الجماعية المركب و الديناميكي، و انما تحدث عن ذلك في بداية الكتاب كميزة لهويّة "كل فرد" فينا، و خلص في النهاية إلى استنكار ضرورة الانتماء الى "هوية" (يقصد وجه من وجوه الهوية) ما دون غيرها، و رأى أن ليس على الشخص الافتخار بأن يكون عربيا أو كرديا أو تركيا، فهو لم يختر ذلك، و مهما تكن هويته فسيفخر بها و هو ما يجعل هذا الفخر سخيفا. مع ذلك، قدم في قالب حديثه عن الهوية الجماعية (الثقافة) تفسيرا واضحا لهذه الظاهرة.

يقول بن خَلدون "الاجتماع الإنساني ضروري ويعبر الحكماء عن هذا بقولهم الإنسان مدني بالطبع أي لا بد له من الاجتماع الذي هو المدينة في اصطلاحهم وهو معنى العمران" و لأن كل حاجة اجتماعية (كالتكاثر) تقابلها حاجة نفسية (كالحبّ) تدفع الانسان إلى تحقيق الاولى، فحاجة الانسان إلى الاجتماع، تفرض عليه الحاجة إلى الانتماء، و لا يوجد انسان قادر على التخلص من الحاجة إلى الانتماء. أنت تبحث أن تنتمي إلى أشياء بسيطة جدا، موسيقى الفلامنكو، فريق كرة قدم، جمعية خيرية، كارهو اللون الرماديّ، أحباء الننتاندو، أو كارهو الـiPhone، لذلك، ستفرح كثيرا حينما تقدم الـplaystation لعبتها الجديدة، أو ستضحك كثيرا على النسخة الجديدة من الـwii، ستغني بفخر آخر أهازيج جماهير اليوفي، لأن الفخر ليس المعنيّ بحد ذاته، و انما النشوة التي يحدثها الانتماء.. و يمكن لذلك أن نسوق ذات المعنى على عظيم الامور : الانتماء إلى حزب سياسي، إلى مذهب دينيّ، إلى فلسفة، إلى وطن، إلى عرق، إلى لغة، الخ.. الانتماء فطريّ في الانسان و لا يمكن أن يرفضه عاقل. و لأن التعصب هو اسراف في الانتماء، فلا يمكن الحكم على شيء من خلال الاسراف فيه، فالاسراف في كل شيء سيء و مضرّ، اما لماذا يحدث الاسراف في الانتماء فهذا ما سأعود إليه لاحقا.

لكنّ حاجة الانتماء، تقابلها حاجة أخرى يمارسها الانسان بكل امتياز، ألا و هي الحاجة للتميّز. و الحاجة للتميّز هي حاجة الانسان الفطرية لأن يشعر بذاته الفرد. لأن لا يذوب وسط الجمع الذي ينتمي إليه. لذلك فالانسان في خضم نخوته بالانتماء لجماعة، يبحث أيضا عمّا يميّزه عنهم. و في هذا التواتر بين التميّز و الانتماء، تتكون شخصية الانسان، اما ثائرا مفرطا في ثورته عن جماعته حتى ينعزل، و اما ذائبا تماما وسط القطيع، منسحبا مع التيار ناسيا وجوده الفرد تماما، و اما على شيء من التوازن بين هذا و ذاك.
و لأن الحاجة البشرية إلى الانتماء و التميّز فطرية بالاساس، فالمفرط في ثورته، سيبحث عن الانتماء إلى جماعة أخرى غريبة عما حوله، سيبحث عن تلك الجماعة في عالم آخر، أو تاريخ آخر، أو جنس آخر، أو لغة أخرى... و الذائب في تيار الجماعة، ستمرّ به لحظات كثيرة من الشك و التفكير بذاته الغارقة، فيرهبه البعد، و ترهبه المحاولة، فيعود إلى السطح مرتبكا "مستغفرا" من أحساسيسه... قد اذهب الى اعتبار أن الدول الشيوعية، بالغت في طمس فعل التميّز و تضخيم فعل الانتماء، بينما حاولت الليبرالية قتل الانتماء و التكريس "لأنا و من بعدي الطوفان"، لكنّ هذا سيجرّنا إلى متاهات لا يتحمّلها حديثنا.

ان هذه الطبيعة البشرية المتأرجحة بين التميّز و التماهي، بين التمرد و الانتماء، تجعل من المحال أن يتوحد البشر تحت هوية واحدة، او ثقافة واحدة، مهما كانت متعددة الاوجه مركبة، سيظل دوما هناك اختلاف باختلاف المناخ، و التاريخ، و المعتقد، و طريقة النطق، و غيرها. لكنّ العالم اليوم، مع تطور وسائل التواصل و الاعلام، بدأ يكوّن وسائل تلقي مشتركة، كالتلفاز و الانترنت، و من خلال هذه الوسائل، باتت ثقافة الآخر متاحة لكلّ مجتمع (تقريبا) و كلّ بيت، و لم يعد بعد المسافة حاجزا لتفاعلات ثقافية لا تقل أهمية عن التفاعلات التي تحدث في حالات الغزو، أو التواصل التجاريّ المكثف (و قد كانا أكثر الطرق التي كرّست للتلاقح الثقافي عبر التاريخ).. و لكنّنا حينما نتحدث عن التلاقح فإن هناك دوما مجتمعا سيفرض ثقافته على مجتمع آخر، و لو عبر من الثاني شيء إلى الاول. و هذا بالضبط ما يحدث اليوم. فوسائل التواصل لا تقدم ثقافة المجتمعات بصفة متوازنة، و انما للأقوى الحظُ الأوفرُ، و هذا لعمري أمر طبيعيّ، لكنّ نتائجه ليست طبيعية بالمرة. فالتلاقح الحضاريّ اليوم ليس عموديا فحسب، بل و سريعا إلى درجة تفوق الاستيعاب أحيانا. ما الذي سيحدثُ إذا؟ ستحدثُ ردّة فعل قويّة تجاه ذلك. تبدأ بتضخم نزعة الانتماء إلى أحد وجوه ثقافة المجتمع المتلقي، تضخما كبيرا، قد يصل حد التعصب، و التطرف أيضا.

تقدّم العولمة على أنها ثقافة مشتركة، قيم كونية، و مجمع لثراء التراث البشري و تراكماته، لكنّ الامر أبعد ما يكون عن الصورة المثالية التي تقدم. فلو اعتبرنا بموجب تعريفنا السابق للثقافة أن العولمة هي ثقافة العالم، فهي ككل ثقافة، متعددة الاوجه، و طبعا هناك وجه ما (أو أوجه) ستحتل أغلب المساحة، بينما تكون بعض الوجوه مجهرية تماما. لذلك يستقبل مجتمع ما هذه الثقافة الجامعة، على أنها مألوفة، فهو يرى فيها وجهه بوضوح، بينما لا يجد مجتمع آخر مساهمته فيها، فيعتبرها دخيلة، و في غالب الاحيان مخالفة لثقافته، فيعاديها و يرفضها، خصوصا حينما تلعب عناصر أخرى غير الثقافة دورا في هذا العداء (كالمصالح الاقتصادية).
و لكن هذا التفسير لا يمكن أن ينطبق طبعا على كل حالات التعصب الثقافيّ، لأن الامر معقد و تتداخل فيه امور كثيرة، لكنّه دوما الاحساس بالتهديد هو ذاك الذي يدفع للتعصب. الخوف كان و لا يزال المفتاح. خوف الغجر من الذوبان في الاوطان التي تأويهم، تجعلهم منغلقين على ثقافتهم، خوف اليهود من زوال ثقافتهم جعلتهم أكثر المجتمعات انغلاقا، خوف البريطونيين من ذوبان  ثقافتهم في الثقافة الفرنسية، جعلتهم ينغلقون على انفسهم، كذلك المطالبات بالاستقلال في اسبانيا، أغلبها رفض لاسقاط الثقافة القشتالية اسقاطا عليهم، فلكل منهم لغته و مكوّنات هويته. و مادام لا يرى في القشتالية شيئا من مساهمته هو، فلا يمكن أن يتقبلها.
و لأن عالم اليوم، يجعل من التواصل حتميا، فإن هذا التهديد قائم لكل الثقافات بلا استثناء. فما الحل اذا؟ المساهمة! قواعد اللعبة سهلة : دافع عن ثقافتك، انشر ثقافتك، ستجد انعكاسها في ثقافة العالم، و لن تبدوَ حينئذ هوية العالم غير مألوفة لناظريك، و ستتقبلها على أنها نابعة منك، و من ذاكرتك. حينما تنقذ ثقافتك من الذوبان، فانت تحقق حاجتك من التميز و الانتماء.

و لم الانتماء إلى ثقافة خاسرة؟ لماذا الانتماء إلى وجه مجهري؟ اليس من الطبيعيّ ان تذوب ثقافات و تنشأ ثقافات جديدة؟ لأن الانسان ولد مختلفا عن اخيه الانسان، لأنه لو ذاب وسط ثقافة اخرى، فسيخسر العالم ثقافة كاملة بكل ما فيها من قيم و افكار و فلسفة و رؤى مختلفة للعالم. لقد جُعل الانسان شعوبا لتعارف فيما بينها، و تتواصل و تتبادل الافكار و الرؤى و الفلسفات، و ما يجعل هذا ممكننا هو اختلاف هذه الشعوب. إنه سرّ اختلافنا و اجتماعنا.
لقد خلص أمين معلوف أن جهود الامم في الدفاع عن هوياتها مردها الخوف من الذوبان و التلاشي، لكنه ـ ربما لعدم اقراره بحاجة الانسان الفطرية للانتماء و التميز ـ لم يخلص إلى مشروعية هذا الدفاع. أن تدافع فرنسا على لغتها من الغزو الانكليزي، لا يعني قط ان تحارب اللغة الانكليزية، بل هي تحاول ان تحتويها في قالبها الفرنسيّ، يساعدها في ذلك تقارب اللغتين، و اليوم و ان طرأت كلمات انكليزية كثيرة على اللغة الفرنسية، فإن عدد الكتب المترجمة من الانكليزية الى الفرنسية، و قدرة فرنسا على الانتاج الثقافيّ، تحد كثيرا من ذلك. كما أن تأثير الثقافة الفرنسية على الامريكية حول الكثير من الثقافة الفرنسية إلى الثقافة العالمية المشتركة.
رغم كل ذلك، و رغم حجم التأثير الثقافي الفرنسي على العالم، أجد نفسي جالسا امام عجوزين فرنسيين في أحد ضواحي باريس، اواخر تشرين، بينما الرجل يسأل المرأة : "لكن هذا "الهالوين" ليس من عاداتنا. لماذا علينا الاحتفال به؟"
ان هذا التطلع للمشاركة في الهوية الجماعية، ترنو إليه كل الشعوب و اكثرها تأثيرا في العالم، و لأنني سقت فرنسا مثالا، فلاواصل و لأسق مثال اللجنة الاولمبية العالمية، التي اسسها الفرنسيّ بيار دي كوبرتان، فأصرت فرنسا أن تظل اللجنة معتمدة على الفرنسية كلغة رسمية لها. انها البصمة التي تريد ان تتركها. انه الوجه الذي تريد أن تراه في الهوية العالمية، حتى تتقبله كاملا كأنه منها.

لكنني قبل أن اختم، أعتقد أن عليّ العودة إلى عالمنا الصغير، نحن العرب مثلا، مادمت اسوق الحديث بلغة الضاد، كي أبيّن أننا على اختلافاتنا الكثيرة بفعل المكان و الزمان و الاحداث، فما يجمعنا كثير، لم يزد ما حصل في المنطق مؤخرا الا تأكيده : فبمجرد هبوب رياح الثورة في تونس، تبعتها مصر، فاليمن، فليبيا فسوريا، و عمت الاحتجاجات كامل المنطقة العربية، و ان نجح بعضها في قلب النظام و فشل آخرون، لكن كان ذلك دليلا ان همومنا واحدة و ما يحركنا واحد. بل اننا نعاني الالم ذاته، و ربما دواؤنا سيكون واحدا. فصغتُ هذا الحديث في الهوية، لأبين من نحن، و ما نبغي، أو على الاقل ما ينبغي أن نبغيه. و خلصتُ أن اختلافاتنا طبيعية، و ان اجتماعنا طبيعيّ ايضا، و ان خوفنا شرعيّ، و حقنا في الدفاع عما يجمعنا ليس فيه ما يصمُ، لأن انقاذ العروبة، هو انقاذ لأحد وجوه الهوية العالمية الاكثر ثراء.

إن الهوية قاتلة بقدر ما هي مقتولة، و لا يمكن التخلص من التطرف و التعصب الا بمحاربة الخوف أولا. حينها، لن تقدر الاصوات الجاهلة و الحمقاء أن تؤثر قيد انملة في الشعوب. لأن الفطرة سوية. 






الاثنين، 17 سبتمبر 2012

فكرة قرأتها في كتاب: مواقف، لم أكن أنتظرها من الفيلسوف علي حرب؟ حلقة عدد 10و الأخيرة  من سلسلة علي حرب. نقل و تعليق مواطن العالَم د. محمد كشكار

كتاب "ثورات القوة الناعمة في العالم العربي. من المنظومة إلى الشبكة."، علي حرب، الدار العربية للعلوم و النشر، الطبعة الثانية 2012، 240 صفحة. استعرته من منتدى مقابسات للفكر و التواصل

نص علي حرب
صفحة 35: وحدة المصير البشري
         هذا الواقع الصارخ، و الفاضح، يسجل نهاية نظرية المؤامرة و الأجندات الخارجية، بقدر ما يسجل سيادة الدول و استقلال الأوطان بالمعنى المطلق أو المقدس، سيما عندما يتحول الحكام إلى جزارين يسفكون دماء شعوبهم

         الأمر الذي يعطي هيئة الأمم المتحدة الحق بالتدخل ضد أي حاكم يعتدي على مواطنيه العزل. و كما أن من حق الدولة أن تردع الأفراد أو الجماعات بعضهم عن بعض، فمن المشروع أن تتشكل حكومة عالمية تملك الحق، سواء في ردع الدول بعضها عن بعض، أو في ردع الحكام عن الاعتداء على الناس. و في هذا السياق يندرج الآن التدخل العالمي و الأممي في ليبيا، أي من أجل حماية المدنيين و تجنيبهم المزيد من المجازر. و تلك هي وحدة المصير البشري

تعليق د. م. ك

         كان من الممكن تصديق تحليلك أستاذي علي حرب لو لم يرتكب الحكام الأمريكان مجازر فظيعة في حق العرب و المسلمين بعد تدخلهم السافر و غير الشرعي باسم  الديمقراطية، في العراق و أفغانستان، و " لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين" كما قال رسولنا الكريم، صلى الله عليه و سلم، أو "إن لدغنا الجحر مرة فتبا له و إن لدغنا مرتين فتبا لنا"، كما قالت اليهود. انتهي تعليقي و أرجع إلى

نص علي حرب
صفحة 60: قراءة ثانية في الأحداث
         و الأهم أن الأحداث كشفت مدى المبالغة و التهويل، في القول بأن سقوط الديكتاتوريات سوف يُفضي إلى مجيء الأصوليات. فهذه حيث سيطرت أو حكمت أخفقت في إدارة شؤون البلاد و العباد، لأنها تتقن الارتداد و الانتقام أكثر مما تحسن أعمال التحديث و الإنماء، بدليل أنها لا تملك عناوين مبتكرة و لم تقدم برامج جديدة أو جذابة للعمل الحضاري و البناء الاجتماعي

تعليق د. م. ك
         بكل لطف و احترام أقول لكم، أستاذي علي حرب: "لقد أخطأت يا سيدي في الأولى و أصبت في الثانية". في الأولى، قلت: " و الأهم أن الأحداث كشفت مدى المبالغة و التهويل، في القول بأن سقوط الديكتاتوريات سوف يُفضي إلى مجيء الأصوليات"، و ها هو  سقوط الديكتاتوريات قد أفضي فعلا إلى حكم الأصوليات بجميع تلويناتها، الإخوانية المدنية المغلوبة على أمرها و التي تملك و لا تحكم و السلفية الجهادية و التحريرية الخلافية (من الخلافة)، مع الإشارة المهمة أنني أعتبر الماركسيين المعاصرين (و اللينينيين و الستالينيين و الماويين) من الأصوليين أيضا، مثلهم مثل إخوانهم الأصوليين الإسلاميين و يشاركونهم في ادعائهم بأنهم يملكون و يحتكرون الحقيقة و أنهم يحتفظون في جعبتهم بالبدائل الجاهزة و الوصفات الحاضرة و الحلول الأحادية لكل مشاكل العالَم مهما تعقدت و كليهما لا يؤمن بمفهومي اللاحتمية و الانبثاق ( l’antidéterminisme et l’émergence). أما الثانية فقد أصبتم فيها الهدف و صَدَقَتْ تنبؤاتكم، فهذه الأصوليات  (الإسلامية و الماركسية)، حيث سيطرت أو حكمت أخفقت في إدارة شؤون البلاد و العباد (الإسلامية في السودان و الصومال أو الماركسية في الاتحاد السوفياتي و دول أوروبا الشرقية و ألبانيا و كوريا الشمالية و كمبوديا). انتهى تعليقي و أرجع إلى نص علي حرب و أستشهد بالمثال التونسي الذي أورده هو بنفسه للتدليل على صحّة ما قاله في الأصوليات الإسلامية

نص علي حرب
صفحة 188: مساحة للخلق و التواصل
         و مع ذلك لا أقول بأن بناء مجتمع مدني، تداولي، وفقا لقواعد الشراكة و الاعتراف و التعدد، هو بالأمر السهل. فالقوى المضادة و التكتلات الدينية و العقليات الأصولية المجتمعية ما زالت مستنفرة و شغّالة، و كما حصل أخيرا في تونس، حيث اعتدى أصوليون إسلاميون على صالة سينمائية لكونها عرضت فيلما أثار غضبهم. و لا أنسى الأنظمة التي تعمل على كل ما من شأنه أن يجعل الحراك الشعبي يخرج عن طابعه المدني و السلمي

صفحة 153: خلط الأوراق
         أيا يكن، إن الثورات تعيد الخلط للأوراق، بحيث يصبح الفرز لا على أساس ثنائية الممانع و الخاضع أو المقاوم و المذعن، بل على أساس مَن مع الثورات و مَن هو ضدها. و بقدر ما تنجح هذه الثورات و تقوى، يتضح الفرز في موقف الدول و الأنظمة. و لا جدال في أن قطر تحمل المشعل، عربيا، و إن من وراء قناة "الجزيرة"، فيما تركيا، على أقل تقدير، تحث الدول العربية، المعنية، على القيام بأعمال الإصلاح و التحديث


تعليق د. م. ك
                  قال علي حرب: "و لا جدال في أن قطر تحمل المشعل". أي مشعل حملته قطر في الثورات العربية و هل فاقد الشيء يعطيه يا سيدي؟ كيف تأمل أو تنتظر من بلد غير حر و غير ديمقراطي أن يساند ثورات تنادي بالحرية و الديمقراطية؟ بلد لم تجرِ فيه انتخابات رئاسية أو برلمانية حرة ديمقراطية واحدة؟ بلد، قضاؤه غير مستقل؟ بلد لا يعترف بتكوين النقابات العمالية؟ بلد مطبّع مع الكيان الصهيوني؟ بلد يستضيف على أرضه و على بعد أمتار من قناة الجزيرة "الثورية"، أكبر قاعدة أمريكية في الشرق الأوسط، قاعدة انطلقت منها الطائرات الأمريكية المعتدية في حرب الخليج الثانية 2003 لضرب أطفال و نساء و رجال العراق المدنيين الأبرياء؟ بلد، يُورَّث المُلك فيه عائليا و تُسند المناصب السياسية فيه حسب المحاصصة القبلية، و ليس كما يجب، أعني حسب الكفاءة و التجربة و الأقدمية الحزبية؟ انتهى تعليقي و أرجع إلى

نص علي حرب و اعترافه بخطئه
صفحة 157: ملحوظة: سلمية الثورة و محاكمة الرؤساء
         في حوار أجراه معي الإعلامي تركي الدخيل على قناة "العربية"، ذكرت في حديثي بأنني ضد محاكمة الرئيس المصري السابق حسني مبارك. و لكنني بعد نهاية الحلقة تمنيت أن يُحذف ما قلته في هذا الصدد، لأنني شعرت بأن كلامي ليس في محله، أو بأنني لم أوفّق في ما قلته أو عرضته

         و بعد بث الحلقة تبيّن لي أنها أثارت ردود فعل غاضبة و عنيفة، لدى بعض الثائرين في مصر...و حتى لو أخطأت في رأيي، فما كان الأمر يستحق مثل تلك الردود التي أرى أنها تصدر عن نفس العقلية التي صنعت الأنظمة التي سعى الثائرون لإسقاطها... لأنني أرى بأن المسؤولية عن أنظمة الاستبداد و الفساد، في مجتمع من المجتمعات، لا تقع فقط على الرئيس و على عدد محصور من أعوانه، و إنما هي مسؤولية جماعية يشارك فيها الكثيرون، و قد تكون مسؤولية المجتمع عن نفسه بقدر ما هي مسؤولية الثقافة و السياسة... من هنا لست مع إعدام الرؤساء، و لو حوكموا و أُدينوا، فليُخترع لهم مصير آخر

تعليق د. م. ك
         لا أوافق الفيلسوف اللبناني علِي حرب في وقوفه "ضد محاكمة الرئيس المصري السابق حسني مبارك"، لكن أوافقه في وقوفه ضد عقوبة الإعدام للرؤساء و غير الرؤساء، إيمانا مِنِّي بالبيان العالمي لحقوق الإنسان و اقتناعا شخصيا بعدم جدوى هذه العقوبة القصوى في الحد من الجريمة، العقوبة الوحيدة التي لا يمكن بعد تنفيذها إصلاح الخطأ القضائي المحتمل فيها أو في في كل حكم قضائي. القاتل هو فرد أخطأ و انتقم و ارتكب أكبر حماقة و هي استلاب الحياة من بشر مثله أما الدولة ممثلة في مؤسسة القضاء، فهي منزهة عن العاطفة و الضعف و الانتقام و من واجبها تصور احتمال الخطأ القضائي فلا يليق بها إذن أخذ الثأر من القاتل أو التصرّف و كأنها فرد عاطفي ضعيف مجروح غاضب. قد يكون للقاتل الفرد الضعيف عذر في ما ارتكبه لكن ما عذر مؤسسة بقضاتها العاقلين الجهابذة في القانون و المناط بعهدتهم نشر العدل و العدل أساس العمران

         أوافقه على ما يرى في جملته التالية: " لأنني أرى بأن المسؤولية عن أنظمة الاستبداد و الفساد، في مجتمع من المجتمعات، لا تقع فقط على الرئيس و على عدد محصور من أعوانه، و إنما هي مسؤولية جماعية يشارك فيها الكثيرون، و قد تكون مسؤولية المجتمع عن نفسه بقدر ما هي مسؤولية الثقافة و السياسة"، أوافقه و خاصة بعد ما اطلعت على رأي الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في السلطة و قد أكد هذا الأخير على أن السلطة ليست محصورة فقط في السلطة التنفيذية بأجهزتها الأمنية و العسكرية و القضائية بل هي مبثوثة في المجتمع، فالمدرّس سلطة، و التاجر سلطة، و الميكانيكي سلطة، و الأب سلطة، و الأم سلطة، و رجل الدين سلطة، و المعارِض سلطة، و الحاجب سلطة...إلخ. انتهى تعليقي و أرجع إلى

نص علي حرب
صفحة 50: السلطة مسؤولية جسيمة
         و تلك مسؤولية جسيمة يُؤمل أن يحملها أهل تونس، و كذلك أهل مصر. لأن الثورة ليست مجرد أفراح و أعراس، كما علمتنا التجارب، خاصة لدى حركات التحرّر الوطني و في دول العالم الثالث، حيث أُعيد إنتاج الاستبداد و الفساد و التفاوت بأردأ أشكاله

تعليق د. م. ك
         نعم، إنها مسؤولية جسيمة  و قد تحملها و لا زال يتحملها الشعب التونسي و الشعب المصري بصبر و شجاعة، و الدليل أن الاثنين لم يفرحا حتى الآن بثورتيهما و لم يقيما الأعراس و ذلك للأسباب التالية: لم يجنيا من تضحياتهما في الثورة أي نتيجة إيجابية و لم يحققا أي هدف من أهداف ثورتيهما، و مما زادهما إحباطا على إحباط، أنهما يريان ثورتيهما تُسرقا أمام أعينهما و لا يقدران على مقاومة السارق، سارق متعدّد الجنسية،  سارق أمريكي قطري سعودي، لا وفّقه الله في سعيه الشرّير

البصمة الفكرية الكشكارية
بكل شفافية، أعتبر نفسي ذاتا حرة مستقلّة مفكرة  و بالأساس مُنتقِدة، أمارس قناعاتي الفكرية بصورة مركبة، مرنة، منفتحة، متسامحة، عابرة لحواجز الحضارات و الدين و العرق و الجنس و الجنسية و الوطنية و القومية و  الحدود الجغرافية أو الأحزاب و الأيديولوجيات
على كل مقال سيء، نرد بمقال جيد، لا بالعنف المادي أو اللفظي أو الرمزي

Mes deux principales devises dans la vie, du moins pour le moment
-         Mohamed Kochkar : faire avec les conceptions non scientifiques (ou représentations) pour aller contre ces mêmes conceptions et en même temps auto-socio-construire à leurs places des conceptions scientifiques.
-         J. P. Sartre : Les idéologies sont liberté quand elles se font, oppression quand elles sont faites.

إمضاء جديد و محيّن للـ د. محمد كشكار
مواطن العالَم (أعتذر لكل المواطنين في العالَم غير الغربي على فعله و يفعله بهم حتى الآن، إخوانهم في الإنسانية، المواطنون في العالَم الغربي)، مسلم (أعتذر لكل المواطنين غير المسلمين على ما فعله بهم أجدادي المسلمون)، عربي (أعتذر لكل المواطنين غير العرب على ما فعله بهم أجدادي العرب) تونسي (أعتذر لكل المواطنين التونسيين على ما فعله بهم نظام بورقيبة و نظام بن علي طيلة سنوات الجمر الخمسة و خمسين)، "أبيض- أسود" البشرة (أعتذر لكل المواطنين السود في  العالَم  علىِ ما فعله أجدادي البيض في أجدادي السود)، يساري غير ماركسي (أعتذر لكل المواطنين غير اليساريين و لليساريين غير الماركسيين في  العالَم  علىِ ما فعله بهم رفاقهم الماركسيون اللينينيون الستالينيون الماويون)، و غير منتم لأي حزب أو أي أيديولوجيا ( أعتذر لكل المواطنين غير المنتمين حزبيا أو أيديولوجيا في العالَم عن كل خطأ ارتكبته في حقهم الحكومة و المعارضة و المتعاطفين معهما


تاريخ أول إعادة نشر كشكارية على النات 
حمام الشط في 17 سبتمبر 2012
  


Haut du formulaire

Bas du formulaire

الأحد، 16 سبتمبر 2012

أي دور للعولمة في أحداث 11 سبتمبر وآحتلال العراق... د. سالم لبيض

أي دور للعولمة في أحداث 11 سبتمبر واحتلال العراق مقال منشور في مجلة شؤون عربية عدد120 شتاء 2005

أي دور للعولمة في أحداث 11 سبتمبر وآحتلال العراق

د. سالم لبيض
المعهد العالي للعلوم
الإنسانية بتونس
مـقـدمـــــة :
لقد بات موضوع العولمة مبحثا تقليديا في العلوم الإنسانية والإجتماعية فلم تعد الظاهرة تحظى بذلك الإهتمام الذي لقيته عند بداية التسعينات بعد سقوط الإتحاد السوفياتي وحرب الخليج الثانية . لكن أهمية العولمة في هذه المرحلة التاريخية تكمن في ما أفرزته من نتائج وإنعكاسات لم تشمل المستوى الإقتصادي أوالسياسي أوالإجتماعي فحسب إنما غيرت ملامح مجتمعات بكاملها من ذلك الولايات المتحدة نفسها إضافة إلى العراق وأفغانستان خاصة بعد أن أصبح الفصل بين العولمة والأمركة غير ممكن . إن الحركات المناهضة للعولمة التي إنتشرت هنا وهناك لم تبرز كرد فعل على العولمة في شكلها الأمريكي فقط وإنما وإضافة إلى ذلك هي محاولة لحماية المجتمعات التي تشتغل فيها هذه الحركات من الدمار المنتظر بسبب عولمة شرسة لا تعرف سوى مصالح الشركات التي أنتجت الظاهرة أي الشركات المتعددة الجنسيات .



أولا :مقدمات العولمة :

1 – مفهوم العولمة :
إن مصطلح العولمة هو ترجمة للمصطلح الفرنسي(MONDIALISATION) وللمصطلح الانقليزي (GLOBALISATION) . والعولمة مفهوم عولج في دراسات العلوم الاجتماعية كأداة تحليلية لوصف عمليات التغير في كافة المجالات. وهو ما يعني أن هناك خطا جديدا وعلاقات اجتماعية مادية ونفعية تستبعد كل المفاهيم القومية والعرقية والعائلية والدينية. ومن ثمة يرى بعض الدارسين أن العولمة ترتبط بأربع عمليات أساسية وهي المنافسة بين القوى العظمى والوصول إلى التقنية الجديدة وشيوع عولمة الإنتاج والتبادل والتحديث[1].
على هذه الأرضية تعددت وتنوعت تعريفات العولمة، منها الاجتهاد الذي قدمه أحد أساتذة ورموز الخارجية الامريكية ومفاده أن مفهوم العولمة " يقيم علاقة بين مستويات متعددة للتحليل وهي الاقتصاد والسياسة والثقافة والايديولوجيا وإعادة تنظيم الإنتاج وتداخل الصناعات عبر الحدود وانتشار أسواق التمويل وتماثل السلع المستهلكة لمختلف الدول ونتائج الصراعات بين المجموعات المهاجرة والمجموعات المقيمة. "[2]. وبالرغم أن للعولمة مظاهرها السياسية المتعلقة بمدى قدرة الدولة القومية الحديثة على الاستقرار والحفاظ على سيادتها في ظل الوسائل الجديدة للاتصال وما يعنيه ذلك من نفي للحدود والحواجز، ومظاهرها الثقافية التي تهدف إلى إيجاد ثقافة عالمية واحدة منفتحة ،على أنقاض الثقافات والحضارات المتعددة والمتنوعة التي تميل إلى الانغلاق والانكماش، فإن المظاهر الأكثر بروزا هي ذات طابع إقتصادي . إن العولمة في هذا المجال تعني اندماج أسواق العالم في حقول التجارة والاستثمارات المباشرة وانتقال الأموال والقوى العاملة والتقانة وحتى الثقافات ضمن الإطار الرأسمالي، وكذلك خضوع العالم لقوى السوق العالمية مما يؤدي إلى إختراق الحدود القومية وإلى الانحسار الكبير في سيادة الدولة. أما العنصر الأساسي في هذه الظاهرة فهي الشركات المتعددة الجنسيات أوعابرة القوميات[3].
وهذا المفهوم يختلف عن مفهوم الاقتصاد الدولي الذي يرتكزعلى علاقات اقتصادية بين دول ذات سيادة، وبينما تشكل الدولة العنصر الأساسي في مفهوم الاقتصاد الدولي تشكل الشركات الرأسمالية المتعددة القوميات العنصر الأساسي في مفهوم العولمة. وهذه الشركات من الضخامة بحيث أن قيمة المبيعات السنوية لإحداها تتجاوز قيمة الناتج المحلي الإجمالي لعدد من الدول المتوسطة الحجم. ونظرا لحجم استثماراتها المباشرة وغير المباشرة في كثير من الدول، فإنها قادرة على الحد من سيادة هذه الدول. فإذا رغبت دولة ما في إتباع سياسة معينة تؤثر سلبيا على أرباح أحد فروعها، قامت الشركة الأم بإغلاق الفرع ونقله إلى مكان آخر، وهذا بحد ذاته يشكل رادعا للدولة المضيفة عن اتباع سياسة غير مناسبة للشركة .
كما تقوم الشركات عابرة القارات كالمصارف وبيوت المال وشركات التأمين وصناديق التقاعد بدور الشرطي الذي يؤمن التزام الدول المضيفة لهذه الاستثمارات غير المباشرة بمعايير أداء معينة في سياستها الاقتصادية. فإذا لم تلتزم الدولة بهذه المعايير نزحت عنها الاستثمارات غير المباشرة والتوظيفات الأخرى، مما يؤدي إلى انخفاض أسعار عملات وأسعار أسهم وسندات الدولة وانخفاض احتياطات مصرفها المركزي من العملات الأجنبية وحدوث إفلاسات مالية عديدة فيها ما يظطرها إلى الاقتراض الخارجي[4].

2- نظرية نهاية التاريخ لفرانسيس فوكوياما : 

من هو فرنسيس فوكوياما ؟ يقول الباحث اللبناني "مسعود ظاهر" حتى عام 1989 لم يكن هذا الإسم معروفا في أوساط الباحثين ولم يكن هذا الشاب الأمريكي من أصل ياباني معروفا بدراساته المعمقة في أي حقل من حقول المعرفة الإنسانية .وما إن ألقى محاضرة بعنوان "نهاية التاريخ" في جامعة شيكاغو ونشرتها مجلة The national interst عام 1989 حتى سلطت عليه الأضواء بشكل مكثف . أصدر سنة 1991 مقالا بعنوان "بداية التاريخ" نشر ب Magazine litteraire قبل أن يظهر كتابه الحامل لعنوان "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" سنة 1992 .
ظهرت أطروحة فوكوياما في فترة إتسمت بالحاجة إلى تجديد الفكر الرأسمالي الليبرالي ،فبعد إنتهاء المنظومة الإشتراكية وسقوط الإتحاد السوفياتي كان منظرو الأيديولوجيا الرأسمالية يمهدون الطريق لإضفاء شرعية جديدة على نظام قديم .فبالإضافة إلى تدمير النموذج السوفياتي من الناحية الإقتصادية والعسكرية ،فإنه على الولايات المتحدة أن تحقق الهزيمة الأيديولوجية للماركسية وعدم ترك الفرصة لها لتجديد نفسها!!!
إستعار فوكوياما مقولة نهاية التاريخ من الفيلسوف الألماني "هيقل" التي تعني لديه الدولة الليبرالية ، وآستعار مقولة الإنسان من الأخير من "نيتشه" . يرى فوكوياما أن المشكلات العرقية والقومية والدينية وغيرها ستبقى فقط في البلدان التي تعيش مرحلة التاريخ الراهن ، أما بلدان الديمقراطيات الليبرالية فتكون قد تجاوزت تلك الإنقسامات إلى مرحلة ما بعد التاريخ الحالي .إنطلاقا من هذه المقولة يسهل تقسيم العالم إلى قوى بشرية تناضل داخل تاريخها في حين أن التاريخ الحقيقي قد تجاوز ذلك إلى مرحلة الديمقراطية الليبرالية أي إلى نهاية التريخ . ومأساة الدول المتخلفة والنامية أنها ستستمر في صراعاتها اللاتاريخية طويلا قبل أن تلتحق بركب كل تاريخ سابق عليها ،ومأساة تلك البلدان حسب فوكوياما أن مشكلاتها غير قابلة للحل لا بالعنف ولا بالسلم . سبب ذلك أن العنف يقودها إلى التدمير في الداخل وعندما تنتهي رقصة الدم تجد نفسها قد إبتعدت كثيرا عن الديمقراطية الليبرالية .من جهة أخرى فالديمقراطية في هذه البلدان هشة للغاية لأنها غير محمية من قوى ومؤسسات تحترم الديمقراطية كقيمة مطلقة بحد ذاتها كما تفعل القوى والمؤسسات في البلدان الديمقراطية .ورغم وجود مشكلات حادة في بلدان الديمقراطيات الليبرالية من بطالة وتمييز عنصري وكساد وأزمات سكن وتعليم وعمل وآغتصاب ومخدرات وغيرها ،فإن فوكوياما يفصل في ذلك مؤكدا أن تلك المشكلات عرضية وأن الديمقراطيات الليبرالية ستنتصر في النهاية وهي التي كتبت نهاية التاريخ كما رسمها هيقل منذ قرنين .في تناوله لماركس و الماركسية يذهب فوكوياما إلى أنها إرتدادا أو قطعا معرفيا سلبيا مع المسار الهيقلي لفهم التاريخ وبالتالي لابد من تجاوز ماركس والماركسية معا بعد ما حدث في المعسكر الإشتراكي والذي أدى إلى سقوطه والفشل الذريع للماركسية في الفكر والممارسة معا فوظيفة فوكوياما الراهنة أن يحذف المرحلة الماركسية ليعيد التواصل بين التاريخ ونهايته على هدى مقولات "هيقل". أما التطور المستمر فهو للأفكار الكبرى التي تحرك الأفكار التي تحرك التاريخ ،فالأفكار الكبرى التي تشكل قاعدة التاريخ الشمولي لها بدايات يحاول فوكوياما التفتيش على دعائم لها في فكر "هيقل" أما نهاية هذه الأفكار فإنها تتجسد في مقولة الدولة الليبرالية الهيقلية، إنها نهاية التاريخ[5]

3 - أطروحة صدام الحضارات لهانتنغتون :

بدأت أطروحة "هانتنغتون" حول صدام الحضارات بمقالة نشرها سنة 1993 بمجلة السياسة الخارجية، لتتطور في كتاب نشر سنة 1996 بعنوان "صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي ". خلاصة هذه الأطروحة أن أساس الصراعات والنزاعات في العالم هو أساس ثقافي، وأن الفروق بين الحضارات هي فروق حقيقية وأساسية .يعرف هانتنغتون الحضارة "بأنها أعلى تجمع ثقافي للناس والشعب "[6]،وتتمايز الحضارات بالتاريخ واللغة والثقافة والتقاليد وخاصة الدين [7].وفي تصنيفه لحضارات عالم اليوم ،يقسمها "هانتنغتون" إلى الحضارة ، الغربية ، الكونفوشيوسية ، الإسلامية ، الهندية ، السلافية ، الأرثذوكسية ، الأمريكيةاللاتينية والحضارة الإفريقية . أما فيما يتعلق بمرتكزات صدام الحضارات، فإن أبرزها :
- التمايز في مقومات الحضارات وهي التاريخ واللغة وخاصة الدين
- إحتكاك الشعوب المختلفة ببعضها البعض والتفاعل بينها مما يساعد على بروز الفروقات بين الحضارات وآزدياد الوعي بها
- إنعكاسات التحديث الإقتصادي والإجتماعي على الهويات القومية والوطنية مما ولد الرغبة في صيانة هذه الهويات ضد الإختراقات الأجنبية
- إزدواجية النموذج الغربي كنموذج يحتذى إقتصاديا وتنمويا وكنموذج غير مرغوب فيه ثقافيا وقيميا
ينتهي هانتنغتون إلى أن حضارتا الإسلام والغرب هما الأقرب للتصادم والصراع على أرضية ما دار بينهما من صراع يعود إلى 1300 سنة الذي من حلقاته الرئيسية الحروب الصليبية والحروب العثمانية الأروبية والإستعمار هذا علاوة على ما يسميه مؤلف صدام الحضارات ب"إرهاب الجماعات الأصولية" "إن هذا التفاعل العسكري الذي يمتد عمره قرونا بين الغرب والإسلام ليس من المرجح أن ينحسر بل قد يصبح أكثر خطرا"[8]. إن هذه المواجهة التي يرى "هانتنغتون" فيها مواجهة حتمية تعود إلى عوامل مثل الزيادة الديموغرافية الهائلة للمسلمين في العالم، الصحوة الإسلامية ورفض الثقافة الغربية ،زيادة النفوذ العسكري والثقافي الغربي في العالم الإسلامي وسقوط الإتحاد السوفياتي ونهاية الخطر الشيوعي .


ثانيا : نتائج العولمة :
لقد إنتهت العولمة ، والعولمة الأمريكية إلى نتيجتين هامتين يمكن إعتبارهما من الفواصل في تاريخ البشرية وهما أحداث 11 سبتمبر والغزو الأمريكي للعراق.

1 – أحداث 11 سبتمبر وموقف المثقفين الأمريكيين :

إن ما آنتهى إليه "صامويل هانتنغتون من مقدمات فكرية وأيديولوجية للتأسيس للعولمة والذي مفاده أن الصراع العالمي الآتي في أعقاب نهاية الحرب الباردة لن يكون صراع قوة تخوضه دولة أو إئتلاف دول ، على مصادر إقتصادية وأسواق أوعلى مواقع جيوستراتيجية ،وإنما سيكون صدام حضارات وأن الإسلام في ذلك هو "قوة الظلام حسب رأيه " بسبب " نزوع المسلمين نحوالصراع العنيف" على حد قوله قد حظي بآهتمام العالم الغربي قبل أحداث 11 سبتمبر وبصفة خاصة بعدها . فقبل 11 سبتمبر ومنذ بداية التسعينات تاريخ تفكك الإتحاد السوفياتي وحلف وارسو أداته العسكرية سعت المراكز الإستراتيجية الغربية وخاصة الأمريكية منها إلى البحث عن عدو إستراتيجي جديد يبرر بقاء حلف الناتو،وتخصيص النسبة الأكبر من إيرادات الدولة الأمريكية لبرامج التسلح مع إقناع دافعي الضرائب الأمريكية بذلك ، وإستمر بناء القواعد العسكرية في ظل غياب العدو.إن كل ذلك إستوجب من الولايات المتحدة الأمريكية إعادة صياغة عقيدتها العسكرية لضمان تفوقها العسكري ودخلها من مبيعات السلاح التي تجاوزت 60 مليار دولار منذ حرب الخليج الثانية ، هذا حفاظا على قيادتها للغرب بل للعالم بأكمله [9]. لقد بدأت ملامح العدو الإستراتيجي الجديد تتبلور مع مطلع التسعينات عندما أقرت سفيرة الولايات المتحدة بالأمم المتحدة أن "العدو القادم هو الأصولية الإسلامية كمقدمة لتبني نفس الموقف من طرف الحلف الأطلسي الذي عبر عن ذلك صراحة في بيان أصدره سنة 1992 جاء فيه أن الأصولية الإسلامية هي العدو القادم للحلف ،حيث أن الإسلام يملك مقومات سياسية شبيهة بالشيوعية حيث يسعى لمناهضة المشروع الرأسمالي ،وهو صنف من الخطاب كان يوجه للشيوعية بعد الحرب الثانية .يقول إدوارد سعيد "عالم الإسلام أقرب إلى أروبا من كل ما عداه من الأديان غير المسيحية وقد أثار قرب الجوار هذا ذكريات الإعتداء والإحتلال والمعارك الإسلامية ضد أروبا ،كما أنعش في الذاكرة دوما قوة الإسلام الكامنة المؤهلة لإزعاج الغرب ...إن الإسلام ينفرد في أنه على ما يبدو لم يخضع أبدا للغرب خضوعا كليا ...إلخ[10].وهو نفس الموقف الذي عبر عنه رئيس تحرير مجلة الدفاع الوطني الفرنسية بقوله "ينطلق الأروبيون في تعاملهم مع الظاهرة الإسلامية عموما من خلفيات ثابتة وتاريخية ومن معطيات التقارب الجغرافي وفي العموم يخشى الفرنسيون والأروبيون الظاهرة الإسلامية ويعتبرونها تهديدا خطيرا "[11].
بعد 11 سبتمبر أدرك الساسة الأمريكان وقبلهم المفكرون الإستراتيجيون أن عدو الأمس المفتعل بل حليف الأمس والأداة الأمريكية في مواجهة الإتحاد السوفياتي، المتمثل في الجماعات الإسلامية وخاصة جماعة القاعدة الذين إنتصروا على نظام "نجيب الله" الشيوعي في أفغانستان وساعدوا على إنجاز أحد أهداف أمريكا الإستراتيجية وهي الإنتصار على الإتحاد السوفياتي كما إستخدمت أمريكا ظاهرة الإسلام السياسي بدعم من بعض الأنظمة العربية المحافظة وخاصة المملكة العربية السعودية . إن هذا الحليف أصبح عدوا حقيقيا تحول إلى ما تسميه وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ب " الضربة المرتدة " وتمكن من إختراق النظام الدفاعي لأقوى قوة عسكرية في العالم فهي المرة الأولى منذ 1812 التي تهاجم فيها الأراضي القومية الأمريكية [12] .وبذلك سقطت نظرية الولايات المتحدة الأمنية القائمة على أن المحيطين الهادي والأطلسي يشكلان عازلا أمنيا طبيعيا ،كما سقطت نظرية التفوق العسكري التكنولوجي والمعلوماتي .لقد كانت أحداث 11 سبتمبر مثالا صغيرا على أن القوة العسكرية الهائلة ليست فاعلة ضد التهديدات الموجودة حسب أحد الساسة الأمريكان[13] .وتبين أن قوة الردع الأمريكية الهائلة قد أعدت لعدو عقلاني يمكن ردعه ،لعدو له شكل وقاعدة ،لعدو يمكن قياس النصر عليه في حال المواجهة ،لعدو له سوابق في العمل السياسي والعسكري يمكن رصد حركته ومواقفه .غير أن العدو الجديد -الذي هو من صنيع الإدارة الأمريكية نفسها على الأقل في المستوى الإعلامي حتى تبرر سياساتها- مختلفا عن ذلك ،فهو يخوض حربا غير تقليدية يختلط فيها المدنيون بالعسكريون ليصبحوا أهدافا مشروعة ،ولا يقبل بأقل من النصرالشامل[14]، حسب ما يصوره الإعلام الأمريكي الذي نجح بعد أحداث 11 سبتمبر في التعبئة ضد العرب والمسلمين حيث إعتبر بعض المثقفين أن صدام الحضارات قد إنطلق وأخذ أشكال إعتداء في الأماكن العامة وفي الجامعات وبرزت حملات التمييز ونزعات الكراهية والأهم من ذلك هو الموقف الذي تبنته النخب السياسية وبعض المثقفين الأمركيين من العرب والمسلمين وكذلك من الإسلام بعد أن وقع الخلط بينه وبين حركات الإسلام السياسي الإحتجاجي .فقد صرح المدعي العام الأمريكي في شهر نوفمبر 2001 قائلا أن "الإسلام دين يطلب فيه الله منك أن ترسل إبنك ليموت في سبيله ،أما المسيحية فهي عقيدة يرسل فيها الرب إبنه ليموت من أجلك". وآقترحت الكاتبة "آن كولتر" غزو بلاد المسلمين وقتل زعمائهم وتحويلهم إلى المسيحية ، وآعتبر "وليام ليند" مؤلف كتاب "لماذا يشكل الإسلام تهديدا لأمريكا والغرب " أن "المسلمين يشكلون طابورا خامسا ويجب تشجيعهم على مغادرة الولايات المتحدة "[15] ،ووصف القس "بات روبرتسون" الذي يملك أكبر شبكة فضائية دينية في الولايات المتحدة ، وصف الإسلام بأنه" خدعة كبيرة" وأن النبيء "محمد" مجرد متطرف ،لقد كان سارقا وقاطع طرق" . لقد تم تتويج هذا التوجه بإطلاق الحملة التي سمتها الإدارة الأمريكية "الحرب على الإرهاب" التي قال عنها عالم اللسانيات الأمريكي "نعوم شومسكي" إن تسميتها "حرب ضد الإرهاب "هي من قبيل الدعاية ما لم تكن الحرب تستهدف الإرهاب بالفعل ،لكن من الواضح أن هذا لم يفكر به أولئك لأن الدول الغربية لا تستطيع أبدا أن تلتزم بتعريفاتها هي نفسها الرسمية لمصطلح الإرهاب كما في القانون الأمريكي أوكتيبات توجيهات الجيش الأمريكي ، فهي إن فعلت ذلك تكشف على الفور أن الولايات المتحدة دولة إرهابية بارزة وبالمثل عملاؤها "[16]
مقابل ذلك وقع ستون مثقفا أمريكيا وثيقة من 10 صفحات تحمل عنوان "رسالة أمريكا ، دوافع الحرب "[17]، صدرت عن المعهد الأمريكي للقيم ومن أبرز موقعيها صامويل مانتنغتون وفرنسيس فوكوياما ودانيال موينهان وغيرهم وقد كتب نص الوثيقة أكاديمي نسوي محافظ -العبارة "لإدوارد سعيد"[18] – هو "دجين باثك ألشتاين" الذي إستقى أفكاره من أستاذ علم الإجتماع مايكل والزر المعروف بميله إلى اللوبي الصهيوني وتبريره لكل ما تقوم به "إسرائيل " الدولة الدينية ولكنه يعرف برفضه لقيام دولة دينية مسيحية في الولايات المتحدة . لقد أشارت الوثيقة إلى مجموعة من المبادئ مثل مبدأ المساواة بين البشر وأن القتل بآسم الله هوشيء مرفوض وحرية الفكر مسألة ضرورية كما أن الموضوع الأساسي للمجتمع هوالفرد الذي تستوجب حمايته من الدولة وبناء عليه فإن كل من يحارب الولايات المتحدة فهو يحارب المبادئ الإنسانية المشار إليها وكأنها مبادئ أمريكا وحدها ، لقد أشارت الوثيقة إلى بعض أخطاء السياسة الأمريكية ولكنها بالمقابل عددت ما تعرضت له الولايات المتحدة من "جرائم "على أيدي العرب والمسلمين مثل تفجير مقر المارينز في بيروت سنة 1983 ولكن الآلاف الذين قتلوا في جميع أنحاء العالم على أيدي القوات الأمريكية في اليابان في فتنام في لبنان في الصومال في العراق وفي فلسطين بسلاح أمريكي ومن طرف حليف أمريكا الإستراتيجي أي الدولة العبرية ، لا تشير إليهم الوثيقة لأنها في نهاية الأمر وثيقة تأييد لإعلان الحرب على الإرهاب الذي أقرته المؤسسة الأمريكية الذي سيكون من نتائجه غزو أفغانستان ثم إحتلال العراق . لقد وصف "إدوارد سعيد" نص الوثيقة في تعليقه السالف الذكر بأنه خطاب يشيع الجهل والتجاهل ويعتم عن حقائق السياسة والتاريخ بالرغم من إدعائه التمسك بالقيم والمبادئ ،إنه نذيربداية مرحلة تنبؤ بآنحطاط الخطاب الفكري والثقافي الأمريكي بعد أن قبل مثقفوا أقوى دولة في العالم التخندق مع الحكومة خاصة وأن البنتقون يقف وراء الوثيقة تمويلا ودعاية للحرب على الإرهاب .

2 – الغزو الأمريكي للعراق :

يعد غزو العراق الحلقة المحطة التاريخية الأكثر أهمية في مرحلة العولمة الأمريكية ورغم ذلك فمن غير المجدي العودة إلى مناقشات ما قبل الحرب التي كانت تدور حول مدى شرعية الخطاب الأمريكي والبريطاني ومن حالفه في الغرب المتعلق بغزو العراق فقد أقرت أغلبية الدول وكل الشعوب في العالم عدم شرعية تلك الحرب بل وقذارتها .
لكن من الضروري الوقوف عند آراء بعض النخب من مسألة الحرب بصورة عامة ،فقد إرتأت هذه النخب ومنذ أحداث 11 سبتمبر ضرورة شن حرب على "الشرق الأوسط " يكون العراق مقدمتها ومحورها الرئيسي، مثلما دعا إلى ذلك "توم دونللي" الذي إعتبر أن مشروع القرن الجديد بالنسبة له يبدأ بغزو العراق ولا يحتاج المشروع حسب رأيه نشر نصف مليون جندي .تردد نفس الموقف لدى "جوناه جولدبرجر" الذي يعمل ب"المجلة القومية " من أن الولايات المتحدة تحتاج إلى الدخول في حرب مع العراق ،لأنها تحتاج للدخول في حرب مع أية دولة في المنطقة والعراق هي أنسب دولة لذلك . ويضيف "برجر" "...وبعد الإطاحة بالطغاة في إيران والعراق وسوريا والسعودية سنبقى مشغولين ، فلا بد من تحقيق الثورة الديمقراطية ،فالإستقرار مهمة أمريكية غير لائقة وهومفهوم مظلل يجب أن نستبعده ،فنحن لا نريد إستقرارا في هذه البلدان ، نريد أن نحدث تغييرا ".إن المهمة اللائقة والتاريخية بناء على ما ذكره "مايكل ليدن" المسؤول السابق في البنتجون تتمثل فيما يلي :"إن التدمير الخلاق هو إسمنا الثاني داخل مجتمعنا ومن الخارج ،إننا نمزق النظام القديم كل يوم ،من التجارة إلى العلم والأدب والفن والعمارة والسينما إلى السياسة والقانون، إن أعداءنا كانوا يكرهون دائما هذه الدوامة من الطاقة والقدرة الخلاقة التي تهدد تقاليدهم وشعورهم بالخزي لعجزهم عن اللحاق بنا ، ولابد من تدميرهم حتى نتقدم في تحقيق مهمتنا التاريخية[19]".فقد كان غزوالعراق وإحتلاله بمثابة المخبر لوضع هذه الأفكار تحت التجربة التاريخية للتثبت من مدى صدقها . 
إن إحتلال العراق لم يكن إحتلالا تقليديا كما كانت تفعل قوى الإستعمار التقليدية التي كانت تحافظ على حكم السلالات الحاكمة والأمثلة على ذلك كثيرة(تونس 1881 ،مصر1882 والمغرب 1912 ) فجاء الغزو تحت شعار "التحرير"والتخلص من النظام بعد أن ثبت هشاشة مقولة أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها العراق. لقد كانت الإدارة الأمريكية تدرك أن النظام العراقي يعكس وجود دولة مركزية قائمة على عملية إندماج تاريخي للمجموعات العرقية والطائفية والدينية والمذهبية تطلب إدماجها عملية معقدة وطويلة وربما خضعت هذه المجموعات لعملية توحيد قسري . لقد كان الإحتلال الأمريكي للعراق منذ يومه الأول يستهدف وجود الدولة ومؤسساتها وتاريخها وذاكرتها إذ لم يكتف بإسقاط تمثال "صدام حسين " كرمز لسقوط النظام وإنما أطلقت قوى الإحتلال العنان لعمليات السلب والنهب وحرق الدوائر الحكومية والوزارات والمتاحف الوطنية ودور الوثائق والمخطوطات والأرشيف والجامعات والمراكز العلمية ،إنها رسالة موجهة إلى الدولة العراقية ، مؤسساتها وتاريخها وذاكرتها ، لتعود بالعراق إلى مرحلة ماقبل الدولة مرحلة تمثيلية الطوائف والعشائر والإثنيات والمذاهب سواء كان ذلك في مستوى الإدارات المحلية أو على المستوى المركزي[20]. ولعل أحسن مثال على ذلك مجلس حكم العراق الذي نصبه الحاكم المدني الأمريكي "بول بريمر". إن تدمير مؤسسات الدولة العراقية إقتصاديا وسياسيا وثقافيا وعسكريا هوتدمير للمجتمع العراقي الذي لا شك أنه ولد في أحضان الدولة نفسها شأنه في ذلك شأن كل "المجتمعات العربية ".



3 -  أحداث 11 سبتمبر وآحتلال العراق : بدايات العولمة أم نهاياتها :
يؤرخ لبدايات العولمة بسقوط الإتحاد السوفياتي في نهاية الثمانينات من القرن العشرين. لقد إستهدفت العولمة خلال عقد ونصف تقريبا تغيير العديد من المفاهيم ،لعل من أبرزها مفهوم سيادة الدولة الذي تناقص تدريجيا في ظل تدفق الأفكار والمعلومات والسلع والأموال والبشر عبر حدوددها ،فلم يعد للحواجز والحدود الجغرافية أهمية تذكر في ظل الثورة الهائلة في مجال الإعلام والإتصال التي تدعمت بتنامي ترسانة الأقمار الصناعية وتوسع مجال إشتغال شبكة الأنترنات والتكنولوجيات الحديثة التي باتت متعامل بها في عمليات التبادل التجاري والمعاملات المالية خاصة بعد أن أصبح للشركات المتعددة الجنسية سيادة موازية لسيادة الدولة[21] ، بعد أن تمكنت هذه الأخيرة من نقل سلطة الدولة وآختصاصاتها إلى مؤسسات عالمية تتولى تسيير العالم وتوجيهه وهي بذلك تحل محلها[22]. إن مضمون العولمة السياسية في ظاهره دعوة إلى تعميم الديمقراطية والليبرالية السياسية وحقوق الإنسان والحريات الفردية وغيرها من القيم السياسية للمجتمع الغربي، إلا أن باطن العولمة السياسية هو"الأمركة "، إن جوهر العولمة المؤمركة هو إعادة إنتاج مقولات الإستشراق الأمريكي مثل مقولة "روزفلت" أحد رؤساء أمريكا سنة 1898 " قدرنا أمركة العالم "[23]، إن هذه المقولة تتجسد عمليا بعد أن مضى عليها أكثر من قرن ، شعارها القرية الكونية وسيلتها إلغاء الفروقات والخصوصيات الثقافية بين الشعوب والأمم والحضارات والديانات ،هدفها رأسملة النظام الإقتصادي العالمي كأداة لضمان الربح والربح المستمر لسادة العولمة بل لسادة الأمركة أي الشركات العابرة القومية ، النتيجة هي إلغاء سيادة الدول كمقدمة لإلغاء سيادة الأمم والشعوب وحقوقهم في أوطانهم وفي إمكانياتهم المادية والبشرية .إنها ببساطة الهيمنة الأمريكية ،فإلى أي مدى نجحت هذه الهيمنة المختفية وراء مقولات العولمة ؟ إن أحداث 11 سبتمبر والإحتلال الأمريكي للعراق يعكسان نهاية العولمة كمجموعة من المقولات الجذابة المروجة لأفكار الحداثة والتحررية الإقتصادية والديمقراطية الليبرالية ذات التعددية والبرلمانية وما صاحب ذلك من حقوق الإنسان والحريات العامة والخاصة ...إلخ ،وبداياتها بإعتبارها محاولة لأمركة العالم .إن أحداث 11 سبتمبر وبقطع النظر عن من خطط لها ومن نفذها هي رد فعل غير معهود على العولمة في ثوبها الأمريكي أي على الهيمنة الأمريكية ، إن مركزي التجارة العالمية في نيويورك لا يمثلان فضاءات تجارية تقليدية وإنما يرمزان إلى السيادة "الإمبراطورية " للولايات المتحدة الأمريكية وإلى سيادة شركاتها المتعددة الجنسية ، وما وقع في 11 سبتمبر هو نتيجة لمسار العولمة الأمريكية الذي إنتهى إلى الهيمنة المطلقة على العالم. أما غزو العراق وآحتلاله فيمثل إختبارا حقيقيا لمقولات العولمة والعولمة في ثوبها الأمريكي، فالعراق رفض فتح حدود دولته أمام تدفق الرأساميل الغربية والمعلومات وإلغاء الحواجز القمركية أمام سلع الماكنة الرأسمالية والتفويت في مؤسسات القطاع العام لصالح الخواص ودافع عن سيادة دولته وآستقلالية قراره السياسي ولم يستجب للنموذج السياسي الليبرالي وفاخر بإنتمائه لحضارة تمتد على أكثر من خمسة آلاف سنة وعلاوة على كل ذلك رفض التطبيع مع دولة الصهاينة المسماة "إسرائيل". إن كل ذلك قد وضع العراق خارج منظومة العولمة بل رفضها ومقاومتها ،وهو ما عرضه للغزو والإحتلال الأمريكي بما يرمز إليه ذلك من إصرار أمريكي على أن يكون العراق داخل منظومة العولمة ولكنها العولمة الأمريكية أومحاولة أمركة العراق ليس عبر تدمير جميع مؤسسات دولته ونهب إمكانياته المادية والمعنوية فقط وإنما بالإضافة لذلك تغيير مناهجه التعليمية وكل أدوات التنشئة التي تتولاها المؤسسات الدينية والثقافية والإعلامية والتربوية والأسرية لإعداد جيل يستطيع معايشة العولمة الأمريكية. إن العراق في نهاية الأمر ليس سوى نموذجا لرفض إختراق العولمة ومقولاتها وأحد أبرز ضحاياها .


4 - حوار الحضارات أم نظرية الغالب والمغلوب :
إن علاقة الحضارات والثقافات ببعضها البعض هو موضوع حوار فكري قديم متجدد ، فقبل أن يصدر هانتنغتون كتابه حول صدام الحضارات سنة 1996 كان كثير من المثقفين في الغرب والشرق يصدرون المؤلفات ويقيمون الندوات والملتقيات العلمية والفكرية حول علاقة الشرق بالغرب وحول علاقة المسيحية بالإسلام وعلاقة أروبا بالعرب وغيرها من المسائل المتصلة بذلك .فقد إلتقى في مطلع عشرية الثمانينات من القرن الماضي مجموعة من المثقفين العرب والغربيين في ندوة فكرية تحمل إسم حوار الثقافات نظمها ما كان يعرف آنذاك بالمجلس القومي للثقافة العربية ونشرت أعمالها بمنبره الفكري "مجلة الوحدة ".في سنة 2001 أوصت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأن تكون تلك السنة سنة الحوار بين الحضارات وعين الأمين العام للأمم المتحدة لجنة من عشرين عضوا لوضع وثيقة تعرض على الجمعية العامة لإقرارها ، تشرح الحاجة لهذا الحوار وضروراته وفاعليته وقد أعدت الوثيقة في 250 ص حملت عنوان "عبور خطوط التقسيم ..الحوار بين الحضارت". وفي نفس الفترة تقريبا كانت حكومة الجمهورية الإسلامية الإيرانية "الإصلاحية "تتخفى وراء "شعار" حوار الحضارات لبناء علاقة جديدة مع الولايات المتحدة الأمريكية . لقد عصفت بهذه الدعوات والمحاولات أحداث 11 سبتمبر.وتكررت الدعوة إلىحوار الحضارات سنة 2002 في مبادرة تولتها جامعة الدول العربية ونشرت أعمالها بدوريتها شؤون عربية ، خلاصة ماجاء في كلمة الأمين العام للجامعة ما يلي " إن الهدف الذي نطمح إليه هو التصدي الرصين لحملة التشويه الموجهة إلينا وكذلك إطلاق حوار موضوعي بناء ،حوار حضارات حقيقي مبني على أسس وقواعد محكمة تسمح بتفجير طاقات التعاون وفتح نوافذ للفهم والتفاهم فيما بين هذه الحضارات ونبذ نظريات التمييز والصراع "[24].وآنبرى "المفكرون العرب " المشاركون في أعمال الملتقى السالف الذكر يدافعون على الثقافة العربية الإسلامية والدور الذي قامت به في تشكيل الحضارة الإنسانية قبل أن تصل إلى مرحلة المساهمة فيها فقط ، لكنهم إنتبهوا في بيانهم الختامي إلى أن وراء الإختلال الحضاري الذي تعيشه الحضارة العربية الإسلامية يقف التخلف الإقتصادي والإستبداد السياسي والفساد بكافة أشكاله وأن التطرف والعنف هي ظواهر ناتجة عن ذلك التخلف والإستبداد ، داعين إلى إقامة العدالة الإجتماعية والديمقراطية وإعادة النظر في البرامج التعليمية ، وتشجيع البحث العلمي .وفيما يتعلق بطبيعة العلاقة الراهنة بين الحضارة العربية الإسلامية والحضارة الغربية إرتأى "المفكرون العرب" ضرورة إعتراف الحضارتين كل واحدة بالأخرى،وأن تعاونهما يشكل مدخلا للقضاء على الإرهاب الذي لا دين ولا وطن له..إلخ[25]
لقد فشلت مبادرة الجمعية العامة للأمم المتحدة أمام إختبار 11 سبتمبر سنة 2001 وفشلت دعوة جامعة الدول العربية أمام إختبار الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003 .فهل هناك ضرورة لحوار الحضارات؟ وهل هناك صدام حضارات فعلا كما ذهب إلى ذلك "هانتنغتون" وتدافع الكثير من المثقفين في كافة أصقاع الدنيا بين مؤيد ومناوئ ؟ وهل يمكن للمثقف العربي على وجه الخصوص أن يكون محايدا تجاه كل ذلك ؟
إن أطروحة صدام الحضارات وكل دعوات الحوار الحضاري هي بكل بساطة ضرب من الوهم لأن الحضارات الإنسانية لا تتصارع لأن أحدا إرتأى ذلك ،ولأن هذا الصراع لا ينتفي لمجرد أن مجوعة من المثقفين العرب تناولوا هذا الموضوع بالبحث والحوار حتى وإن كان ذلك مع أقرانهم من الغربيين الذين يذهبون نفس المذهب .إن الدونية الحضارية هي وليدة الهيمنة الإقتصادية والسياسية والثقافية ذلك ماتقدمه لنا دروس التاريخ ،فالمجتمع العربي الذي يعيش هذه الدونية رزح لفترة طويلة تحت الهيمنة التركية التي وجدت في الخلافة الإسلامية العثمانية وسيلة لشرعنة ذلك ، وإستمر وضع الهيمنة مع الإحتلال الأروبي الذي عاشه الوطن العربي أكثر من قرن في بعض الأقطار العربية ورغم التضحيات التي قدمتها حركات التحرير العربية لنيل الإستقلال فإن هذا الأخير جاء مشوها بل صوريا فالنظم السياسية التي ورثت المستعمر سرعان ما فقدت شرعيتها أمام أول إختبارللتنمية الإقتصادية المستقلة والمشاركة السياسية القائمة على الديمقراطية والحفاظ على السيادة الوطنية . وبعد إنتهاء فترة ما كان يعرف بالحرب الباردة والسقوط الإستراتيجي للإتحاد السوفياتي إعتقد الكثير أن بروز مقولة العولمة سيكون مدخلا للقضاء على التخلف السياسي والإستبداد السياسي لكن سرعان ما ظهر للعيان أن العولمة ليست سوى ثوب لقوة إستعمارية جديدية هي الولايات المتحدة الأمريكية نزعت هذا الثوب بعد أحداث 11 سبتمبر لترمي به نهائيا مع غزوها وآحتلالها العراق ، إنها العولمة المؤمركة بل لنقل إنها الأمركة التي بشر بها الإستشراق الأمريكي سنة 1898 (أشرنا إلى ذلك سلفا في الجزء المتعلق بالإستشراق الأمريكي) .إن ما يطلق عليه صدام الحضارات لا يعدو أن يكون سوى هيمنة إستعمارية ذات أشكال ظاهرة وأخرى خفية في ظلها إنتشرت مبادئ الإسلام في الغرب حتى أصبحت الديانة الإسلامية الديانة الثانية في دول مثل فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية نفسها وفي ظلها أيضا إنتشرت المسيحية في كثير من البلدان الإفريقية وفي غيرها حتى لا نقول في الشرق لأن جميع الديانات ذات منبت شرقي وبالتوازي مع هذه الهيمنة الغربية إنتشرت مقولات ومبادئ الليبرالية الغربية في المستعمرات ومواقع النفوذ في الوطن العربي وغيره من بلدان العالم الإسلامي . ولم تكن الأدوار التي قامت بها حركات التحرير في دحر الإستعمار التقليدي المباشر مؤشراعلى وجود حضارات تتصادم شأنها في ذلك شأن أحداث 11 سبتمبر التي يبدو أن أصحابها إبتغوا من ورائها كسر شوكة الهيمنة الأمريكية المتفاقمة بإستمرار ولن تكون مقاومة الإحتلال الأمريكي في العراق حلقة من حلقات صدام الحضارات ولو تخفت وراء شعارات الحرب الدينية وإنما ستكون حلقة في سلسلة التصدي للإستعمار والهيمنة الغربية الأمريكية .يمكن أن نضرب مثلا ثانيا على وهم صدام الحضارات والمتمثل في الصراع العربي الصهيوني وإحتلال الصهيونية لأرض فلسطين ،فاليهود الذين توطنهم الصهيونية على أرض فلسطين مدعومة بالغرب الأروبي تاريخيا والغرب الأمريكي حاضرا ينتمون شأنهم في ذلك شأن العرب إلى السامية وينتمي الغرب حليف إسرائيل التقليدي والإستراتيجي إلى الآرية مع إقرارنا بضبابية وهشاشة الإنتمائين ،في حين أن الصراع الدائر بين العرب وإسرائيل هوالأكثر دموية وتعقيدا من بين كافة الصراعات التي عرفتها البشرية على مدى تاريخها الطويل والأكثر تعقيدا من بين جميع أنوع الإستعمار بآعتبار طبيعته الإستيطانية .فهل نحن أمام هيمنة إستعمارية أم أمام صدام حضاري ؟ إنها نظرية الغالب والمغلوب التي أشار إليها إبن خلدون التي تقتضي أن يفرض الغالب شروطه على المغلوب وشروط الغالب في عصر العولمة المؤمركة هي القبول بآقتصاد السوق القائم على مبادئ منظمة التجارة العالمية والشركات المتعددة الجنسية وتدخل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ،تطبيق مقولات الليبرالية الغربية بإقامة نظام سياسي دستوري برلماني يعتمد التعددية الحزبية وحقوق الإنسان ولو شكليا كما يحدث في كثير من الدول العربية ،ونشر ثقافة التسامح والسلام ونبذ العنف والتطرف والإرهاب بما في ذلك حركات التحرر والمقاومة وإعطاء حقوق الأقليات، والإستجابة لجميع قرارات مجلس الأمن الدولي وإذا لم يستجب لذلك فالآلة العسكرية الأمريكية كفيلة بتحقيقه ،فهل يستطيع المثقف العربي أن يكون محايدا تجاه الغلبة التي يتعرض لها مجتمعه ؟ 
نقرأ في تاريخ الأفكار والمفكرين في الغرب أن هؤلاء لم يكونوا محايدين في المعارك التي خاضتها مجتمعاتهم القومية أو مجتمعهم الأروبي ،حتى لما كانت تلك المعارك ذات طبيعة إستعمارية وتهدف إلى إحتلال مجتمعات أخرى ،فقد وصف الفيلسوف الأنقليزي "لوك" الهنود الذين إستعمرتهم بلاده أي المملكة المتحدة بأنهم كسالى وآنفعاليون وجامدون وبعيدون عن الإنظباط وبريون وعنيفون وليس لديهم فنونا وعلوما وثقافة ويفتقرون إلى مؤسسات الدولة وأرضهم خالية ومهجورة ويمكن أخذها دون إذنهم والأنقليزي ليس حرا في أن يأخذ ريع الأرض الهندية ويتدخل في طريقة حياة الهنود وإنما ذلك واجب عليه ، والإستعمار الأنقليزي ضرورة لا غنى عنها لنقلهم إلى المدنية وهذا الإستعمار لا يحتاج إلى تبرير[26].ويتكرر الموقف لدى "ستوارت مل "فيرى أن المجتمعات المتأخرة فاقدة للقدرة على تجديد ذاتها وأنها بحاجة إلى تمدن من الخارج وأن حق عدم التدخل لا تستحقه لأنها لا تملك الحق في سلامة أراضيها .ويؤيد "توكفيل"إحتلال فرنسا للجزائر معتبرا ذلك لصالح الطرفين بل ذهب أبعد من ذلك معتبرا أنه من غير الممكن معاملة رعايا المستعمرات كما لو كانوا مواطنين مثلنا أو مساوين لنا ، وعندما قامت فرق المارشال بيجو بأسر وحرق مئات العرب إمتدح "توكفيل "الخدمة العظيمة التي قدمها الجنرال لبلده على تراب إفريقيا [27].كما عبر الفيلسوف الألماني "كانط " عن موقف ينم عن تطرف عندما شارك في الجدل الدائر حول الإستعمار الأنقليزي لهايتي متسائلا عن مبرر وجودجم أصلا أي سكان هايتي ،فهل سيختلف الوضع لو أن هذه الجزيرة كانت مسكونة من قبل خراف وأبقار سعيدة بدلا من هذه الكائنات البشرية التي تستمد سعادتها من اللذة الحسية[28] ؟ يمكن أن نظيف في نفس الإطار موقف "كارل ماركس " فيلسوف الطبقة العاملة من إحتلال كل من الجزائر والهند من طرف فرنسا وأنقلترا معتبرا ذلك مبعثا على تمدين هذه المجتمعات والتعجيل بها للخروج من الإقطاع والدخول مرحلة الرأسمالية التي ستنتهي بثورة البروليتاريا وتحقيق الإشتراكية!!! 
إن هذه الأمثلة تدل بوضوح أن كثيرا من رموز الفكر الغربي الذين شكلوا نموذجا يحتذى لغالبية مثقفي الوطن العربي طيلة النصف الثاني من القرن العشرين لم يلتزموا الحياد فيما يتعلق بقضايا مجتمعاتهم ولم تتوان بعض المجتمعات الأروبية التي عاشت الإحتلال الأجنبي ونخص بالذكر فرنسا تحت الإحتلال الألماني الهتلري ،على فتح تحقيقات وتنظيم محاكمات للمتعاملين مع الإحتلال ولو كان ذلك بعد عشرات السنين . بينما لا يتأخر بعض مثقفينا العرب في إعطاء شرعية للإحتلال الأمريكي للعراق أو الإحتلال الإسرائيلي لفلسطين والتنظير للعولمة بإعتبارها أمرا واقعا لا يمكن تفاديه بالرغم من الأضرار التي أحدثتها وستحدثها هذه الظاهرة على مجتمعاتهم ولعل ذلك يكون نتيجة لدرجة عالية من الإختراق الفكري والثقافي تحول بموجبه الغازي والمحتل إلى صديق وحليف مع التبشير بالحوار الحضاري معه ،هذا الحوار الذي كثيرا ما يتم بلغة الغازي نفسه وبأدواته الفكرية والعلمية وكأن صراع الشعوب مع محتلي أراضيها هو موضوع حوار أو علامة صدام حضارات .
خامسا : "مشروع الشرق الأوسط الكبير":
إن "مشروع الشرق الأوسط الكبير" هوأحد النتائج المباشرة لإحتلال العراق وهو أحد أبرز إفرازات العولمة في ثوبها الأمريكي . قدمت المشروع الولايات المتحدة الأمريكية لمجموعة الثمانية الصناعية للنظر في إمكانية تبنيه في القمة التي ستنعقد في شهر جوان 2004 . يستند المشروع إلى تقريري التنمية البشرية 2002 و2003 الصادرين عن الأمم المتحدة بعد أن صيغا من طرف مجموعة من المثقفين العرب . خلاصة ذلك ما يلي :
- إن مجموع إجمالي الدخل المحلي للدول العربية هو أقل من نظيره في إسبانيا
- حوالي 40 % من العرب البالغين 65 مليون شخص أميون وثلثي هذا الرقم من النساء
- سيدخل أكثر من 50 مليونا من الشباب سوق العمل بحلول سنة 2010 وسيدخلها 100 مليون بحلول سنة 2020 وهناك حاجة لخلق 6 ملايين وظيفة جديدة
- من المحتمل أن يبلغ معدل البطالة 25 مليونا بحلول سنة 2010
- يعيش سكان المنطقة بأقل من دولارين في اليوم
- في إمكان6 . 1 % فقط من السكان إستخدام الإنترنات وهو رقم أقل مما هو عليه في أي منطقة أخرى من العالم بما في ذلك بلدان إفريقيا جنوب الصحراء
- لا تشغل المرأة سوى 5 . 3 % فقط من المقاعد البرلمانية في البلدان العربية
- عبر 51 % من الشباب العرب الأكبر سنا عن رغبتهم في الهجرة إلى بلدان أخرى
- توجد 53 صحيفة بالنسبة لكل 1000 شخص في البلدان العربية في حين أنها 285 بالنسبة لنفس الرقم في البلدان المتطورة ، هذا علاوة على رداءة محتويات الصحف العربية ، وينسحب نفس الرأي على وسائل الإعلام الأخرى التي تهيمن عليها الدولة
- لا يمثل ما تنتجه البلدان العربية من الكتب سوى1 . 1 % من الإجمالي العالمي تشكل الكتب الدينية 15 % منها ، كما أن الكتب المترجمة إلى اللغة اليونانية التي لا يتكلمها سوى 11 مليون شخص خمسة أضعاف ما يترجم إلى اللغة العربية التي يتكلمه حوالي 300 مليون شخص [29]
تمثل تلك النقاط الأرضية التي إستند إليها "مشروع الشرق الأوسط الكبير" وقد خلص هذا المشروع إلى وصفة ثلاثية الأهداف هي على التوالي تشجيع الديمقراطية والحكم الصالح ، بناء مجتمع المعرفة ، توسيع الفرص الإقتصادية .
فيما يتعلق بالنقطة الأولى ينطلق المشروع من أن "إسرائيل" هي الدولة الوحيدة الديمقراطية في "الشرق الأوسط الكبير" ، ويرمي إلى إقامة إنتخابات حرة يمكن أن تنجح عبر تقديم مساعدات تقنية لتسجيل الناخبين والتربية المدنية للحكومات التي تطلب ذلك ، تعزيز دور البرلمانات وتبادل الزيارات البرلمانية ، زيادة مشاركة النساء السياسية بعد تدريبهم على ذلك ، الإصلاح القانوني والقضائي عبر تمويل مراكز تقدم إستشارات في ذلك . يحتل الإعلام درجة من الأهمية في المشروع الذي يدعو إلى ضرورة تبادل زيارات الإعلاميين ورسم برنامج لتدريب صحافيين مستقلين وتنظيم زيارات للطلبة المتخصصين في الصحافة إلى معاهد الصحافة والإعلام في البلدان العربية أو في بقية بلدان العالم . ويقف المشروع عند الفساد الذي لا بد من مكافحته ويمكن للمجتمع المدني أن يقوم بدور في هذا المجال إذا تم دعم منظماته المهتمة بالديمقراطية وحقوق الإنسان في مراقبة السلطة وكشف تجاوزاتها في مختلف المجالات .
النقطة الثانية من المشروع الأمريكي تتعلق بمجتمع المعرفة ، في هذا المجال يدعو المشروع إلى محو الأمية عبر تدعيم وتفعيل برنامج الأمم المتحدة لمكافحة الأمية الذي أطلقته في 2003 تحت شعار " محو الأمية كحرية " مع التركيز على تدريب النساء على مهنة التعليم . ويرى المشروع في إصلاح التعليم ضرورة تستوجب عقد قمة الشرق الأوسط لإصلاح التعليم ، ولا يقل نشر الأنترنات أهمية عن ذلك وهو ما يقتضي ما يسميه المشروع تجسير الهوة الكمبيوترية كمدخل لتحديث التعليم والتجارة.
النقطة الثالثة من البرنامج الأمريكي المسمى ب "مشروع الشرق الأوسط الكبير" تحمل إسم توسيع الفرص الإقتصادية ، مدخل ذلك هوفسح المجال أمام القطاع الخاص ليتولى قيادة العملية الإقتصادية بعد إنهاء تدخل الدولة وهيمنتها على النشاط الإقتصادي ومن ثمة فإن المشروع يقترح برنامجا يقوم على إقراض المشاريع الصغيرة وخاصة تلك التي تتولاها نساء ، بعث مؤسسة المال للشرق الأوسط الكبير التي ستساعد على تنمية مشاريع على المستويين المتوسط والبعيد ، بنك تنمية الشرق الأوسط الكبير بمساعدة مقرضين من الدول الغنية في المنطقة بهدف تولي مشاريع التنمية والتعمير على غرار البنك الأروبي للإعمار والتنمية ، الشراكة من أجل نظام مالي أفضل لإطلاق حرية الخدمات المالية وتوسيعها بالمنطقة للحد من سيطرة الدولة في مجال المال ورفع الحواجز على التعاملات المالية بين الدول وتوفير الوسائل المالية الداعمة لإقتصاد السوق ، تشجيع التجارة البينة بين دول الشرق الأوسط الكبير بعد إلغاء الحواجز القمرقية كمقدمة لدمجها في منظمة التجارة العالمية لتتحول وظيفتها إلى حماية حقوق الملكية الفكرية للشركات عابرة القومية ، إحداث منبر الفرص الإقتصادية للشرق الأوسط الكبير لجمع مسؤولين من مجموعة الثمانية ومن المنطقة المذكورة لمناقشة القضايا المتعلقة بالإصلاح الإقتصادي[30] .
لاشك أن مشروع الشرق الأوسط الكبير يستدعي التأمل والتفكير حول ما ورد فيه من أفكار :
- لقد إستند هذا المشروع إلى جملة من المعطيات والتشخيصات المستنبطة من واقع الدول العربية وحدها وردت في تقريري التنمية البشرية العربية فهي لا تنسحب على بلدان أخرى صنفها المشروع ضمن الشرق الأوسط الكبير مثل باكستان وأفغانستان وإيران وتركيا وهي مجتمعات تتفاوت لديها مؤشرات التنمية البشرية كما تتفاوت هذه المؤشرات بين الأقطار العربية نفسها
- يرمي المشروع إلى تنظيم الأسواق في هذه البلدان لفائدة الشركات العابرة القومية ، فهو لايشير من قريب أو من بعيد إلى التنمية الإقتصادية المستقلة لهذه البلدان أو إلى روافدها مثل التصنيع أوالنشاط الفلاحي في حين يعطي الأولوية المطلقة لتحرير التجارة والحد من دور الدولة
- يهدف المشروع إلى دمج "إسرائيل" في المحيط العربي بعد أن تبين فشلها في ذلك رغم توقيع إتفاقية كامب دافيد منذ 25 سنة مع الحكومة المصرية وإتفاقية وادي عربة بعد ذلك بأكثر من عقد مع الحكومة الأردنية وبعد سقوط إتجاه التطبيع في أسلو ومدريد وكوبنهاقن ، هذا علاوة إعطاء القيادة المالية للمشروع للدولة العبرية
- إن الديمقراطية والحكم الصالح في المنطقة العربية لا يمكن أن تدعمه الولايات المتحدة إلا شكلا لأنه يؤدي وبكل بساطة إلى كنس هذه الدولة ومصالحها من بلاد العرب لأن الشعب العربي هو الأكثر عداء للولايات المتحدة بسبب دعمها غير المحدود لدولة "إسرائيل" وبسبب تدمير العراق وشعبه الذي كان يمثل آخر ملاذات القوة العسكرية والعلمية التي يمكن تحتاجها الأمة العربية يوما ما في صراعها ضد الصهيونية ودولتها وكذلك بسبب حماية أمريكا لحماية الحكام العرب الذين ينظر إليهم على أنهم مجرد بيادق ينفذون سياسة هذه الدولة
- إن إصلاح التعليم وأدوات المعرفة والمعلومات لا يهدف في حقيقة الأمر إلا إلى تغيير مقومات الثقافة والهوية العربية الإسلامية للحد من التطرف والإرهاب والجريمة الدولية والهجرة الدولية كما ورد في ديباجة المشروع وبالتالي تحقيق أحد أبرز أهداف الولايات المتحدة الذي غزت من أجله أفغانستان
- إن المشروع بات يمثل تحديا حقيقيا لحكام الدول العربية فهم أمام خيارين أحلاهما مر ، الأول تنفيذ الوصفة الأمريكية التي تحد من السلطة المطلقة لهؤلاء الحكام والثاني ترك كرسي السلطة لمن لا يرغب خاصة و أن جل الحكام لم يستوعبوا الدرس من غزو العراق وآحتلاله إلا بعد فوات الأوان
- إن المشروع الحقيقي الذي يجب الإلتفاف حوله هو مشروع الوطن العربي الكبير بدل مشروع الشرق الأوسط الكبير 



خاتمة : 

لعلنا لا نبالغ حين نستحضر مقولة كارل ماركس من أن التاريخ لا يعيد نفسه وإذا أعاد نفسه فإن ذلك لا يكون إلا في شكل مهزلة ، ذلك أن ما ردده بعض المستشرقين في القرون الماضية حول العرب والإسلام والمسلمين والنبيء محمد يتكرر على ألسنة كثير من "الساسة والعلماء" الأمريكان بعد 11 سبتمبر ، وإن الدور الذي قام به الإستعمار الأروبي التقليدي في الوطن العربي من نهب للثروات وقتل وتدمير للبشر يكرره الإستعمار الأمريكي المعاصر في العراق وفي غيره ، وأن ما إنتهت إليه أمريكا من طرح لمشروع الشرق الأوسط الكبير بعد إحتلال العراق شبيه بمعاهدة سايسبيكو التي أفرزت الإحتلال الأروبي للوطن العربي في أعقاب الحرب العالمية الأولى . إنه صراع الهيمنة الذي يختفي وراء مقولات الحرب الصليبية كما جاء على لسان بوش الصغير بعد 11 سبتمبر ، ومقولات صراع الحضارات ونهاية التاريخ التي روج لها قادة الرأي في أمريكا ، هذا الصراع الذي لا يستند إلى أي شكل من أشكال التوازن . 


[1] ذياب (مها)تهديدات العولمة للوطن العربي المستقبل العربي عدد 276مركز دراسات الوحدة العربية بيروت فيفري 2002 ص152
[2] روزناو (جيمس)ديناميكية العولمة : نحو صياغة عملية ، مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية 1997 ، نقلا عن يسين (السيد) في مفهوم العولمة ضمن العرب والعولمة ط3 مركز دراسات الوحدة العربية بيروت أفريل 2000 ص26
[3] الأطرش (محمد)العرب والعولمة ما العمل ضمن العرب والعولمة … المرجع السابق ص412

[4] الأطرش …نفس المرجع ص413 - 414
[5] -أنظر: - مجلة الوحدة عدد 98 نوفمبر 1992 مقال للكاتب مسعود ظاهر بعنوان نهاية التاريخ
– فوكوياما (فرنسيس) نهاية التاريخ والإنسان الأخير مركز الإنماء القومي بيروت 
[6] هانتنقتون صدام الحضارات مركز الدراسات الإستراتيجية والبحوث والتوثيق بيروت 1995 ص 18
[7] كوثراني (وجيه) فوكوياما ،هانتنغتون والإسلام ضمن مجلة الإجتهاد عدد 49 شتاء 2001 ص 174
[8] هانتنغتون ،مرجع سابق ص 25
[9] الشطي (إسماعيل) تحديات إستراتيجية بعد أحداث 11 أيلول المستقبل العربي عدد 283 لسنة 2002 ص 32
[10] نفس المرجع ص33 نقلا عن سعيد (إدوارد)تغطية الإسلام ترجمة سميرة نعيم خوري مؤسسة الأبحاث العربية بيروت
[11] نفس المرجع ص 34
[12] فرسون (سمير) جذور الحملة الأمريكية لمناهضة الإرهاب المستقبل العربي عدد 284 لسنة 2002 ص 6
[13] الشطي ،مرجع سابق ص 36
[14] نفس المرجع والصفحة
[15] فرسون ، مرجع سابق ص 14
[16] نفس المرجع والصفحة
[17] أنظر نص الوثيقة على شبكة الأنترنات ، موقع جريدة لموند lemonde.fr بتاريخ 14 –02 -2002
[18] أنظر تعليق إدوارد سعيد على الوثيقة ، نشر على شبكة الأنترنات موقع مؤسسة الأهرام المصرية
[19] بوكنان (باتريك) حرب من ؟ شؤون عربية عدد 114 لستة 2003 ص – ص 104 – 106
[20] بلقيز (عبد الإله) المشروع الممتنع :التفتيت في الغزوة الكلونيالية للعراق ،المستقبل العربي عدد291 لسنة 2003 ص ص55- 57
[21] إبراهيم(حسين توفيق) العولمة :الأبعاد والإنعكاسات مجلة عالم الفكر المجلد الثامن والعشرون العدد الثاني أكتوبر- ديسمبر 1999 ص ص 194 – 195
[22] الوالي (عبد الجليل كاظم) جدلية العولمة بين الإختيار والرفض المستقبل العربي عدد 275 لسنة 2002 ص 71
[23] أنظر بعض مقولات الإستشراق الأمريكي ضمن منصور( خيري) مقدمة في الإستشراق الأمريكي الفكر العربي المعاصر عدد 76 – 77 ماي جوان 1990 ص 103 .
[24] أنظر كلمة الأمين العام لجامعة الدول العربية السيد عمرو موسى بعنوان مؤتمر حوار الحضارات :تواصل لا صراع مجلة شؤون عربية عدد 109 ربيع 2002 ص 247
[25] إعلان ملتقى المفكرين العرب ،نفس المرجع ص ص 249 - 250
[26] بيخو(بارخ)الغرب وآخروه ترجمة ثائر ديب مجلة الإجتهاد عدد 49 شتاء 2001 ص 38
[27] نفس المرجع ص ص 40 – 41
[28] نفس المرجع ص 42
[29] أنظر تقريري الأمم المتحدة حول التنمية البشرية العربية للعامين 2002 و2003
[30] أنظر نص مشروع الشرق الأوسط الكبير جريد الحياة بتاريخ 13 فيفري 2004 ص 10