الاثنين، 26 ديسمبر 2011

إصدارات


"أزمة الجامعة التونسية" سيكون في مكتبة الكتاب شارع بورقيبة تونس العاصمة مع مطلع شهر جانفي 2012
_______________________________________________________________________



يعتبر احمد المستيري رجل السياسة والقانون أن إعادة كتابة تاريخ تونس من جديد أمر ضروري اليوم بعد سنوات احترقت خلالها البلاد بجمر الاستعمار و وتكبدت فيها عناء البناء والتحديث مثلما شهدت رسوخ الديكتاتورية في أكثر من موقع.

ومن خلال كتابه 'شهادة للتاريخ' الذي تم تقديمه اليوم الجمعة باريانة في إطار سلسلة مسالك الإبداع التي تنظمها المندوبية الجهوية للثقافة،أمكن التعمق في فكر مناضل من الرعيل الأول ورجل دولة تقلد مسؤوليات جسام سياسية ونقابية وحزبية ليستوي التاريخ من وجهة نظره أحداثا متعاقبة انطلقت معه من المرحلة الأخيرة لمعركة التحرير /1952-1954/عندما وجد نفسه مع قلة من أصدقائه في الكفاح مهندسا للمقاومة السرية ومن ثم واثر الاستقلال رجل سياسة محنك تقلد مناصب وزارية مهمة /العدل ,الدفاع والمالية...../ في عهد الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة حيث ترك أياديه البيضاء تخط أوجه الحداثة والانفتاح للمجتمع التونسي من خلال مساهمته في إعداد مجلة الأحوال الشخصية وإدخال الإصلاحات اللازمة للدولة الجديدة في مجالات التشريع القضائي والمالية والتأسيس لرؤية تونسية صرفة في الميدان الاقتصادي بعيدا عن التبعية الفرنسية.

واعتبر الإعلامي صالح عطية الذي قدم لتأليف المستيري ان الرجل دافع في كتابه عن عدة قضايا إنسانية وجوهرية في حياة الشعوب من ذلك قضية الهوية في صراع الشعب الجزائري ضد الاستعمار والصراعات الخفية التي طبعت علاقة بورقيبة بالمناضل صالح بن يوسف ودور المؤسسة العسكرية في البناء السياسي. كما أكد ان احمد المستيري بما لديه من حنكة وقدرة على نقد الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في فترة الستينات تمكن من رصد جوانب التصدع التي رافقت علاقة الرجلين / بورقيبة وبن يوسف /بالسياسة.

وأضاف ان استقالة احمد المستيري من الحزب الحر الدستوري وتأسيسه لأول حزب معارض نهاية الستينات وهو حركة الديمقراطيين الاشتراكيين كان بوعي منه بأهمية التغيير مع بداية ممارسة بورقيبة للحكم الذاتي كما أن انسحابه من الحياة السياسية سنة 1992 يحيل إلى ما يتمتع به الرجل من رؤية واقعية ثاقبة للراهن السياسي وهو ما يجعله بمواقفه ونقده وتقديره للأمور من أهم الشخصيات المعاصرة والمرجعيات التاريخية المهمة حاليا.

_____________________________________________________

نسمة : زواج المتعة بين رأس المال الإعلامي والأيديولوجيا القديمة

نسمة : زواج المتعة بين رأس المال الإعلامي والأيديولوجيا القديمة
د.سالم لبيض
مقال منشور في جريدة الحصاد الاسبوعي العدد

لست أعلم هل انتصرت الأيديولوجيا على رأس المال هذه المرة ، فوقعت الإمبراطورية الإعلامية الناشئة في الخطيئة وسقطت في أول اختبار حقيقي، ولست اعلم هل أن زواج المتعة بين مؤسسات قروي الإعلانية ومؤسسة بن عمار السينمائية الذي أفرز تلك القناة المعروفة بنسمة التي وجدت نفسها تصنع الرأي العام بعد الثورة، يمكن أن يصمد بعد أن إهتز العرش وظهر علينا مدير القناة مضطربا مهتزا مصفرّ الوجه ولسان حاله يريد أن يقول لنا "غلطوني" ويقدم اعتذاراته على الهواء لتلك الحشود من الشباب المنتفض. ولست أعلم هل أن ملاك النصيب الأكبر من القناة التونسيين والأجانب يمكن أن يسمحوا بإنفاق أموالهم على لعبة أيديولوجية قديمة ثبت عقمها في منشئها الأصلي، وضعت القناة في مواجهة الجمهور الواسع من التونسيين وبقية المسلمين في أصقاع الدنيا تلبية لفنتازمات حداثية لا تحمل من الحداثة إلا اسمها. لكني أعلم أن الفلم الإيراني – الفرنسي الكرتوني المدبلج بالعامية التونسية في ورشة نسمة قد أعدت له سيناريوهات كثيرة كان سيطال بعضها قنوات أخرى احترز أولي الأمر فيها على بثه، وفضاءات عامة منها ما هو تربوي لتلقين النشء وتعويده على أن لا مقدس في حياتنا فالله يمكن أن يستوي كائنا عاديا نخاطبه ويخاطبنا ونمازحه ويمازحنا ونصيح في وجهه فيهرب من أمامنا وقد يصل الأمر إلى أن نصارعه مصارعة حرة فنهزمه وتنتهي الأسطورة إلى غير رجعة. إن الرسالة الموجهة من خلال تشخيص الذات الإلهية هي القول للناشئة بان الله والأديان هي مجرد أساطير قد عفّ عنها الزمن وأن لا فرق في حياتنا بين المقدس والمدنس فالكل اختلقه الإنسان وهذا هو جوهر الأيديولوجيا القديمة التي ينتصر لها الفلم.
ولكن لا مكان للصدفة في عالم المال والإعلام والسياسة اليوم، فكل شيء يدرسه خبراء محنكون يعلمون ما يفعلون، لذلك جاءت النسخة التونسية من الفلم رديئة جدا تجد الأسر المحترمة حرجا في مشاهدتها جماعيا. أو لنقل هي الدبلجة التونسية الركيكة التي اختيرت بدقة هي التي أفرغت الفلم من المضامين التي احتواها وهي مضامين أيديولوجية بامتياز، فقد احتوى ألفاظا سوقية ومكنة اصطلاحية من نوع "يا قواد" و"العاهرة" و"الكلبة" و"..." ومصطلحات أخرى كثيرة وإيحاءات جنسية وبذاءة لسانية وسقوط أخلاقي لا أظن أن النسخة الفرنسية المنقول نصها إلى الدارجة التونسية قد احتوتها كلها ناهيك عن النص الأصلي المستمد من الثقافة الإيرانية. ولكن الفلم لا يشيطن المصير الذي انتهت إليه الثورة الإيرانية فقط وإنما يضعها في موضع المساءلة التاريخية بسبب تحكم رجال الدين فيها، تحكما يقوم عن طريق جهاز عسكري قمعي ينتهك حرمات الرجال والنساء لمجرد أنهم مختلفون أو لنقل لمجرد أنهم شيوعيون، وهنا مربط الفرس فنسمة القناة الليبرالية الممولة من كبار رجال المال والإعلام في تونس وخارجها تختار لنفسها أو يتم الاختيار لها للترويج للنموذج الشيوعي على أنه الجنة الموعودة وأن الديمقراطية والحرية لا وجود لها خارج تلك النمطية المجحفة ليضعنا الفلم في ثنائية قديمة مدمرة ليس للمرء أن يختار خارجها وهي أن يكون شيوعيا وهو بذلك حداثيا وديمقراطيا -والفلم يصوره بأنه ينتج الخمر ويحتسيها في مجالس سرية-، أو أن يكون متدينا وهو بذلك رجعي معاد للحداثة، فتنبني المعادلة برمتها على تلك الثنائية المقيتة، وتتشكل أحداث الفلم منتصرة للنموذج الشيوعي الحداثي على حساب النموذج الديني التيوقراطي الرجعي ويصبح الشيوعي هو المناضل الوحيد ضد الدكتاتورية في دولة مثل إيران متعددة المذاهب والإثنيات والقوميات والأيديولوجيات ومنها من كان له نصيب كبير في النضال ضد نظام آيات الله وتقديم التضحيات الكبرى مثل العرب الأحوازيين والأكراد الذين لا يشار لهم بكلمة واحدة، ويتم الترويج لذلك الاتجاه بمعزل كامل عمّا انتهت إليه بعض الأنظمة الشيوعية من فشل ذريع في قضيتا الحرية والديمقراطة ولسنا في حاجة إلى تقديم الأمثلة على ذلك وآسترجاع "الأيام الستالينية المجيدة !!!"، فقد بات الأمر معلوما اليوم للعارفين بالتاريخ ولغير العارفين به.
لكن الفلم احتوى رسائل أخرى كثيرة لا تخلو من مفارقة، من ذلك الحنين إلى نظام الشاه الذي أسقطته الثورة الإيرانية بوصفه نظاما حداثيا وهنا نجد أنفسنا أمام معادلة شبيهة بالثورة التونسية حيث يحن الكثير من "مثقفينا الحداثيين" إلى نظامي بورقيبة وبن علي على أنهما كرّسا الحداثة خاصة وأن القاسم المشترك بين نظام الشاه والنظام التونسي بحقبتيه متوفر في مستويات كثيرة منها العمالة للقوى الخارجة والاستبداد السياسي والفساد بأصنافه. ومن هذه الرسائل أيضا الترويج للنموذج الفرنسي عن طريق الدراسة في المدرسة الفرنسية واستهداف السامية بسبب سقوط صاروخ على بيت يهودي في طهران وكأنه المستهدف، وهي رسائل كسب ود تجاه الغرب الذي صورّه الفلم جنان الله الموعودة مصدر القيم الكبرى التي يحلم بها رفاقنا المضطهدون في إيران.
الفلم يدوم ساعة ونصف ويحتوي قضايا كثيرة تستحق النقاش والمجادلة، ولكن من حسن حظ نسمة أن الجمهور الواسع لم يشاهده وإنما سمع عليه فقط وإلا لا كان رد فعلهم أكبر بكثير. فقد جمع الفلم أعداء لنسمة من شرائح اجتماعية قلّ ما تلتقي، جمّع ضدها المحامون والطلبة والأساتذة والتجار وكل ذلك قد يكون عاديا ولكن غير العادي الذي فاجأ الجميع هو انحياز الجمهور الواسع من الكوارجية وتهديدهم نسمة بالمنع والاعتداء إن هي قامت بتغطية مباريات كرة القدم، حتى أن بعض رؤساء النوادي من الرأسماليين التقليديين قد انحازوا ضدها. انحاز ضد نسمة جمهور واسع من الشباب غير الملتحين ومن النساء غير المحجبات على الرغم من الترويج إلى أنها معركة ضد السلفية. وخلاصة كل ذلك هو أن نسمة اختارت أوهم أيديولوجيوها هم الذين اختاروا لها معركتها لتكون ضد السلفية وما شابهها، لكن الرمية أصابت مجتمعا بكامله أصابته في معتقداته والمعتقدات كما هو معلوم في تاريخ البشرية جمعاء مقدسة ولا تمس وقد نشبت لأجلها حروب كثيرة ومات في سبيلها أناس كثر حتى تلازمت التضحية والشهادة بالدين والمعتقد. فأي مصاب جلل أصيبت به القناة بسبب ما اقترفت أيادي أيدلوجيوها ومهندسو برامجها لاسيما الحوارية والنقاشية منها. لقد قرأنا في كتب الأيديولوجيا العتيقة أن رأس المال لا وطن له ولا صديق فكيف يتحول زواج المتعة بين رأس المال الإعلامي والأيديلوجيا القديمة إلى زواج دائم؟ والإجابة نجدها في الايدولوجيا القديمة نفسها وهي أن خيانة طبقية وقعت في مكان ما أدت إلى مثل هذا الزواج لم تكتشف بعد!!!


فمن سيُعيد إلى سيدي بوزيد رمزيتها.. د. سالم لبيض

فمن سيُعيد إلى سيدي بوزيد رمزيتها؟

د. سالم لبيض


لا أحد يستطيع أن يزايد على المحكمة الإدارية، ولا أحد يستطيع اتهام قضاتها بقلة النزاهة أو بانعدامها، ولا أحد يمكنه وصمهم بالمحاباة والمحسوبية، ولا أحد بوسعه أن يعتبرهم من أنصار العريضة الشعبية وصاحبها الحامدي وحزبه حزب المحافظين التقدميين، أيديولوجيا أو سياسيا. فالمتداول لدى الطبقة السياسية والحقوقية في تونس هو نزاهة تلك المحكمة وإنصافها لكل من تقدم لها عارضا أمره عليها في زمن ما قبل الثورة. كثر هم الذين استرجعوا حقوقهم المهنية المادية والمعنوية من قبل المحكمة الإدارية ومنهم من كان مصنفا ضمن أعداء بن علي ونظام حكمه وحزبه الدستوري المستبد بالسلطة. ولهذه الأسباب مجتمعة كان من طبائع الأمور أن تُنصف قائمات العريضة التي أسقطتها الهيئة المستقلة للانتخابات ويستعيد أصحابها مكانهم الذي اختاره لهم الناخبون ضمن أعضاء المجلس التأسيسي. وقد يختلف المرء مع العريضة وصاحبها وحزبه ويصفه بما يشاء من النعوت في حدود ايطيقا الأعراف السياسية المتفق عليها أو حتى خارجها، لكن القبول بنتائج العملية الانتخابية بما في ذلك الأحكام القضائية للمحكمة الإدارية لا يُعد البتة من باب مساندة هذا الحزب أو ذاك وإنما هو مطمح قديم ونصر كبير في معركة الديمقراطية التي لم تنته بعد، من أجل إقامة النظام الديمقراطي التداولي السلمي كآلية في التسيير السياسي وفي التطور الاجتماعي. إن صعود هذا الحزب أو ذاك المرشح الذي قد نختلف معه أو نتناقض هو جزء لا يتجزأ من آليات العمل الديمقراطي وضروراته.
ووفق تلك الرؤية قامت المحكمة الإدارية بإصلاح ما أفسدته الهيئة المستقلة للانتخابات حيث أخطأت بصفة عفوية أو بسابق الإضمار والترصد في اللحظة التي من المفترض أن تنهي تلك الهيئة عملها الذي أنجزته بحِرفية عالية. فالقرار المتخذ بإسقاط قائمات العريضة لاسيما في سيدي بوزيد موطن الحامدي التقليدي وموطن عشيرته التي تحميه وموطن عصبيته التي تنصره وتأويه، لم يقبله الكثير من أنصاره كسلوك عفوي ناتج عن تطبيق القانون، ناهيك أنه يوجد مستفيدون مباشرون من الأحزاب السياسية التي احتلت المقاعد الشاغرة مباشرة، وحجتهم في ذلك هو أن ما ينسحب على القائمات المسقطة ينسحب أيضا على بقية قائمات العريضة وعلى كثير من الأحزاب السياسية الأخرى من الكتل والمجموعات المتصدرة للمشهد الانتخابي.
لا نريد القول بأن قرار الهيئة المستقلة للانتخابات الذي تضمن كثيرا من العشوائية في تطبيق المرسوم الانتخابي، كان وراء ما حدث في سيدي بوزيد من حرق ودمار للمنشآت العمومية بما في ذلك ذات الدور السيادي مثل المحكمة والبلدية والمؤسسات الأمنية وغيرها، ولكن لابد من الإقرار بأن بعض الهيئات القيادية سواء في هذه المرحلة الانتقالية الحساسة أو في غيرها من المراحل لا تمتلك هامشا للخطإ في قراراتها وسلوكياتها ومواقفها وهذا الأمر ينطبق أيضا على تصريحات قادة الأحزاب السياسية التي قد تلعب دور المذكي لتلك النيران المشتعلة.
لا بد من الإقرار أيضا بأن سيدي بوزيد لم تخسر منشآتها الاقتصادية والإدارية التي تضمّن بعضها أرشيفات ووثائق نادرة تمثل ذاكرة المجتمع المحلي والسجل المدني ومحاضر المجلس البلدي للمنطقة برمتها، وإنما خسرت رمزيتها التي وهبتها لها تضحيات أبنائها، خسرت رمزيتها التي أعطتها إياها انتفاضة 17 ديسمبر التي انتهت ثورة 14 جانفي.
إن سيدي بوزيد ليست إسما لمدينة عادية تشبه بقية المدن، سيدي بوزيد هي مدينة استثنائية في قاموس التسميات الذي يجب إعادة صياغته على وقع الثورة العربية والعالمية المستمرة في عالم اليوم التي حلُم بها يوما المناضل اليساري تروتسكي وكرّس حياته منظّرا لها، وتمنّى منظرو الثورة العربية أن يعيشوها ولكن الزمن لم يسعفهم. إن سيدي بوزيد هي رمز تلك الثورة الدائمة، فلا أحد ينكر اليوم دور سيدي بوزيد في إسقاط النظام الذي لا يكاد يوصف في حجم الاستبداد والفساد والعتو في تونس، ولا أحد يجب عليه أن يتنكر لدور سيدي بوزيد وثورتها في إسقاط نظام مبارك شديد الفساد والنسخة الأخرى لنظام بن علي، ولا أحد عليه أن يتنكر للحالة الثورية العربية المستشرية تسفيها لمقولة الاستثناء والخنوع الأبدي العربي، وإلى العالم الذي انتفض تحت أقدام الرأسمالية المتوحشة بسبب انتفاضة سيدي بوزيد.
إن رمزية سيدي بوزيد أكبر من توصّف في مقال معدود الكلمات مثل هذا. ولكن التذكير بها في كل مرة هو من مروءة الأخلاق ومن باب الاعتراف بحقائق التاريخ.
لقد كان على نخبتنا أن تتجاوز هذه المرحلة أي مرحلة الاعتراف إلى ما هو أسمى وأعزّ أي إلى تحويل المدينة التاريخية ذات الأفضال الكبيرة إلى رمز لكافة المدن والقرى، كان من الواجب وضع اسمها في السجلات والموسوعات العالمية، كان يجب أن تخلّد ذكراها من قبل الألسكو والإيسسكو واليونسكو المنظمات الثقافية الدولية المعروفة، كان يجب أن يطلق هذا الاسم على الشوارع وعلى الأزقة وعلى الأنهج وعلى الساحات في كافة مدن العالم وفي صدارتها مدننا وقرانا، فسيدي بوزيد الآن لا تقل أهمية عن قرطاج والقيروان وغرناطة وفاس ...، وجب على نخبنا السياسية القادمة إلى هرم الحكم بفضل سيدي بوزيد ورمزها المرحوم الشهيد محمد البوعزيزي الذي لولاه لما أتاها الحُكم صاغرا مطيعا، أن تقيم التماثيل لذلك البطل في ساحات المدن وتضع صوره في كافة المؤسسات التربوية والجامعية والثقافية والشبابية، وتجعل من ذكراه يوم عطلة رسمية، ليس للتبرك به كما قد يعتقد بعض الغلاة، وإنما لتثبيت رمزيته التي لا تأبى الانفصال عن رمزية ثورتنا ورمزية هذا الربيع العربي ورمزية التمرد على هذه المنظومة الاقتصادية والسياسية والعسكرية المتوحشة التي تحكم عالم اليوم، .. فمن سيعيد لسيدي بوزيد رمزيتها؟ أو لنقل من أضاع لسيدي بوزيد رمزيتها؟


أرشيفات البوليس السياسي ملكية وطنية لا يجوز التصرف فيها.. د.سالم لبيض


رسالة إلى السيد وزير الداخلية المكلف بالإصلاح:
أرشيفات البوليس السياسي ملكية وطنية لا يجوز التصرف فيها
د.سالم لبيض

منذ زمن ليس بالبعيد طلع علينا السيد وزير الداخلية المكلف بالإصلاح في مشهد احتفالي وهو يستقبل مجموعة من الأطفال الأبرياء تحت أضواء الكاميرات وهم يرسمون ما يدور بخلدهم على جدران بيضاء، اكتشفنا بعد حين أنها جدران دهاليز وزارة الداخلية أو هو مجمّع الزنازين الموجودة أسفل تلك الوزارة. لقد كانت الوسائل المستخدمة ناعمة، فنية، جمالية، إنه الرسم في أرقى تجلياته. وفي زمن آخر صرّح الوزير نفسه إلى إحدى الصحف بأن أرشيف البوليس السياسي ستُعيّن له لجنة متعددة الاختصاصات من عسكريين وأمنيين وقضاة ومؤرخين لمعالجته بعد أن تُزال منه كافة المعطيات الشخصية المتعلقة بالذوات.
ولست أدري إن كان السيد الوزير قد أذن بطمس معالم الزنازين بحسابية السياسي ! أم بخشية رجل القانون ! أم بحذر رجل الأمن ! ولست أعلم هل أن السيد الوزير كان يستحضر حسّا متميزا لحماية ذاكرة شعب وحافظة هوية، كثيرا ما تعرضت للطمث في مراحل تاريخية ومفصلية من تاريخ تونس لفائدة مصالح ضيقة وحسابات شخصية، أم قادته رؤية أمنية محدودة لم تر في ذلك الرأسمال الرمزي من الرسوم على حيطان زنزانات الوزارة سوى أشكالا لا معنى لها ولا دلالة هذا في أفضل الحالات، أو هي عناصر إدانة، وفي ذلك الكم الهائل من الوثائق والتقارير الأمنية السياسية سوى معطيات قد تدين هذا الشخص أو تدعم ذاك.
السيد الوزير، اسمح لي بالتذكير بحقيقة بسيطة من المفترض أنها مشاعة بين كافة العارفين بعلوم الإنسان من التونسيين ومن غيرهم وهي أن للأرشيف علما قائما بذاته يدرّس للطلبة في معهد مختص ينفق عليه التونسيون من دافعي الضرائب، ويمنح شهادات علمية من الإجازة إلى الماجستير إلى الدكتوراه ويلتحق منهم العشرات بسوق الشغل سنويا. وللأرشيف كذلك مركزا وطنيا تعود نواته الأولى إلى زمن تولي خير الدين الوزارة الكبرى سنة 1874 تحت اسم خزينة مكاتيب الدولة ويسمى حاليا الأرشيف الوطني التونسي، يضم ملايين الوثائق الإدارية بما في ذلك الأمنية للفترتين الحسينية والاستعمارية والنزر القليل من الفترة البورقيبية. والأرشيفات في تونس بما في ذلك المؤسسة التي تنظم الأرشيف الوطني وتصونه وتحميه وتضعه على ذمة كافة المهتمين لاسيما الباحثين منهم، منظّمة بواسطة قانون يعتبر من أهم قوانين الأرشيفات ودور الوثائق والمخطوطات في العالم، كان أشرف على وضعه رجل من أفضل الخبراء في هذا المجال، بعد أن كان استفاد من الدول التي تعلمت كيف تحمي ذاكرتها بوصفها مصلحة وطنية عليا تحتل المرتبة السابقة على مصالح الأفراد.
السيد الوزير، إن الإجراء الذي اتخذتموه في شأن زنازين وزارة الداخلية يعد طمسا لتاريخ كافة المساجين السياسيين المنتمين إلى تيارات أيديولوجية وسياسية مختلفة تركوا بصماتهم على حيطان تلك الأقبية، بداية بالقوميين العرب من اليوسفيين في الخمسينيات والستينيات والبعثيين وحزب الشعب الثوري ثم سجناء الجبهة القومية التقدمية في بداية السبعينيات مرورا بجماعة قفصة من نفس الجبهة ومن الحركة الثورية لتحرير تونس وصولا إلى الثمانينيات وتحديدا القوميين اليساريين المعروفين بحركة التحرير الشعبية العربية التي كان يشرف عليها الكاتب الفلسطيني ناجي علوش، ثم اليساريين الماركسيين من حركة آفاق في الستينيات وإفرازاتها من عامل تونسي وشعلة ثم حزب العمال الشيوعي، وبعد ذلك جاء الدور على الإسلاميين في وسط الثمانينيات وطيلة عشرية التسعينيات والجماعات الإسلامية الأخرى من حزب تحرير وسلفيين وجهاديين وغيرهم، وحتى من حركات ليبرالية نشأت من صلب الحزب الدستوري نفسه. وبالتوازي مع ذلك كانت تزور دهاليز الوزارة مجموعات طلابية من مختلف الاتجاهات السياسية، من الطلبة العرب التقدميين الوحدويين والطلبة القوميين والطليعة الطلابية العربية ومن الوطنيين الديمقراطيين بفصائلهم ومن النقابيين الثوريين واتحاد الشباب الشيوعي والمناضلين الوطنيين الديمقراطيين والتروتسكيين، ومن مجموعات يسارية أخرى، ومن طلبة الاتجاه الإسلامي ثم حركة النهضة، ومن ناشطي التنظيمات النقابية الطلابية (اتحاد طلبة تونس والاتحاد التونسي للطلبة). وحظي الكثير من النقابيين (اتحاد الشغل ونقاباته) والحقوقيين(الرابطة التونسية لحقوق الإنسان) والإعلاميين والسياسيين المستقلين باستقبال مميز في تلك الزنازين. وإن الطمس الذي طال الأقوال والأشعار والتناهيد والبكاء والآلام والتعذيب والقهر وكافة أنواع الاعتداء الجسدي بما في ذلك اغتصاب الرجال والنساء، والقتل، الذي كان مرسوما بأشكال تعبيرية مختلفة، لم ينل من ذاكرة السجناء المنتمين إلى مختلف أطياف المجتمع السياسي والنقابي والطلابي فقط وإنما نال من الذاكرة السياسية لمجتمع بأكمله، فأولئك المساجين كانوا ولا يزالون يمثلون نخبة تونس السياسية على اختلافها وتنوعها وتناقضها.
السيد الوزير، إن أصحاب الشعارات والأقوال والأشعار الذين أعدمتم ذاكرتهم من على حيطان الزنازين وحرمتموهم من حقهم في أن يكونوا محتوى للدراسات والبحوث ومادة للأفلام الوثائقية، هم أنفسهم الذين تضجّ بهم ملفات وتقارير البوليس السياسي أحياء وأمواتا، لا فرق بين حياتهم الخاصة وحياتهم السياسية أو الثقافية أو العسكرية أو النقابية أو الطلابية أو النضالية، فهي تشكل كلا متكاملا لا يحق لأي كان طمسه بالكامل أو إتلاف جزء منه أو مسخه بأي وسيلة أو أي خلفية كانت. فإذا كان هناك حقوق وجب إرجاعها إلى أصحابها فإن المعطيات الخاصة ستدعم تلك الحقوق وإذا كان هناك علم سيُكتب بالاستناد إلى تلك الوثائق سيستفيد حتما من كل ما تحتويه الملفات من معلومات مهما بدا صغرها وعدم أهميتها. وللتذكير فقط يوجد نوع من البحوث السوسيو- تاريخية والانثروبولوجية يسمى الدراسات السيريةBiographique كثيرا ما تُعتمد فيها المعطيات الشخصية في تفسير الوقائع السياسية أو غير السياسية الكبرى والأدوار المتعلقة بالأفراد.
السيد الوزير، إن أرشيفات البوليس السياسي مثل غيرها من الأرشيفات بما فيها الأفلام المصورة وجب أن تخضع في تنظيمها لقانون الأرشيف فتوضع أولا في مكانها الطبيعي أي الأرشيف الوطني التونسي. ووفق ذلك القانون توجد آجال محددة في الإطلاع على الوثائق والمعطيات وتوظيفها للأغراض العلمية أو حتى الشخصية التي ليست الإدانة بالضرورة وإنما التثمين أيضا، منها ما يتم فتحه بعد 30 سنة وآخر بعد 50 سنة وثالثا بعد 100 سنة، وأن استعمال المعطيات الشخصية في الثلب والتشهير والتحقير والاعتداء الرمزي يخضع لأحكام قانونية تبت فيها المحاكم. ولذلك لا مناص من ترك هذه المسألة الهامة لأهل الذكر من المختصين وعلماء الإنسانيات بفروعها المتصلة بعلم الأرشيف وليس للمؤرخين فقط.
السيد الوزير، إن الأرشيفات لاسيما السياسية منها تمثل ثروة هامة في حياة الشعوب والأفراد وقد رأينا كيف أبدت الولايات المتحدة الأمريكية استعدادها لدفع ملايين الدولارات للحصول على نسخة الكترونية من أرشيف الحزب الشيوعي السوفياتي بعد سقوطه سنة 1991. ونعلم كذلك حجم الصعوبات التي تعترض المؤرخين والسوسيولوجين في جامعاتنا والأموال التي تنفق للإطلاع على الوثائق الإدارية والعسكرية التونسية التي ظلت محتكرة من قبل الإدارة الفرنسية في أرشيفات جيش البر بنانت وقصر فانسان وأرشيفات ما وراء البحار في مدينة أكس، وندرك المداخيل التي تدرها أرشيفات الدولة العثمانية التي كانت تونس من بين رعاياها على الحكومات التركية سواء بطريقة مباشرة عن طريق دفع معاليم محددة مقابل الإطلاع على الوثائق أو تصويرها ورقيا وإلكترونيا أو بطريقة غير مباشرة عند التنقل والإقامة والاستهلاك والتسوق، ويمكن أن نقدر الأهمية السياسية الآنية لبعض الوثائق الأرشيفية التي اعتقدنا أن دورها قد انتهى مثل تلك المتعلقة باغتيال الزعيمين الشهيدين فرحات حشاد وصالح بن يوسف إذ تمثل حججا لإدانة الحكومتين الاستعمارية والبورقيبية، ومادة على درجة قصوى من الأهمية في مجال الاستثمار الإعلامي والسينمائي والوثائقي، وبالإضافة إلى كل ذلك ندرك الميزانيات الضخمة التي تخصصها بعض الحكومات الغربية في صيانة وترميم الوثائق والمخطوطات لكي لا يصيبها التلف الطبيعي وفي تكوين المختصين للقيام بمهام الصيانة ، فكيف لنا أن نفكر مجرد التفكير في التخلص من جزء من أرشيفنا الوطني مهما كان حجم خطورة مضامينه؟
السيد الوزير، لقد عاشت النخب النقابية والمشتغلون بالوثائق تجربة مريرة في التعامل مع الأرشيف النقابي إبان أحداث الإضراب العام المعروف بالخميس الأسود سنة 1978 أو أثناء الاعتداء على مقرات الاتحاد العام التونسي للشغل سنة 1984 واحتلالها من قبل الميليشيات الدستورية. ففي تلك الأحداث تم إتلاف الوثائق النقابية فدُمرت ذاكرة الإتحاد وعثر على بعض وثائقه مستعملة في محلات العطرية و"الحماصة" بعد أن توزعت وتفتت وذهب ريحها، ونأمل أن يكون بعضها الآخر محفوظا بأرشيفات البوليس السياسي. ولكن الأهم هو الدرس المستفاد من وراء تلك التجربة وهو العمل قدر الإمكان على صيانة الأرشيف وحفظه، فالقاعدة العلمية في هذا المجال تقوم على أن لا وثيقة ميتة طالما هي موجودة ولم تتلف وإنما توجد وثيقة قيد الاستعمال والمقصود هنا الوثيقة الإدارية الحية وأخرى تنتظر الاستعمال لتنبعث فيها الحياة من جديد والمقصود هنا الوثيقة الأرشيفية مهما طالت مدة حفظها. ونأمل أن يعي المشرفون على الأرشيف السياسي وكافة الأرشيفات الإدارية لاسيما الأمنية منها والعسكرية أن الحفاظ على مخزوننا الوطني من الوثائق كما هي ودون تغيير أو تزييف أو طمس وتدمير هو مسؤولية تاريخية لاسيما في ظل هذه الثورة التي نأمل أن تكون قد أعادت تونس لأبنائها بعد أن كانت حديقة خلفية لغيرهم طيلة القرون الماضية.


الجامعة والثورة والسلفية.. د.سالم لبيض

الجامعة والثورة والسلفية
د.سالم لبيض
ما من شك في أن أحد أكبر المكاسب التي عرفتها تونس خلال السنوات الخمسين المنقضية هي الجامعة التونسية، وما من شك كذلك في أن تلك الجامعة قد أُنشأت من عرق الفقراء ودافعي الضرائب من مختلف الطبقات والشرائح الاجتماعية وبالتالي فإن وجودها ليس مزية من النظام السياسي أو من هذا الشخص أو ذاك ممن تولى أمر البلاد كما يحلو للبعض ترويجه. ولكن من حقائق الأمور اليوم هو أن الجامعة التونسية التي تنامى عدد طلابها في السنوات الأخيرة إلى أكثر من 350 ألف طالب تحتضنهم ما يناهز 200 مؤسسة جامعية لم تبرز منها إلا تلك المعطيات الكمية التي كثيرا ما افتخر بها نظام بن علي وتباهى، مع أن جامعاتنا المحدثة لم تكن لتجد لها مكانا في خارطة التصنيفات العالمية أو هي مصنفة خارج الترتيب، وهذه حقيقة كان يعرفها كافة المهتمين بالشأن العام في تونس وخارجها (انظر تصنيف جامعة شنغهاي 2010 حيث تحتل أفضل الجامعات التونسية وهي جامعة سوسة الرتبة 6719 عالميا). وبعيدا عن سياسة التزييف التي مارسها النظام السابق والذي لم ينج منها حتى تاريخ تأسيس الجامعة حيث جاء في مؤلف خمسينية الجامعة التونسية الذي أصدرته وزارة التعليم العالي أيام الوزير البوعوني أن بعث الجامعة كان سنة 1958 وهو ما خوّل له زورا الاحتفال بخمسينيتها سنة 2008 ولم يكن له من هدف من وراء ذالك الإجراء سوى ترسيخ ذكراه إلى جانب ذكرى المؤسسة الجامعية والتقرب بذلك من ولي نعمته بن علي الذي ناله شرف كتابة رسالة خاصة نشرت بخط يده في أولى صفحات الكتاب وهو الرجل الأمي قراءة وكتابة، في حين أن التاريخ الحقيقي لتأسيس الجامعة التونسية إما أن يكون سنة 1956 مع بعث دار المعلمين العليا أو سنة 1960 مع صدور قانون إحداث الجامعة. وبعيدا عن تلك السياسة الدعائية التي كانت توظف كل شيء لصالح السياسي، لا بد من الاعتراف بأن جامعاتنا كانت تعيش خلال العقود المنقضية أزمة مزمنة شبيهة بأزمة الجامعة الفرنسية بوصفها مستنسخة منها (انظر العدد الهام من مجلة موس
- Revue du Mauss ; L’université en Crise Mort ou Résurrection n 33
Premier semestre 2009 ; 384 p )
إن مظاهر أزمة الجامعة التونسية كثيرة جدا، منها ما هو متعلق بجمهرة Massification الجامعة بسبب الصبغة السياسية لامتحان الباكالوريا بعد أن حاد عن وظيفته العلمية، ومنها ما هو متعلق بالبنية الأساسية الضعيفة أو المنعدمة خاصة في المؤسسات الناشئة حيث تُفتقد المكتبات والتجهيزات، ومنها ما هو متعلق بظروف الطالب المتردية جدا في مستويات السكن والمعيشة والمنحة(50 دينار شهريا)، ومنها وما هو متعلق بنظام التكوين لاسيما النظام المعروف بأمد المستنسخ من التجارب الأروبية ودولها المانحة، والمدعوم بقروض البنك الدولي، الذي أعطى نتائج كارثية فيما يتعلق بنوعية الخريجين وأفقد الحياة الجامعية صبغتها الأكاديمية وحوّل الجامعة إلى مؤسسة للمهننة وتعلُم بعض الحرف والصنائع على غرار مدارس التكوين المهني ولكن بأكثر سوء. ومن مظاهر الأزمة المستعصية والمعقدة نوعية الجامعي ففي السنوات الأخيرة ولسد الفراغ الذي سبّبه العدد الكبير من الطلبة وقع الاستنجاد بالموظف السامي للتدريس ووصلنا إلى مرحلة تدريس الطالب للطالب، هذا ناهيك عن أنظمة الترقية الجائرة والأجور الجامعية المصنفة في أسفل السلم العالمي حيث يتقاضى أستاذ التعليم العالي في حدود 1000 أورو وهو ما يتقاضاه الطالب في شكل منحة، ويتقاضاه صاحب الأجر الأدنى في أروبا، ولا يتجاوز أجر مساعد التعليم العالي وهي أدنى رتبة في السلم الجامعي، سوى 600 أورو(اعتمدنا الأورو وليس الدينار في القياس لأن المتطلبات الجامعية لا تصنف محليا وإنما عالميا)، وهذه الأجور الضعيفة مقارنة بالجامعيين على مستوى عالمي ومقارنة بكوادر الدولة وما يتمتعون به من امتيازات، تعكس المقدرة الشرائية المتدنية للجامعي وتدفعه إلى القيام بأعمال أخرى موازية لسداد نفقات حياته المرتفعة من كونه ينتمي نظريا إلى الطبقات المترفهة، ويدفعه كذلك إلى الارتماء في أحضان حزب التجمع الحاكم الذي اشترى منه كرامته وحريته واستقلالية موقفه مقابل المنصب والمرتبة الإدارية التي تحصل عليها هذا الأستاذ أو ذاك(2772 استاذ تجمعي سنة 2002 انظر كتاب زهير مظفر من الحزب الواحد إلى حزب الأغلبية).
لم تكن أزمة الجامعة سوى جزء لا يتجزأ من أزمة مجتمع بكاملة عمل نظام بن على تعطيل ديناميته الاجتماعية والسياسية ومن ثمة الهيمنة عليه بواسطة مؤسسات الدولة التي اخترقها الفساد والاستبداد فتحولت جهازا معاديا للمجتمع الذي تنظمه. وقد جاءت ثورة 14 جانفي تتويجا لحركة احتجاجية بدأت بمضامين اجتماعية في 17 ديسمبر سرعان ما أخذت أبعادا سياسية تطالب بتغيير النظام. لكن المفارقة تكمن في أن الثورة لم تقدها الشرائح الجامعية والنخب التي تمتهن الفكر وهي الأكثر وعيا من بين مختلف الشرائح وإنما فجّرتها وقادها وانتصرت فيها شرائح أخرى أقرب من عامة الناس رغم أنها أقل وعيا مقارنة بالجامعيين. المفارقة أيضا في أن الجامعيون لم يعيشوا الثورة الملتهبة في سيدي بوزيد والقصرين منذ 17 ديسمبر 2010 إلا في 12 جانفي 2011 وذلك من خلال التجمع الذي لم يتجاوز بضع مئات من الأشخاص في كلية الحقوق بتونس قبل أن يتجهوا في ذلك اليوم إلى مقر جامعة تونس المنار الذي لا يبعد سوى مئات الأمتار، بل هناك من يتحدث آنذاك عن حياده تجاه ما يجري في البلاد يوم سقوط العدد الأكبر من الشهداء في القصرين وتالة ويوم أن سقط زميلنا حاتم بن طاهر شهيدا في موطنه مدينة دوز فنالت معه شرف الشهادة ولم تنلها معه الجامعة لأنها لم تكن مسرحا للإحداث الاحتجاجية كما كانت زمن أوجها. وبعد يومين فقط من ذلك التاريخ سقط بن علي ولكن الرسالة التي وُجهت للجامعيين أن مجيئكم قد جاء متأخرا جدا أو هو منعدم إذا ما استثنينا المشاركات الفردية لبعض الجامعيين المنخرطين في بعض أحزاب المعارضة وعددهم كان قليلا جدا أو البعض الآخر من المهتمين بالشأن العام. ولعل تلك المشاركات المحتشمة جدا في مستوى مقالات الرأي الداعمة للانتفاضة الشعبية التي عمت مختلف مناطق البلاد وهذا من وظيفة الجامعي الأساسية، وفي مستوى التظاهر والاحتجاج في الشوارع، أو هو الغياب شبه الكلي للجامعة هو الذي أقصاها من النقاش السياسي الذي تعيشه البلاد منذ 17 ديسمر 2010 إلى اليوم وحرم الكثير من الجامعيين من الوصول إلى المجلس التأسيسي بعد أن اعتقدوا أن ذلك الأمر يسيرا بالنسبة إليهم، بينما نال شرف الانتماء إلى المجلس أشخاص من شرائح اجتماعية ابعد ما تكون عن النخبة الجامعية ولكنها أقرب إلى عامة الناس وهمومهم. ومن غير المبالغة القول أن الجامعة التونسية حُيدت أو حيدت نفسها عما يجري في البلاد بسبب هذا التمشي الفوقي الذي انتهجته أو انتهجه جامعيوها، وكنا ننتظر طيلة الفترة المنقضية لاسيما بعد الثورة أن يثير الجامعيون ونقاباتهم ومختلف الأطر المنظمة للحياة الجامعية القضايا الحقيقية للجامعة وخاصة التفقير المنظم الذي مارسه بن علي على الجامعيين والتهميش الممنهج الذي أقصى الجامعة من لعب أي دور في الحياة العامة وأن تتحول إلى منبر للنقاش السياسي والفكري والأكاديمي لكل ما يدور فيها ومن حولها إضافة إلى دورها في التدريس والبحث كما هو حال أغلب جامعات الدنيا، ولكن الذي حدث غير ذلك بالمرة، فقد تحولت الجامعة إلى مؤسسة بفلوفية لا تتقن إلا رد الفعل تجاه مثير خارجي يسمى السلفية، حدث ذلك في سوسة وفي قابس وفي الزيتونة وفي القيروان ومنوبة اولا وفي منوبة أخيرا ولا نعتقد أن هذا المسلسل سينتهي قريبا فكلما حضرت السلفية تحركت في مواجهتها الجامعة وكلما غابت السلفية عن المشهد أعفى الجامعيون أنفسهم من عناء التحرك. لقد انخرط الكثير من الجامعيين في الاحتجاج تجاه الخطر الداهم المسمى بالسلفية وظاهرة النقاب وخطورتها على الحريات الشخصية، وتعالت الأصوات المنادية بتحييد الجامعة وعدم تسييسها وانتضمت الإضرابات والاعتصام وتوجه الجمع إلى المجلس التأسيسي، وما من شك في أن كل ذلك مشروعا في مناخ الحريات الذي وفرته الثورة لمن شارك فيها ولمن لم يشارك، وأن النقاش والاحتجاج والاعتصام والتظاهر الذي لا يصل درجة ممارسة العنف على الغير بأي مسوغ كان هو أمرا طبيعيا بل وضروريا في مشهد متعدد متنوع وهو من مقتضيات لعبة الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة، وأن القبول بكل مكونات المشهد السياسي والفكري والأيديولوجي في الجامعة هو من طبيعتها بوصفها مؤسسة تنتج الأفكار والمعرفة ولعلها تحتكر ذلك وهو في رأيي أمرا ضروريا وحيويا . وإن هذا المناخ المفتوح داخل الجامعة من النقاش والحوار وتبادل الأفكار وتصحيح المفاهيم سواء كان في الأطر الشكلية أو على هامشها هو وحده الذي سيصلح السياسات الجامعية الفاسدة التي اقترفتها أيادي القائمين على الجامعة زمن بن علي والتي أدت من ضمن ما أدت إليه بروز الظواهر المتطرفة الدينية وغير الدينية التي انتصرت على ما يبدو على ما أنتجته المؤسسة التعليمية الجامعية وغير الجامعية التي روجت يوما للعقلانية والحداثة والتسامح. ولنا من تاريخ الحركة الطلابية دروس، فقد كانت تلك الحركة تشكل مجتمعا فكريا وايديولوجيا موازيا للمجتمع العلمي منذ الستينيات وحتى بداية التسعينيات، ولقد تربى أغلب كوادر الأحزاب والتنظيمات السياسية والنقابية والحقوقية المشتغلة اليوم في تلك المدرسة. إن النقاش السياسي والفكري الحر والمفتوح في الجامعة هو الوحيد القادر على الإقناع على سبيل المثال بأن لون الإسلام لم يكن يوما السواد القاتم وإنما هي الألوان المتعددة للشعوب وألسنتها وبالتالي ثقافاتها المختلفة وأن أشكال اللباس هي جزء من عادات الشعوب وتقاليدها وثقافاتها التي تنتجها ألسنتها متفاعلة مع محيطها الاجتماعي والثقافي والبيئي، وأن الإسلام لا يميل إلى العنف والدليل أن أكبر الشعوب الإسلامية في أندونيسيا ونيجيريا وغيرها لم يدخلها فارس مقاتل واحد وإنما دخلها تجار ينشرون الكلمة التي كانت أكثر وقعا من السيف والمدفع، وأن العلم فريضة تطلب ولو كانت في الصين وسكان الصين زمن الرسول لم يكونوا من المسلمين أو المؤمنين ومع ذلك فإن طلب علمهم واجب متأكد مع أنه علم وضعي وليس علما دينيا ...إلخ ، وخلاصة القول هو أن الجامعة مطالبة بالخوض في قضايا حقيقية تهمها وتهم المجتمع ومطالبة بأن تكون مفتوحة للجميع بدون إقصاء وبعيدا عن ممارسة أي شكل من أشكال العنف وأن تحييدها عن التوظيف السياسي لهذا الطرف أو ذاك من الطلبة أو الأساتذة أمر بات متأكدا.



الأدب السياسي الساخر: حدث ثقافي مدهش في حضارتنا..


الأدب السياسي الساخر: حدث ثقافي مدهش في حضارتنا.. يؤشر ازدهاره إلى انتعاش مناخ الحرية
د. كفاح درويش
2011-12-23


الأدب الساخر أدب عالمي لا يخلو منه تراث أمة حية؛ فهو يسجل أحداث العصر تسجيلا أمينا وهو النافذة التي تطل منه الشعوب على أنماط الحياة ويرصد من خلالها الواقع الإنساني بأدق تفاصيله... وهكذا فإن أدب السخرية لا يقل في أهميته عن الألوان من الكتابات الأدبية الجادة، فهو يغني في بعض الأحيان عن مقالة كاملة أو قصيدة كاملة، فالأدب الساخر أرقى ألوان الفكاهة، خاصة المصبوغ منه بالصبغة السياسية؛ لذا فقد وجده الكتاب أداة ملائمة ووسيلة صالحة للنقد والتهكم والتقريع فيبدو في مظهره كوميدي المشهد وفي تأثيره مضحكة الواقع، ولمن يعنيه أشد من الموت الزؤام، إنه من أشكال النقد الواعي الممزوج بالإحساس الفطري المتجذر في أعماق الشعب المهموم والمستضعف.
إن فن السخرية وإن صنف ضمن أدب الفكاهة لاشتماله عنصر الإضحاك، إلا إنه يمكننا إدراجه ضمن أرقى أشكال التعبير الأدبي؛ خاصة لما يحمله في طياته من مواقف انتقادية تظهر إحساسنا بالمفارقة الدلالية المرفقة بانفعال الضحك، وهذا ما عبر عنه الأديب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني بقوله: 'إن السخرية ليست تنكيتا ساذجا على مظاهر الأشياء، ولكنها تشبه نوعا خاصا من التحليل العميق، إن الفارق بين صاحب النكتة والكاتب الساخر يشبه الفارق بين الحنطور والطائرة، وإذا لم يكن للكاتب الساخر نظرية فكرية فإنه يضحى مهرجا'. والأدب الساخر رسالته أقوى من الكلمات الجادة ويصل لغايته بطريقة أسهل وأيسر، ويتناقله الناس بناء على إعجابهم بجماله وذكائه ومهارته وخفته، فهو مركب بالغ التأثير في إيصال الأفكار وتوجيه المجتمعات، كما يستطيع صاحبه اصطياد المفارقة التي تثير الضحك بأسلوب التلميح لا التصريح، سواء كان ذلك عن طريق النكتة الشفوية أو الكاريكاتير أو القصة الساخرة، ومنها الفن المسرحي والدراما والسينما في العصر الحديث وغير ذلك كثير. وتحتوي السخرية على ألم ممض فهي قمة الألم، فكما أن قمة الحزن تتحول إلى غناء، فإن قمة الألم تتحول إلى سخرية، وقديما قالت العرب: 'شر البلية ما يضحك'.
حفل التراث العربي بالعديد من الصور الساخرة، مع أنها لم تبرز في شكل أدبي قائم بذاته، حيث كانت مرتبطة بالفنون الأخرى خاصة في الشعر، وبوسعنا أن نلحظ الصلة العميقة بين فن السخرية وفن الهجاء، ونعتقد أن فن الهجاء الذي أبدع فيه شعرنا العربي القديم، يجسد ذروة فنية من ذرى السخرية الأدبية الذكية... وإذا كان الفرنسيون يتباهون بأن شاعرهم الكبير فيكتور هوغو قد ترك لهم أربعة آلاف بيت في الهجاء، فإن شاعرنا الكبير بشار بن برد ترك لنا اثني عشر ألف بيت في الهجاء المر والسخرية الضاحكة الحزينة، وقد خلد الناس في ذاكرتهم سخرية بشار ومنها قوله: ربابة ربة البيـت تصب الخل في الزيت
لها عشر دجاجات وديك حسن الصوت
ومن القامات الشعرية التي نذكرها الحطيئة، الذي كان يسخر من نفسه حين لا يجد أحدا يهجوه، وحين يكون الحديث عن فن السخرية بعيدا عن الهجاء تبرز صورة الشاعر الساخر ابن الرومي، الذي تخصص في التقاط المفارقات في وصف الأشخاص والأشكال حتى قيل عنه إنه رسام الكاريكاتير في الشعر القديم. كما نشطت حركة النثر بمختلف أشكالها ولاسيما القصص الفكاهي الذي أصبح السمة الغالبة في العصر العباسي، ويعد أبو العلاء المعري رائدا في هذا المجال، حيث قدم نموذجا أرقى لفن السخرية ببعده الفلسفي، وقد مزج السخرية الضاحكة بالألم العظيم في رسالة 'الغفران'، ولعل من أكثر النصوص الأدبية الساخرة شهرة عالمية نص ' ألف ليلة وليلة' وما أضيف إليه من قصص ساخرة ونوادر مضحكة، كما نجد نصا سياسيا ساخرا بامتياز هو حكايات 'كليلة ودمنة' التي يرويها الفيلسوف بيدبا للملك دبشليم وهي لابن المقفع، الذي وجد في هذه السخرية عن طريق قصص الحيوان وسيلة للتعبير السياسي، وقد عرفت كل آداب العالم هذا النحو من القص الساخر على لسان الحيوان. ونجد في موسوعات الجاحظ نماذج مثلى لفن السخرية في الأدب القديم، وكتاب 'البخلاء' للجاحظ أبرز هذه النماذج، وكذلك نذكر كتبا كثيرة شهيرة في أدبنا العربي القديم مثل كتاب 'الإمتاع والمؤانسة' للتوحيدي وكتاب 'الأمالي' لأبي علي القالي 'والعقد الفريد' لابن عبد ربه الأندلسي، 'والكشكول' للعاملي، 'والمستطرف من كل مستظرف' للأبشيهي، وقد أسست هذه الكتب لنشوء فن الخبر العربي الذي لا يوجد له مثيل في كل آداب العالم. وظهر في التراث العربي كثير من الشخصيات الفكاهية، وقد اشتهر منها 'أشعب'، 'وأبو دلامة'، 'وأبو العبر'، 'وأبو العيناء'، 'وجحا' وغيرهم، وتناثرت أخبارهم ونوادرهم في بطون الكتب العربية القديمة. ولا نريد أن نسرف في تقديم الأمثلة من أدبنا القديم على تألق فن السخرية وعمقه، فحسبنا أن نشير الى أن هذا الفن عريق في أدبنا وثقافتنا، وأن عددا كبيرا من أدبائنا الذين صنعوا نهضتنا الأدبية وجدوا في فن السخرية ميدان تألقهم وإبداعهم.
ظهر فن السخرية السياسية في جميع الآداب القومية، فنجد ملهاة 'ارسطوفانيس' تسخر من المجتمع الإغريقي في القرن الخامس الميلادي. وتعتبر فترة أواخر القرن السابع عشر من أعظم فترات السخرية الأدبية إثراء في الأدب الانكليزي، فقد كتب غالبية كتاب ذلك العصر وأهمهم أشهر أعمال السخرية، مثل الكسندر بوب في كتاب بعنوان'دنسياد'، الذي هاجم فيه الشعراء والكتاب الذين أساءوا استعمال اللغة الانكليزية، والكاتب الفرنسي موباسان، الذي كان يقطن منطقة 'بيكال' وكان كل همه رصد تحركات وتصرفات المرأة الفرنسية في سذاجة تفكيرها وإقدامها على حركات وسلوكيات كانت تدعوه إلى أن يستل قلمه ليكتب نماذجه الإبداعية الرائعة في قصص ساخرة لا تخلو من صبغة الإضحاك.
إن ازدهار الأدب الساخر في الأدب العربي مرتبط ارتباطا وثيقا بأجواء الكتابة المنفتحة على التنوع والاختلاف وحرية الإبداع، وأنه كلما ضاقت هذه المساحة تحول فن السخرية إلى سخرية سوداء، وأصبح هذا النوع من الأدب يمثل للبعض أسلوبا تعبيريا ولغة رفض مختزلة في العقل الباطن للإنسان العربي، فهي بذات الوقت تكشف عن إحباط نفسي كبير ومواجهة سلبية للواقع؛ لكنها تعتبر متنفسا للمقهورين والمقموعين جراء ما تقوم به الأنظمة العربية القمعية بأجهزتها وسجونها من ظلم واستبداد، متكئة على سلطتها الدينية المحسوبة على الحكام، ولعل الشاعر نزار قباني كان صادقا في نقل هذا الواقع بقوله: 'معتقلون داخل النص الذي يكتبه حكامنا... معتقلون داخل الدين كما فسره إمامنا...'، فالكاتب العربي يذوق مر الخيبات والخذلان والانكسار العربي؛ لأن سياسة القهر وتكميم الأفواه والمحسوبية صقلت الكاتب العربي الذي راح يكتب سخريته بألوان حزنه وألمه. وصدق محمد الماغوط حينما سئل ذات مرة عن ماهية السخرية؟ فأجاب: 'إن السخرية هي ذروة الألم'، وقد كان لهذا الوضع المتأزم وقع خاص في نفس المثقف العربي الذي يعيش حياته مهملا، مما دفع العديد من الكتاب إلى هذا النوع من الأدب احتيالا على الرقيب أو السلطة وبما يشكل متنفسا للكاتب والقارئ على حد سواء...
باتت الكتابة الساخرة تحتل مكانة مرموقة في الأدب العربي المعاصر؛ لما لها من خصوصية ومقدرة عالية على جذب المتلقين، لتكون من ضروب الكتابة الأكثر إقبالا عليها من قبل القراء، وإذا كان عدد الكتاب الساخرين قليلا في الوطن العربي كما يرى بعض المهتمين بهذا اللون من الكتابة، فإن هذه القلة استطاعت أن تنهض به لتعطيه بعدا إنسانيا يعكس هموم الإنسان العربي في ما يتعرض له من اضطهاد وتشرذم للوطن الواحد، وإن عددا كبيرا من أدبائنا الذين صنعوا نهضتنا الأدبية في الخمسينيات من القرن الماضي وجدوا في فن السخرية ميدان تألقهم وإبداعهم، بل إن رواد القصص السوري شكلوا ما سموه' عصبة الساخرين'، وكان من أبرز الساخرين حسيب كيالي وصدقي إسماعيل وسليمان العيسى ومحمد الماغوط وزكريا تامر، ولابد من أن نتذكر هنا نمطا من الأدب الساخر لا مثيل له أبدعه هؤلاء الساخرون هو ما حوته مجلة ' الكلب' التي كان يكتبها صدقي إسماعيل بخط يده أول الأمر، يتبارى فيها الساخرون بالنباح الشعري ويتهاوشون مع الحكومات، ويعضون السياسة وتعضهم، ومن بعد ظهرت السخرية السوداء على يد محمد الماغوط الذي كتب مقالات ساخرة مهمة نشرها في مجلة' المستقبل' ثم طبعها في كتاب سماه 'سأخون وطني'. ونشأت في عدد من العواصم العربية حلقات تضم الأدباء يطلقون فيها النكات، ويناقشون السياسة، ويتداولون في أحكام اللغة. ففي بغداد، كان ملتقى النخبة من الأدباء في المقهى السويسري، والمقهى البرازيلي، ومقهى الزهاوي. وكانت حانة 'أنجلو' ملتقى ظرفاء القاهرة من مثل عبد العزيز البشري وعلي إبراهيم وفكري أباظة. وكانت لهم في بيروت ودمشق مقاهي 'عجرم' و'القزاز' و'البرازيل' يجتمعون فيها لأغراض مماثلة. ونعود إلى الأدب العربي المعاصر وكتابه الساخرين، ويعد حسيب كيالي واضع حجر الأساس لفن القصة القصيرة الساخرة على وجه الخصوص ليس في سورية وحسب بل في الوطن العربي، فكيالي يمتلك أكثر من وجه فهو كاتب وقاص، ينتمي في أدبه إلى الواقعية، يجيد التقاط السر في الشخصية الإنسانية، وهو من اكتشف عظمة اللغة العامية، وتحمل مشاق التجديد نحو فن الشعب، فالإحساس بالشعب وأحواله، ولاسيما بؤسه ثم الكتابة عنه لتبديل ما يمكن أن يكون قهرا اجتماعيا أو ظلما، وكتاباته السياسية تنضح بالجرأة والمواجهة ونسيان الرقابة والرقيب، ولم يجد حرجا في توجيه سهام نقده إلى الأحزاب نفسها، ومنها حزب اليسار الذي كان هو نفسه من أعضائه الأوائل، ثم هجره وألف في بعض رجاله المنحرفين قصة طويلة عنوانها 'الإشكال'.
يعد إميل حبيبي رائد السخرية الأدبية في الرواية العربية، حيث يصطدم القارئ بالسخرية الموجعة في رواية 'الوقائع الغريبة'، بل لن أكون مبالغة إذا قلت ان السخرية واضحة من الأسطر الأولى لهذه الرواية، فالموت على الحدود والاختفاء في الزنازين، أمسيا عنوانين مميزين للفلسطيني في هذا الزمن، حيث لا تسمح الأنظمة العربية باجتياز الحدود. وتكاد تمتلئ روايات حبيبي بالسخرية والنقد مثل رواية 'أخطية' و'خرافية سرايا بنت الغول' ولا غرابة في ذلك فحبيبي من أقدر الكتاب على الاختراق الدقيق الموثق بالأحداث والأوصاف والتغييرات في تركيبة المجتمع الذي وقع تحت كابوس الاحتلال الصهيوني، وممارساته الفاشية اللاعنصرية.. واستفاد الراحل غازي القصيبي من تراث احتفى بالسخرية ومن مفارقات عصية على الاستيعاب، السخرية لديه تماس مع الغرائبي والعجائبي في إحالات وتناص بين الواقع والخيال، نشعر بذلك في 'أبو شلاخ البرمائي' و'الجنية' ويتصاعد إبداعه في 'العصفورية' عندما تصبح السخرية رديفة الجنون، فالسخرية عنده ليست ابنة الموقف أو تنتهي عند حدث أو شخصية ما، إنها الخبرة الأهم المثيرة للضحك.
ولابد من الإشارة إلى السخرية في فن الكاريكاتير فن النقد والتعبير، فقد أغضب رسامو الكاريكاتير السياسيين والمسؤولين بانتقاداتهم اللاذعة وتنبيه الناس إلى حالهم ووضعهم عبر رسوماتهم الساخرة، كما لوحق الكثير من رسامي الكاريكاتير، وأجبروا على ترك العمل في الصحف والمجلات التي يعملون بها، ومن منا يستطيع أن ينسى 'حنظلة' في رسومات المبدع ناجي العلي؟ فقد كانت شخصية شاهدة على العصر عزيزة على كل الثوريين الساخرين الساخطين من معيشتهم. كما انتشرت أعمال صلاح جاهين التي انتقدت بعض المظاهر السلبية في المجتمع المصري، وكذلك طوغان والبهجوري.
كان العديد من زعماء العالم العربي يتابعون السخرية السياسية التي يرددها الأدباء، فمنهم من كان يعتبرها استطلاع رأي لسياسته، وآخرون يعتبرونها مؤشر صعود أو هبوط شعبيتهم مثل شارل ديغول الذي كان أكثر ما يزعجه هو أن السخرية السياسية أو الرسم الكاريكاتوري لم يعره اهتماما في الآونة الأخيرة، وكذلك الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، الذي كانت تجمع له السخرية السياسية التي ابتلي بها بعد هزيمة 67، بسيل من اللذعات الناقدة للسياسة المصرية، حتى اضطر في إحدى خطبه المشهورة إلى مناشدة الشعب المصري في أن يتقوا الله في نفسه وأن يرشدوا السخرية السياسية بما لا يؤذي الشعور الوطني. وفي المسرح العربي كان هناك الكثير من النماذج التي قدمت على شكل عروض مسرحية، ولم يحظ معظمها بالتحول إلى كتب، وفي المسرح تحديدا يمكن التمييز بوضوح بين المسرح الساخر والكوميدي، فالمسرح العربي الساخر كان أقرب إلى الكوميديا السوداء، وقد تكون أبرزها مسرحيات محمد الماغوط الساخرة السياسية التي كتبها لدريد لحام مثل ضيعة تشرين، وغربة وكأسك ياوطن، كانت أعماله مرآة عكست آمال وأحلام البسطاء وما يعانون من قهر على امتداد الوطن العربي. ولقد برع الكاتب فخري قعوار في تصوير ما آلت إليه النخب العربية الحاكمة من فساد من خلال حوارات موغلة في السخرية، لعل أكثرها سخرية هذا الحوار الذي ترك فيه حرية استبدال الوظائف للقارئ بحيث يمكن للمدير أن يكون وزيرا أو حتى رئيسا: الحمارة: مستحيل أن يصير واحد مثلك مديرا! قال الحمار باستخفاف وثقة: وما الذي يمنعني أن أصير مديرا؟! أنسيت أنك حمار؟! لا لم أنس أني حمار، ولكن الحمورية ليست سببا لعدم تعييني مديرا!! تنهدت الحمارة وقالت: دنيا!
لم تتوقف السخرية عند حد الفنون النثرية والمسرحية والتشكيلة الكاريكاتورية بل إن الشعر الحديث استعاد أمجاده الهجائية القديمة. ولعل أهم رواد هذا الفن مظفر النواب وأحمد مطر ونزار قباني وأحمد فؤاد نجم ويعد النواب واحدا من فرسان هذا الأدب، فهو ينفعل بالانكسارات العربية والقمع الديكتاتوري، ويترجم ذلك الانفعال بمفردات قد تكون بذيئة، ولكنها تعبير حقيقي عما يشعر به الشاعر، فحينما يصرخ النواب في وجه الحكام العرب في قصيدته: القدس عروس عروبتكم
لن يبقى عربي واحــــــــــد،
لست خجولا حين أصارحكم بحقيقتكم
إن حظيرة خنزير أطهر من أطهركم
.... قمم ... قمم
معزى على غنم
إن الكتابة الساخرة اليوم تؤدي دورا مهما في الأحداث العربية الراهنة، وخلال الثورات التي شهدتها البلاد العربية في الآونة الأخيرة، طفا على السطح كم هائل من الكتابات الساخرة أسهمت في تعرية حقائق طغاة الحكم التي كانت مطمورة عن المواطن العربي، وأدت دورا كبيرا في كسر حاجز الخوف الذي ظل واقفا في وجه هذا المواطن، وقد استطاع أصحاب هذه الكتابات إيصال رسائل سياسية تشي بتنامي الوعي لدى الإنسان العربي الذي قدم ولا يزال يقدم ثمنا غاليا لحريته المسلوبة. وفي ثورة 25 يناير تفجر إبداع السخرية عند المصريين حيث امتلأت صفحات الفيسبوك بالرسومات الطريفة للرئيسين زين العابدين بن علي وحسني مبارك... ما يمكن السؤال عنه اليوم في ظل التحولات الجارية في الوطن العربي هو: هل ستعود الكتابة الساخرة إلى الانتعاش مرة أخرى؟ من البديهي أن تكون القدرة على السخرية وإمكانية تقبلها بصدر رحب مؤشرا ازدهار إلى انتعاش مناخ الحرية، ويبقى الأدب السياسي الساخر حدثا ثقافيا مدهشا في حضارتنا.....

' كاتبة من الاردن

الطريق إلى الدولة الإسلامية عند حزب التحرير

الطريق إلى الدولة الإسلامية عند حزب التحرير
عرض/ عوض الرجوب


تكمن أهمية كتاب "الطريق إلى الدولة الإسلامية عند حزب التحرير" لمؤلفه جواد بحر النتشة في كونه يجري مراجعة موسعة للطريق التي ينتهجها حزب التحرير الإسلامي للوصول إلى الدولة الإسلامية، ويناقش المراحل الثلاث التي يرى الحزب أنها ستقوده لاستلام الحكم، ونفي الحزب لدور الآخرين في العمل لإقامة الدولة.
الكتاب عبارة عن قراءة في مباحث الطريقة وطلب النصرة عند الحزب، وفيه يتساءل المؤلف: هل يتجه الحزب فعلا نحو الدولة الإسلامية؟
-الكتاب: الطريق إلى الدولة الإسلامية عند حزب التحرير
-المؤلف: جواد بحر النتشة
-عدد الصفحات: 261
-
الناشر: مركز دراسات المستقبل, الخليل, فلسطين
-
الطبعة: الأولى/2009
تعرض الدراسة لرؤية الحزب من خلال عرض الحزب لها في كتبه وفي كثير من نشراته الرسمية ومواقعه على الإنترنت. وتتطرق إلى الخلط بين الحزب والدولة لدى كثير من شبابه "حتى إن غالبيتهم يعتقدون أن الحديث عن الدولة هو حديث عن الحزب والعكس" حسب المؤلف.
استهل المؤلف كتابه بتمهيد تحت عنوان: عجز حزب التحرير عن التعامل مع منتقديه، وفيه قال إن الحزب يسرع إلى اتهام منتقديه، لمجرد أنهم انتقدوه.
يلي التهميد أربعة فصول، يعالج أولها مفهوم الطريقة عند حزب التحرير، وعند علماء الأمة من أهل الفقه والأصول وأهل اللغة. ويتناول في الفصل الثاني إنكار الحزب لمقام الآخرين، ونفي الحزب لوجود من يعمل لإقامة الدولة الإسلامية سواه.
أما الفصل الثالث فيناقش بإسهاب طريق حزب التحرير إلى الدولة الإسلامية، مستعرضا رؤية الحزب، ومستعرضا كذلك الرد عليها. ثم يتطرق المؤلف في الفصل الرابع الأخير إلى أثر رؤية الحزب لطريق الدولة على مسلكه الدعوي.
اعتبارات الحزبيقول المؤلف إن حزب التحرير يعرض نفسه باعتباره حزبا يسعى إلى إقامة الدولة الإسلامية، ويرى أن الخلافة لم يكن لها ذكر قبله لدى الأمة ولدى العاملين للإسلام، حتى جاء هو وبدأ يذيع بين شبابه أنه وحده من يسعى فعلا إلى إقامة الدولة، وأنه لا أحد سواه يحمل هذا الهم!
ويتابع في مقدمة كتابه أن الحزب يقرر أن الطريق الموصلة إلى الدولة الإسلامية محدودة بما دار في فهمه هو، وأن أي طريق آخر لا يوصل إلى الدولة "بل أوصل الحزب سلوك الطريق التي يراها موصلة دون غيرها إلى الدولة الإسلامية إلى مستوى الفريضة، كفريضة إقامة الدول ذاتها".
ويشير إلى أن الحزب يستند فيما يراه من انحصار الطريق إلى الدولة الإسلامية بما فهمه على بعض أحداث السيرة النبوية، وبناء على فهمه ذاك فإن شبابه يرون أنهم ملتزمون دون غيرهم بشرع الله تعالى في سلوك هذا الطريق بذلك الفهم.
ويسرد المؤلف جملة من الاعتبارات قال إنها تجمعت لدى الحزب فيما يتعلق بالعمل لإقامة الدولة الإسلامية، وهي:
1- أن فكرة الخلافة لم يكن لها ذكر قبل حزب التحرير، لا عند الأمة ولا عند العاملين للإسلام.
2- أنه حصر الطريق إليها برؤية محددة ولا طريق يوصل سواه، وجعل طلب النصرة جزءا من أحكام تلك الطريقة، التي لا يبلغ الحزب غايته إلا بها، رغم إقراره بما يجعل طلب النصرة غير ممكن.
"
يعرض حزب التحرير نفسه باعتباره حزبا يسعى إلى إقامة الدولة الإسلامية، ويرى أن الخلافة لم يكن لها ذكر قبله لدى الأمة ولدى العاملين للإسلام، حتى جاء هو وبدأ يذيع بين شبابه أنه وحده من يسعى فعلا إلى إقامة الدولة، وأنه لا أحد سواه يحمل هذا الهم!
"
3- أنه اعتبر هذا الطريق فرضا شرعيا يحمل ذات الحكم الذي يحمله العمل لإقامة الدولة الإسلامية.
4- أنه عزا فهمه للطريق إلى المسلك النبوي الشريف، رغم إقراره أحيانا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يطلب النصرة لأجل استلام الحكم.
5- أنشأ هذا عنده اعتدادا بفهمه للطريق الموصل إلى الدولة الإسلامية، وبانحصار الفهم الصحيح لها فيما دار في رأسه.
6- انبثق عن فهمه للطريق فهم آخر في العقود الثلاثة الأولى من حياته، وهو أن النجاح في بلوغه الغاية مرتبط ببعد زمني، وهو ثلاثة عقود على الأكثر، لا يمكن أن تمضي دون أن يتحقق النجاح في إقامة الدولة.
بعد هذه المقدمة ينتقل المؤلف إلى الفصل الأول من الكتاب ليتناول مفهوم الطريقة عند الحزب وعند العلماء، لغويين وأصوليين وفقهاء. ويقول إن الذي يمكن أن يفهم من إصدارات الحزب في معنى الطريقة هو نفسه ما يمكن فهمه من معنى كلمة المنهج.
ويتابع أن الطريق كانت أحد ثلاثة جوانب تتقاسم المبدأ "فالمبدأ عند الحزب هو ما يجمع بين العقيدة والنظام والطريقة معا".
إنكار الآخرينيخصص المؤلف الفصل الثاني من كتابه للحديث عن إنكار الحزب لمقام الآخرين، موضحا أنه يحسب أن مبرر إنشائه يقتضي إسدال ستار كثيف على العاملين للإسلام، بإغفال دورهم، أو بوصفهم تارة بعدم الفهم الصحيح للإسلام، وتارة بالإخفاق في الوصول إلى غايتهم، وتارة بأنهم لم يكونوا يذكرون ما يتحدث به الحزب من العمل للدولة.
ويتابع المؤلف أن الحزب يوهم شبابه بهذه الأوهام ليوقع في نفوسهم أنه وحده دون غيره الذي فهم الإسلام، وعرف طريقة عودة الخلافة. وأنه أول من ذكرها من المسلمين المعاصرين، وكأنه يقصد بذلك أن يؤسس في نفوس أبنائه مبررات إنشائه، رغم أن غيره سبقه في ذلك، وقد ذكر المؤلف نماذج سبقت الحزب، جعلت العمل للدولة الإسلامية محور تفكيرها.
وتطرق المؤلف في هذا الفصل إلى موقف الحزب بوجوب أن يكون الخليفة تحريريا، أي من حزب التحرير، وكذلك المعاونون وأمير الجهاد من الحزب، مستشهدا باقتباسات من نشرات ومراجع عديدة للحزب.
طريق الحزبيعد الفصل الثالث لب الكتاب لتناوله طريق الحزب للوصول إلى الدولة الإسلامية. وهنا لا يرى المؤلف أن الحزب سالك مسلكا يوصله للدولة. بل يذهب إلى أن "حزب التحرير يعلن إعلانات أكبر منه بكثير، لكن بوسائل قاصرة، وهو ينتظر بفارغ الصبر من يمكنه من ذوي القوة والشأن بتسليمه الحكم أو إيصاله إليه، عبر طريقته الواجبة حسب وهمه، والتي جعل طلب النصرة جزءا من أحكامها.
يعرض الباحث في هذا الفصل لرؤية الحزب للوصول للدولة، وما يصفها بالأوهام في تصور الحزب للطريقة، وطلب النصرة لاستلام الحكم.
ويسوق الطريق الموصل إلى الدولة الإسلامية أو إلى استلام الحكم عند الحزب، ويبدأ بمرحلتين، تنتهيان إلى استلام الحكم لتكون المراحل الثلاث طريقا للوصول إلى تطبيق المبدأ، وسبق ذكره.
"
في تصور الحزب أن الوصول إلى الدولة الإسلامية يمر بثلاث مراحل: أولا الدراسة والتعلم لإيجاد الثقافة الحزبية، وثانيا التفاعل مع المجتمع الذي يعيش فيه حتى يصبح المبدأ عرفا عاما, أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة تسلم زمام الحكم عن طريق الأمة
"
أما المراحل الثلاث فيقتبسها المؤلف من كتاب التكتل الحزبي، لمؤسس الحزب الشيخ تقي الدين النبهاني، وهي: أولا مرحلة الدراسة والتعلم لإيجاد الثقافة الحزبية، وثانيا مرحلة التفاعل مع المجتمع الذي يعيش فيه حتى يصبح المبدأ عرفا عاما ناتجا عن وعي، وتعده الجماعة كلها مبدأها حتى تدافع عنه جماعيا. وفي هذه المرحلة يبدأ الكفاح بين الأمة ومن يقفون حائلا دون تطبيق المبدأ، من الاستعمار وممن يضعهم أمامه من الفئات الحاكمة والظلاميين والمضبوعين بالثقافة الأجنبية.
والمرحلة الثالثة هي مرحلة تسلم زمام الحكم عن طريق الأمة تسلما كاملا، حتى يتخذ الحكم طريقة لتطبيق المبدأ على الأمة. ومن هذه المرحلة تبدأ الناحية العملية في الحزب في معترك الحياة، وتظل ناحية الدعوة للمبدأ العمل الأصلي للدولة والحزب، لأن المبدأ هو الرسالة التي تحملها الأمة.
ورغم تمسك الحزب بهذه الطريقة باعتبارها ذاتها طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، يرى الكاتب أن الواقع هو الذي يملي نفسه في تحديد طريق دون طريق، فإذا سمح الواقع بسبيل ما، وكان هذا السبيل مما يسمح به الشرع نفسه، فهو إذن سبيل الوصول إلى الدولة الإسلامية.
ويرى المؤلف أن الإصرار على أن يكون الإلزام بطريق ما غير ما يمكن واقعا، ليس أكثر من غفلة مخجلة عن الحقيقة، وربما كانت من باب سد الطريق نحو الدولة الإسلامية. وإن كان سدا غير مقصود!
ويشير إلى أن طلب النصرة عند الحزب جزء من الطريقة الواجبة الاتباع في رأي الحزب، عندما يتجمد المجتمع أمام حملة الدعوة، ويشتد الأذى على الدعاة، ويقتبس من أحد إصدارات الحزب نصا يؤكد ذلك.
وفي أكثر من موقع من الكتاب ينتقد المؤلف التزام الحزب بطريق دون غيره، "لأن في ذلك إغلاقا لباب العقل والتفكير، وإغلاقا لباب الأمل في الوصول للدولة، وإصرارا على العبث بعواطف الناس".
ويتابع أن الوصول إلى الدولة الإسلامية "ليس بالسهولة التي يتوهّمها الحزب"، لأن أعين العالم ستكون متربصة لإزهاق أي محاولة في هذا الباب في مهدها، ولأن أصحاب المصالح سيكونون على أهبة الاستعداد للتعامل مع الأعداء لأجل إزهاق أي محاولة، بل إن أعداء الإسلام سيحاولون اختراق أي محاولة ناجحة، لعلهم يحرفونها عن مسارها.
وتعزيزا لرأيه بعدم الاقتصار على طريق واحد للدولة، يقول المؤلف إن من يخططون قد يرون أن طريق الانتخابات في مجتمع ما هو ما سيوصلهم إلى مبتغاهم، فيكون هذا المسلك ضروريا لأجل الوصول إلى المبتغى. وقد يكون طلب النصرة هو الممكن المقرّب للأمر، فيقررونه حين الحاجة إليه إن سمح الواقع به. وقد يرون أن دعوة الناس إلى استفتاء يُلزم الحاكم بما يرون أنه ممكن في وقت من الأوقات، فيلجؤون إلى اعتباره وهكذا.
طريق مسدود
"
يرى المؤلف أن الحزب يحصر المدخل الموصل إلى استلام الحكم في ديار المسلمين في طلب النصرة دون غيره، وهو أمر مستحيل في عصرنا، ما يعني أن "الطريق الوحيد الموصل إلى الدولة مغلق
"
في الفصل الرابع الأخير، يتناول المؤلف النتشة أثر رؤية حزب التحرير لطريق الدولة على مسلكه الدعوي.
وهنا يؤكد أنه لا يمكن ألا يتأثر سلوك الإنسان برؤيته لجوانب الحياة. ويرى أن عمل حزب التحرير صار محصورا في شيئين الأول الاستقطاب، وما يكون في خدمته من وسائل كالمؤتمرات وما يتبعه من توعية للمستقطبين، وربما تنفيرهم من غير حزب التحرير، والثاني طلب النصرة.
ويتساءل: ماذا بعد الاستقطاب؟ ماذا يفعل المستقطَبون؟ الجواب: لا شيء سوى مزيد من الاستقطاب، مع انتظار النصرة.
ويقول إن لرؤية الحزب أثرا في مسيره، ومنها الإخفاق في الوصول إلى المطلوب، وساق اعترافا له في عدم ظهور أي تأثير له بين الناس في مجاله، وأنه تحت الصفر منذ بضع سنوات، كما نصت على ذلك نشرة للحزب، تعود في تاريخها إلى العام 1967 أو بعده بقليل.
ويرى أن الحزب يحصر بوابة الدولة في ديار المسلمين اليوم في طلب النصرة، التي تبين من بعض كلام الحزب نفسه أنها غير ممكنة، وهو ما يعني في نهاية المطاف أن الحزب يحصر المدخل الموصل إلى استلام الحكم في ديار المسلمين في طلب النصرة دون غيره، مدعيا الاقتداء في هذا بالرسول صلى الله عليه وسلم.
ويذكر من تداعيات حصر بوابة الدولة في طلب النصرة أن طلب النصرة يكون من أصحاب القوى في مجتمع ما، ولا يكون هؤلاء من الحزب، موضحا أن أصحاب القوة في أي مجتمع واقعون تحت سيطرة الحاكم، ولا يجير على الحاكم أحد على حسب تعبير الحزب في نشرة له أصدرها عام 1985 بعنوان: إعادة النظر، على ما ذكر المؤلف النتشة.
ويتابع أن الحاكم يرى الحزب عدوا له ولذلك لا أمل في الحاكم، وبالتالي فإن "طريق طلب النصرة مسدود، لأن القادرين عليها تحت سيطرة الحاكم" ومع ذلك يقرر الحزب أن "لا بد من طلب النصرة لاستلام الحكم في ديار المسلمين، ولا يصلح غير طلب النصرة، وهذا عنده يرجع إلى أن طلب النصرة هو طريق الرسول صلى الله عليه وسلم.
خلاصة
"
يدعو المؤلف حزب التحرير إذا كان جادا في العمل لإقامة الدولة الإسلامية الراشدة، أن يراجع فهمه لطريق الوصول إليها، وأن يكون شجاعا في مراجعة نفسه وفهمه للطريق
"
يستنتج المؤلف أن حصر الحزب للطريق إلى الدولة الإسلامية في طلب النصرة، وهو مستحيل في عصرنا، يعني أن "الطريق الوحيد الموصل إلى الدولة مغلق، وحينما يصر الحزب على الطريق المغلق، وأنه وحده الطريق دون غيره، فكأنما يقول في النهاية: "لا أمل في الدولة".
وأن تجعل الطريق لا بد أن يمر في باب مغلق بهذا الإحكام –يضيف النتشة- ثم تقول لا طريق سواه، ثم تصر على أن تسلكه دون غيره، رغم اعترافك بإغلاقه، فكأن هذا يعني أنك لا تريد الوصول إلى الدولة الإسلامية".
وينتهي المؤلف في كتابه إلى أن حزب التحرير ضخّم نفسه فيما يتعلق بالعمل للدولة الإسلامية القادمة، ويحسب نفسه أنه يعمل وحده لإقامتها، فإذا بغيره قد سبقه.
ويرى أن على الحزب إذا كان جادا في العمل لإقامة الدولة الإسلامية الراشدة أن يراجع فهمه لطريق الوصول إليها، وأن يكون شجاعا في مراجعة نفسه وفهمه للطريق.






المصدر: http://www.aljazeera.net/NR/exeres/5E009A73-CF7E-48AB-AE4E-423EFDFEC044.htm

السياق السلفي والفقه السياسي

تحولات السلفيين.. والإخوان أيضا
ياسر الزعاترة


فاجأت مذيعة في إحدى الفضائيات المصرية مرشحا سلفيا من قيادات حزب النور بعد نهاية الانتخابات التي صعد من خلالها للدورة الثانية ثم خسر أمام مرشح آخر، فاجأته بعرض شريط "فيديو" له يقول فيه إن الديمقراطية كفر، فارتبك الرجل بعض الشيء وراح يبرر موقفه القديم مقابل موقفه الجديد.
 
ولعل مشكلة التيار السلفي في مقارباته السياسية تتمثل في أنه -خلافا للإخوان- كان يعالج سائر القضايا السياسية من باب الحرام والحلال الحاسم في كثير من الأحيان، وليس على قاعدة درء المفاسد وجلب المصالح التي تشكل العنوان الأبرز لكل ما يتعلق بإدارة الشأن العام كما ذهب العلامة (ابن القيم) باستثناءات محدودة.
 
"
مشكلة التيار السلفي في مقارباته السياسية تتمثل في أنه -خلافا للإخوان- كان يعالج سائر القضايا السياسية من باب الحرام والحلال الحاسم في كثير من الأحيان، وليس على قاعدة درء المفاسد وجلب المصالح
"
هناك بالتأكيد مجموعات سلفية توصف بأنها إصلاحية كانت لها مقاربات سياسية جريئة، كما هو حال حزب الأمة في الكويت، وخالفت ما تعارفت عليه التيارات السلفية التقليدية التي تعد الأكثر انتشارا إذا أخذنا العالم العربي كمثال جامع.
 
في السياق السلفي العام رأينا عجبا عجابا فيما يتصل بالفقه السياسي، فقد رأينا كيف ذهبت مجموعات تنتمي إليه نحو تبرير قتال الأنظمة وكل المنضوين في سلكها خلال الثمانينيات، ثم أجرى مراجعات جذرية بعد ذلك، وفي الحالتين استنادا إلى الكتاب والسنة.
 
ومن قرأ كتابات الدكتور فضل أو سيد إمام الشريف التي كانت مرجع الجهاديين خلال الثمانينيات (أبرزها العمدة في إعداد العدة والجامع في طلب العلم الشريف)، ومن ثم مراجعاته بعد ذلك (وثيقة ترشيد العمل الجهادي) سيرى الروحية التي يتصرف بها جزء من هذا التيار!!
 
عندما قال شيخ (حزب النور) الذي أشرنا إليه في مطلع المقال ما قال في مقاربته الأولى التي عرضتها عليه المذيعة، وهو للمفارقة مهندس وليس شيخا تقليديا، لم يكن يخطر بباله أنه سيقف هذا الموقف في يوم من الأيام، فقد كان يعيش ظروفا مختلفة، وعموما يمكن القول إن الربيع العربي -بطبعته التي نعيش- قد فاجأ الكثيرين، بمن فيهم قيادات في الظاهرة الإسلامية.
 
كان بعضهم في التيار الإخواني قد تعايشوا مع مقولة الإصلاح التدريجي لأنظمة يستحيل إصلاح معظمها في واقع الحال، فيما تعايش السلفيون (معظمهم للدقة) مع الواقع القائم وفق نظرية "حاكم الغلب" الذي لا يجوز الخروج عليه ما أذن بالصلاة وليس ما أقام الصلاة، مع أن نتنياهو يأذن بالصلاة، بل بوجود حركة إسلامية أيضا. كما حرَّموا الأحزاب والانتخابات، فضلا عن المظاهرات وصولا إلى تحريم نقد الحاكم في العلن.
 
بالطبع ثمة فقه سلفي لا يزال مقيما على هذه المقولات، بما في ذلك في الساحة المصرية بعد الثورة، لكنه لن يلبث أن يغيرها (غالبا إذا رغب ولاة الأمر في ذلك!!)، تماما كما غير موقفه من جواز المشاركة في الانتخابات (تصويتا) وليس ترشيحا في الأردن مثلا، بل كما غير موقفه من قضايا فقهية تقليدية مثل الظهور على الفضائيات، فضلا عن إنشائها (كانوا يقولون بحرمة التصوير!!).
 
في الحالة المصرية شهدت الحالة السلفية تغيرات يمكن وصفها بأنها جذرية، فيما ستذهب تيارات سلفية أخرى في العالم العربي نحو ذات الوجهة، وأتذكر أن التيار السلفي السعودي (تيار الصحوة كما يعرف هناك) كان له ذات الموقف من الانتخابات، وعندما أجريت الانتخابات البلدية قبل سنوات تردد في الجولة الأولى ثم انخرط فيها خلال الجولة التالية، بينما بات الكثيرون من رموزه يدعون إلى إصلاحات بروحية ديمقراطية (ملكية دستورية في بعض الأحيان).
 
في الحالة الإخوانية رفض الإمام حسن البنا تأسيس حزب، لكن تنظيمات الإخوان في الدول العربية لم تلتزم تاليا بهذا الرأي، حيث بادرت إلى تأسيس أحزاب. وعموما يمكن القول إن الفقه الإخواني كان واضحا في انحيازه إلى نظرية المصالح والمفاسد في العمل السياسي، فكان أن تعددت اجتهادات فروع الجماعة في التعاطي مع الشأن السياسي، حتى تجاوز بعضها الخطوط الحمر في علاقاته وتحالفاته، كما هو حال العمل السياسي من خلال منظومة أنشأها الاحتلال كما فعل فرع الجماعة في العراق (رفضت ما فعله سائرُ فروع الجماعة الأخرى، وإن لم تتخذ موقفا صارما منه)، أو التحالف مع العسكر ضد فريق إسلامي آخر (جبهة الإنقاذ) كما هو حال حركة مجتمع السلم في الجزائر.
 
واقع الحال من الناحية الشرعية والتاريخية هو أن الإسلام (في رؤية أهل السنة) قد أعلى من شأن الأمة، واعتبر أن الحاكم موظف عند المسلمين يقوم على شأنهم ويتلقى أجرا مقابل ذلك، وهو ما كان خلال فترة الخلافة الراشدة عبر ما عُرف بالبيعة التي كانت الطريقة المتيسرة في ذلك الحين في ظل واقع الحياة البسيط المعروف (بخاصة وسائل النقل والاتصال). وقد كان ذلك تميزا عن الواقع السياسي المحيط في العالم الذي لم يعرف في تلك الأثناء سوى الإمبراطوريات الوراثية.
 
"
شهدت الحالة السلفية في مصر تغيرات يمكن وصفها بأنها جذرية، وفي الحالة الإخوانية رفض الإمام حسن البنا تأسيس حزب، لكن تنظيمات الإخوان في الدول العربية لم تلتزم تاليا بهذا الرأي
"
مع معاوية بن أبي سفيان بدأ الحكم العضوض، وذهب الفقه الإسلامي في بعض تجلياته نحو تبرير الواقع الجديد الذي انسجم عمليا مع السائد عالميا وابتعد عن روح الشريعة، لا سيما أن القرآن واضح كل الوضوح في جعل الأمر شورى بين المسلمين.
 
اليوم يستعيد الإسلاميون مقولة الولاية العامة للأمة عبر أطر ديمقراطية حديثة، وهي بالمناسبة ليست أطرا نهائية ويمكن تغييرها بحسب ظروف الزمان والمكان، بما فيها القيم الاجتماعية والدينية (مثال ذلك الاشتراطات المتعلقة بالدعاية واستخدام المال فيها، إلى غير ذلك من شروط تجعل الاختيار أقرب ما يكون إلى الحرية بعيدا عن التأثيرات المرفوضة)، ومعلوم أن قوانين الانتخابات وشروط الترشيح والدعاية تختلف بين بلد وآخر، إذ لم يتوصل العالم بعد إلى قانون عادل تماما، كما لم يتوصل إلى صيغة تفرض التصويت على جميع الناس، وسيأتي اليوم الذي يتحول فيه التصويت إلى مهمة تتعلق بكل شخص في ظل ثورة الاتصالات، من دون الحاجة إلى صناديق اقتراع لا يتجاوز فيها المشاركون حدود النصف في أكثر الأحيان.
 
من هنا، فإن ولاية الأمة هي العنوان الأبرز لحراك الإسلاميين السياسي، ومن العبث التشكيك في ذلك، لا سيما أن الوضع الجديد جاء نتاج ثورات شعبية وليس انقلابات عسكرية يمكن لأصحابها أن يتصرفوا بعدها كيف يشاؤون. وعموما سيكونون -كما غيرهم- أمام اختبار الجماهير التي لا تمنح أحدا شيكا على بياض، بل تنحاز إليه بقدر انحيازه إلى همومها في القضايا الداخلية والخارجية.
 
اليوم يركز طموح الإسلاميين -بل يجب أن يكون كذلك- على أن يتحقق الإجماع بشكل تدريجي على المرجعية الإسلامية للدولة المدنية، ويكون التنافس بين القوى بعد ذلك على هذا الأساس. وقد كان طموح الدكتور حسن الترابي في مسيرة الإنقاذ أن يكون التداول على السلطة ضمن إطار المرجعية الإسلامية، لكن شركاءه رفضوا ذلك وانقلبوا عليه هو أيضا، لا سيما أن المرجعية الإسلامية في السودان لا خلاف عليها عمليا بين سائر القوى الأساسية في الساحة.
 
من حق القوى الإسلامية أن تحشد الناس خلف برنامجها عبر الأطر الشعبية المستندة إلى التعددية، وليس من حق أحد أن يملي عليها شيئا بعد ذلك، وعلى سائر القوى أن تقبل بما تفرزه الصناديق. هذا هو المسار المتاح لتحقيق طموحات الأمة في العدالة والمساواة والوحدة ومواجهة المخططات الأجنبية.
 
المصدر: http://www.aljazeera.net/NR/exeres/1763789B-B6E7-444C-8AE8-9C52CDDE137C.htm