الخميس، 21 يونيو 2012

المبادئ العامة لتجديد و ترشيد الخطاب الإسلامي في تونس (صالح كركر)

المبادئ العامة لتجديد و ترشيد الخطاب الإسلامي في تونس (صالح كركر)

قبل كل شيء لا بد من التذكير ببعض التعريفات لبعض المصطلحات الجوهرية التي سيقوم عليها تحليلنا هذا.
ماذا نعني بالحركة الإسلامية ؟

ما نعنيه بالحركة الإسلامية في هذا المقال هو كل التجليات و التفاعلات الإسلامية في المجتمع. فمن مكونات الحركة الإسلامية الحركية الفكرية و الثقافية، من منظور إسلامي، التي عاشها أو يعيشها المجتمع في مرحلة زمنية معينة. و من الحركة الإسلامية أيضا كل الأنشطة التربوية الوعظية و الدعوية، و ذلك على جميع المستويات و في كل الأماكن، و بكل الوسائل. فخطب الجمعة، و الدروس الوعظية و التربوية في المساجد، و المحاضرات التكوينية في المدارس و الجامعات، و في النوادي و مقرات الجمعيات الناهضة لهذا الغرض، هي كلها من الحركة الإسلامية. و كل الوسائل التكوينية الأخرى من أشرطة سمعية و أشرطة سمعية بصرية و من برامج إذاعية و تلفزية، و كل ما ينشر على الأنترنات من أدبيات حول الإسلام. كل ذلك نعتبره من الحركة الإسلامية. و من الحركة الإسلامية كل الأنشطة التعليمية و العلمية، التي تحصل في المدارس و الجامعات، في القطاع الخاص و الأهلي، و في القطاع الحكومي.
و من الحركة الإسلامية أيضا الجمعيات الخيرية و ما تنجزه من أعمال تكافلية جيدة و جبارة داخل المجتمع، و الجماعات الصوفية و ما تقوم عليه، حسب مناهجها و قناعاتها و فهمها للإسلام، من أعمال ترويضية و تربوية.
و من الحركات الإسلامية ما اصطلح عليه بهذه التسمية بالذات، أي الحركات الإسلامية القائمة على التنظيم و التي تم تأسيسها عن قصد و وعي، و المتصدرة في نفس الوقت للعمل التربوي و الثقافي و الدعوي من جانب و إلى العمل السياسي من جانب آخر، بغاية أسلمة المجتمع تدريجيا، أو كما يخيل إليها على الأقل.
و هكذا فإننا نعني بالحركة الإسلامية، مختلف تجليات الديناميكية الإسلامية، التلقائية و الواعية، و المنبثة في كل أطراف المجتمع، و ليس فقط ذلك المفهوم الضيق و المستحدث الذي يقتصر على معنى الحركة التنظيمية القائمة داخل المجتمع مع شيء من الانفصال عته، بغاية إصلاحه و العودة به إلى المعين الإسلامي الصافي !!! فهذا المفهوم الأخير هو اجتهاد بشري مستحدث على مستوى الوسائل، يعود قيامه إلى رأس الربع الأول من القرن المنصرم. فهل يعني ذلك أن الأمة الإسلامية في كل أرجائها لم تعرف قبل ذلك ديناميكية تجديدية و اجتهادية و إصلاحية ؟ و الجواب عن هذا التساؤل هو طبع لا، ذلك لأن الدينامكية الفكرية و الدعوية و التربوية و الاجتهادية و التجديدية و الإبداعية عموما، هي خاصية ملازمة للمجتمعات الإسلامية تنمو و تزدهر أحيانا، و تذبل و تتقلص أحيانا أخرى.

و ماذا نعني بالخطاب الإسلامي ؟
ما نعنيه بالخطاب الإسلامي هو كيفية فهم الإسلام و تنزيله على واقع الخلق في عصر من العصور، ذلك لأن الخطاب يقوم على الفهم، و الفهم ليس بالعملية السهلة، فهو عملية مركبة، يدخل فيها النص من ناحية، و واقع الخلق من ناحية ثانية، و دور عقل الإنسان في الربط بين الوحي و الواقع و استخلاص العبر و الأحكام لضبط الواقع و تطويره، من ناحية ثالثة. فأما النص كنص كما أنزل من السماء أو كما تفوه به أو طبقه الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، أي الوحي، فهو ثابت، و أما الواقع فهو متحرك متطور باستمرار، و أما العقل و قدرته على إنتاج الفهم فهو بين المد و الجزر عبر الزمن. و كلما كان العقل أكثر استعداد لاستيعاب الواقع و لفهم النص على ضوئه، تكون القدرة على التنزيل الصحيح للنص على الواقع أجدى و أبلغ، و تلك هي القراءة المطلوبة للإسلام.
و الخطاب الإسلامي الأمثل هو ذلك الخطاب الذي يستجيب لقضايا الخلق و يوفر لها ما تحتاجه من حلول، و متمشيا مع متطلبات العصر. فإذا عاش الخلق محكومين بخطاب من سبقهم، عاشوا عيالا مقلدين لمن سبقهم متخلفين عن عصرهم، و ما ينتج عن ذلك من تخلف عام في كل مجالات الحياة. أما إذا كان الخطاب الإسلامي عصريا فإن المسلمين إن لم يكونوا بذلك متقدمين عن بقية الخلق، فإنهم سوف لن يكونوا متخلفين عنهم.

ماذا نعني بالهوية ؟
الهوية قي نظرنا تتمثل في مختلف العوامل المعنوية و الوجدانية الجوهرية، التي تقوم عليها حياة المجتمع و يشعر بحضورها أفراده بأنهم يحققون بها ذاتهم، تماما مثل شعور من يدخل بيته، بعد ما كان متغيبا عنه لمدة في سفر مرهق. فالعقيدة و الدين و اللغة و الثقافة و العادات و التقاليد المشتركة و الذكريات و التفاعل مع المحيط الذي نشأ فيه أفراد المجتمع و ترعرعوا فيه، كل ذلك من مكونات الهوية، التي لا يعيش أفراد المجتمع متوازنين مطمئنين مستعدين للنمو و الإبداع، إلا بحضورها، و لا يكون أفراد المجتمع أنهم يمثلون جسما واحدا و كيانا واحدا إلا بحضورها. و عوامل و مكونات الهوية هي تلك الأشياء التي يشعر معها الفرد في المجتمع أته جزء لا يتجزأ من جسمه، يعتز معها بالانتماء إليه و إلى ثقافته، كما يعتز بتاريخه و بالحضارة التي بناها. فانظر مثلا إلى أولئك الذين يعيشون في أوطان غير أوطانهم، فإنهم و لئن كانوا يعيشون في أوضاع مادية جيدة، لربما أفضل بكثير من أوضاع الذين يعيشون في وطنهم الأصلي، إلا أنهم لا يجدون ذلك الشعور العميق في داخلهم بأنهم جزء لا يتجزأ من تلك المجتمعات التي يعيشون على أراضيها لأن عوامل و مكونات هويتهم غير متوفرة في تلك البلدان التي هاجروا إليها و اضطروا إلى الإقامة على أراضيها.
فالهوية بالنسبة للفرد هي بمثابة الروح من الجسم، فالفرد المحروم من مقومات هويته هو كالجسم الميت الفاقد لروحه. فالفرد أو المجتمع بدون هوية، هو مجتمع أو فرد بدون تعريف و لا نسب و لا أنا، تماما مثل الوليد من سفاح المحروم من النسب.
و مكونات الهوية لا تتمثل في كل ذلك التراكم من اللغات و الديانات و المعتقدات و الثقافات و العادات و التقاليد التي ترسبت نتيجة الإقامة على أرض ما منذ الأزل، و لو كان الأمر كذلك لكان مفهوم الهوية مفهوما ساكنا لا يتغير إلا قليلا، و لو كان الأمر كذلك أيضا لكانت البشرية أمة واحدة و مجتمعا واحدا، ما دام الجميع على وجه البسيطة يعودون إلى آدم عليه السلام. إلا أن الأمر ليس كذلك، و الأمة ذات الهوية الواحدة تقوم و تزدهر و تعمر ثم مع الزمن تضعف و تتلاشى ثم تنهار و تغيب عن الوجود، و تترك تلك الأرض التي قامت عليها لأمة جديدة بهوية جديدة.
لذلك فإن مقومات الهوية ليست هي سوى تلك التي لا يزال لها تأثير في حياة أفراد الأمة أو أفراد المجتمع، و ليست كل ذلك الخليط و التراكم الذي عاشته المجموعة السكانية في مكان من الأماكن عبر تاريخها الطويل، أو بالأحرى ذلك التراكم الذي عرفه مكان ما. فالمكان الجغرافي الواحد تتوالى عليه الأمم المختلفة و هوياتها المتنوعة، الواحدة تلو الأخرى، ثم تضعف و تنهار و تختفي، و تقوم مكانها أمم جديدة أخرى تعوض الأمم الدارسة، كل ذلك يحصل عبر التاريخ الطويل.
فمنطقة شمال أفريقيا على سبيل المثال تتالت عليها الأمم الواحدة تلو الأخرى، و الأمة العربية الإسلامية هي آخر الأمم التي تصدرت و لا تزال على ساحة المنطقة، بمعنى أن مقومات هوية هذه الأمة هي التي لا تزال صامدة سارية المفعول و شديدة التأثير في حياة سكان الشمال الإفريقي. و المناوئون للإسلام و للثقافة العربية الإسلامية يعودون بنا إلى الأمم و الحضارات الغابرة، التي كانت قد عاشت في المنطقة ثم انقرضت و قامت على أنقاضها أمم أخرى بهويات أخرى، كان آخرها الأمة العربية الإسلامية، مدعين أن مقوماتها لا تزال تؤثر فينا و تحكم واقعنا الثقافي و الاجتماعي، وهو ما نعتبره مجرد هراء لا أصل له، و لا يقوله أصحابه إلا للعناد و للمزايدات الفارغة. بل إن مواقفهم المناوئة لله و للإسلام و للعروبة هي التي سولت لهم ذلك، و دفعت بهم إلى ذكر مثل الهراء و العبث، و هم يظنون أن الناس سذج و سيصدقونهم.

ماذا نعني بالحداثة ؟
ننعني بالحداثة تلك الحالة التي يكون فيها أي مجتمع من المجتمعات قد دخل فيها دورة من التجديد المسترسل في جميع الميادين المعرفية و الفنية، المعنوية و المادية، و يكون فيها العقل السائد في ذلك المجتمع هو العقل النقدي، الذي يكون بمثابة المحرك لحركة التجديد و التطور في ذلك المجتمع. فالمجتمعات الحداثية هي في الأصل تلك المجتمعات العقلانية التي لا تحتكم إلا للعقل و لما لا يتناقض مع العقل.
و على هذا الأساس فالحداثة ليست عملية كما يتصورها البعض مرتبطة بالزمان و لا بالمكان، و ليست هي بالضرورة عملية مرتبطة بالموقف من الدين سلبا أو إيجابا و ليست هي بالضرورة شكليات و أنماط حياة محنطة. فالحداثة هي بعبارة أخرى حالة من نهضة العقل، و العقل النقدي على وجه الخصوص، و ما يصحبها من تطور في جميع الميادين و على جميع المستويات، و بشكل متجدد و متواصل.
و الحداثة التي عرقها الغرب، و التي احتكرت لصالحها الاسم بالكلية، ما هي، في الحقيقة، إلا حالة خاصة من حالات الحداثة، عرفت بنبذ الدين و الانقلاب عليه و رفضه و الادعاء الخاطئ بأنه يتناقض مع العقل، و الثورة على الطبيعة واعتبارها عدوة للإنسان، و السعي المتواصل لإذلالها و تحقيق الغلبة عليها و الهيمنة على أسرارها و قوانينها.
و التساؤل الذي حصل حوله خلاف كبير و لا يزال هو هل يمكن أن تحصل حداثة، أي نهضة حقيقية للعقل، دون التنكر إلى الدين و القطيعة معه، أو بعبارة أخرى هل هناك تناقض بين الإيمان و العقل؟ هل يمكن للعقل أن ينهض و يزدهر و يتمتع بكل حريته وهو في نفس الوقت متمسك بالدين، محترم لأوامره و نواهيه؟
أصحاب الحداثة الغربية و أنصارها من أبناء المجتمعات الإسلامية، يجيبون عن هذا السؤال بالنفي، و يعيدون التأكيد على أنه لا أمل في أية حداثة في البلدان العربية و الإسلامية ما لم تتمكن هذه البلدان من التخلص من هيمنة العامل الديني عليها. أما مفكري النهضة و المفكرون المسلمون عموما فيجيبون بالإيجاب، و يؤكدون على أنه ليس هناك أي تناقض بين الإيمان و التمسك بالدين و بين يقظة العقل و نهضته، و يعيدون التأكيد على أن المرحلة الطويلة للانحطاط التي مر بها، و لا يزال، كل العالم العربي و الإسلامي، مردها لا يعود إلى التمسك بالإسلام بقدر ما يعود إلى الجهل به و إلى الغرق في التقليد بدلا من توخي الاجتهاد و التجديد، أي إلى يقظة العقل و نهضته. و خير الأدلة على ذلك هو ما عرفته الحضارة الإسلامية من قرون ذهبية، لا تزال آثارها تشع بأنوارها على الإنسانية إلى اليوم، تعاضد خلالها الإيمان مع العقل لإنتاج كل عجائبها.

تجديد و ترشيد الخطاب الإسلامي:
1- هل الخطاب الإسلامي هو اليوم في حاجة إلى تجديد و ترشيد ؟
من المعلوم أن كل المعمورة تعيش بكل من هم عليها مرحلة رهيبة من التطور و تسارع الأحداث، فالجديد اليوم، سرعان ما ينقلب إلى قديم، لكثرة ما تتابعت به المستجدات و الأحداث، فصفة الجديد غدت صفة سريعة التجدد، فالجديد لا يبقى كذلك إلا لوقت وجيز، ثم يأت ما يعوضه و يحوله إلى قديم. و هذا التسارع في حركة التحول و التطور، لم يشمل عالم الحسيات فقط، و إنما شمل إلى جانب ذلك عالم القيم و مناهج و أساليب الحياة، و عالم الفكر و النظريات عموما.
و حركة التجديد و التطور هذه ليست بنفس النسق في كل مكان من العالم. فهي شديدة السرعة في العالم المتقدم، وهي بطيئة في أكثر البلدان تخلفا، إلا أن هذا البطء، هو بدوره، بصدد التقلص، بسبب ما طرأ على العالم من تطور و سرعة رهيبة في سرعة الانسياب في وسائل الإعلام. و العقبة أمام التجديد و التطور في هذه البلدان المتخلفة لم تعد على مستوى انسياب المعطيات بقدر ما هي بالأساس على مستوى استيعاب العقول للمعطيات و الأخذ بها و الإبقاء عليها و تطويرها لصالح حاجياتها المحلية.
و هذا التسارع في التحول في طبيعة حياة الناس على مختلف أنواعهم يتطلب بدوره سرعة لدى المسلمين في إعادة النظر في نص الوحي، أي في نصوص دينهم، بغاية إعادة تدبره على ضوء المستجدات، و توفير الأجوبة على المستجدات من المسائل، وهو ما يجعل من العملية الاجتهادية عملية أكثر دقة و عمق و أكثر إلحاحية من ذي قبل، هذا إذا كنا نريد للإسلام أن يبقى حاضرا حضورا حقيقيا و مؤثرا في حياة المسلمين و مواكبا لتطور المجتمعات البشرية في العالم. فنظام العولمة اليوم يفرض علينا أن نطور فكرنا و ثقافتنا و ديننا و نحصن أنفسنا و نؤثر في غيرنا، أو أن ثقافة غيرنا و أنماط حياته ستغزونا و تبتلعنا.
و مما يمكن أن يعين على ذلك هو تطوير منهجية العمل الاجتهادي و التجديدي بحسب ما أصبحت تسمح به الوسائل التقنية و الفنية الحديثة من تجميع للمعطيات الإسلامية و تبويب لها بحسب اعتبارات و اهتمامات و موضوعات عدة. و هذه الأعمال المكتبية، كما هو معلوم، ضرورية و مربحة للوقت و للطاقات و مفيدة للغاية في العملية الاجتهادية، قد أصبحت بحمد الله متوفرة في كل مكان، أو على الأقل في أماكن عدة من العالم الإسلامي. و نظرا لتعقد الحياة و كثرة و دقة المتطلبات المتعلقة بها فإن العمل الاجتهادي لم يعد ممكنا أن يكون عملا فرديا يقوم به الفرد العالم بالدين علما واسعا و معمقا، و لا يمكن أن يكون إلا عملا جماعيا و عمل مؤسسات متعددة الاختصاصات. و عمل الاجتهاد في الإسلام لم يعد يكفي أن يكون عملا عفويا، بقدر ما أصبح من الضروري اليوم أن يكون عملا واعيا و مخططا، يخضع إلى برامج معقلنة، حتى يكون مواكبا للتطور و موفرا الحلول لما يستجد من مسائل بدون تأخير في الزمن.
و نخلص مما سبق ذكره إلى أن الأمة الإسلامية هي اليوم في أوكد الحاجة إلى العملية الاجتهادية و إلى التجديد في الدين و المواظبة على ذلك، بغاية تأهيل الإسلام للعناية أكثر بحياة المسلمين و توجيهها في الاتجاه الأمثل، اتجاه المراد الإلهي.
و المؤهل للاجتهاد ليست الحركة الإسلامية التنظيمية المستحدثة، و لا هو زيد أو عمر من علماء الإسلام، كشخص بمفرده، و إنما المعني بعملية الاجتهاد و التجديد في الدين هو عموم الأمة و عموم علمائها و عموم مؤسساتها المختصة في هذا المجال، و ليست الحركة الإسلامية بمفهومها التنظيمي و السياسي الضيق، فهذه الأخيرة هي أبعد ما تكون عن المستوى العلمي بمفهومه الواسع، الذي يسمح لأعضائها بالاجتهاد في الدين. فهي منصرفة في معظم وقتها للنضال الدعوي و التربوي و السياسي الميداني اليومي، الذي يحرم أعضاءها من العناية بالكسب العلمي و المعرفي الفكري المعمق، الذي يكسبهم الخبرة و الاقتدار و يمكنهم من العمل الاجتهادي في الدين.
و قد غدا المفكرون و العلماء الشرعيون و العلماء عموما لا يستطيعون الحياة داخل هذه التنظيمات التي تقيد لهم عقولهم و تسجنها لهم في سجن التنظيم، سجن الفكر الأحادي و أوامر القيادة و التنظيم. فالتنظيمات تضيق ضرعا بالعلماء و المفكرين و بكثرة المستجدات العلمية و الفكرية لديهم، و هم لا يتحملون ضيقها و أحادية الفكر فيها، و ضرورة التزام العقل بخط الحركة و تنظيمها و انضباطه له. و هذا التصرف من شأنه أن يجمد العقول و يعقمها و يجعل منها أرضا قاحلة بالكلية، لا تنبت و لا تثمر.
فالحركة الإسلامية التنظيمية هي من هذا الجانب مثبطة لنهضة العقل و دينامكيته و عطائه، و بالتالي هي معرقلة لعملية النهضة أصلا، و أولى بها أن تتحول إلى حزب سياسي عادي، ذي برنامج عام، مثل بقية الأحزاب، من خصوصياته الدفاع عن القيم العظيمة للإسلام و عن ثقافته و عن تطبيق كل ذلك في المجتمع، دون التورط في رفع شعار تطبيق الشريعة. ذلك لأن تطبيق الشريعة لا يحصل بالاسقاط من فوق من أية جهة كانت، و إنما يجب أن ينبع من إرادة الجماهير و رغباتهم، أو لا يكون. فالشعوب اليوم أصبحت ترفض الحلول المسقطة، كما أصبحت ترفض أن يختار الغير لها و تأبى إلا أن تختار لنفسها.
أما الحل الثاني الذي يبقى أمام الحركة الإسلامية التنظيمية هو أن تذوب من جديد في المجتمع، و في مؤسساته و جمعياته و مساجده و نواديه، أي أن تذوب في الحركة الإسلامية الواسعة ليعود الأمر في المجتمع إلى وضعه العادي و الطبيعي، الذي عاشه طيلة التاريخ الإسلامي، و تترك مجتمعها يتفاعل مع دينه و يعمق تعامله معه كجسم متكامل مترابط الأعضاء.
إن فكرة النجاة بالنفس المتمثلة في فكرة الفرقة الناجية المتمثلة في الحركة التنظيمية، و انعزال المجتمع، لا أحسب أنها من الإسلام في شيء. فلا بد من نبذ هذه الفكرة، و العمل على دفع كل المجتمع ليتصالح أكثر مع دينه و يتفاعل معه أكثر و يعي مقاصده الكبرى و أوامره و نواهيه، و يتجنب شق صفوفه بالإكثار من إنشاء الجماعات و الفرق فيه، و التفريق بين أفراده و التمييز بين الإسلامي منهم و غير الإسلامي، بينما نرى الله تعالى، أي الشارع، ميز بين المسلم و غير المسلم و بين المؤمن و غير المؤمن، و لم يميز بين المسلمين، الذين هم عامة أفراد المجتمع المسلم، و بين الإسلاميين الذين لم يسبق للمجتمعات الإسلامية عبر كل تاريخها أن عرفت هذا المصطلح.

2- ما هو القاسم المشترك بين مختلف القراءات للإسلام ؟
قراءات الإسلام متعددة و متطورة عبر الزمن، و ذلك أمر تفرضه سنة التطور و ضرورة استجابة الإسلام لمستجدات و خصوصيات الزمان و المكان، و لعل ما عرف من تعدد و من تطور في القراءات هو دون الحاجة بكثير، أي أن عملية الاجتهاد و التجديد كانت متأخرة عما كان يجب أن تكون عليه، وهو ما يفسر ما عرفه المسلمون من أحقاب زمنية طويلة من التخلف و الانحطاط، و التخلص من ذلك يقتضي التأكيد على تنشيط العقل و دفعه بقوة إلى العناية و الإسراع بمسألة الاجتهاد و التجديد.
و القاسم المشترك و القار بين مختلف القراءات السابقة و حتى القراءات اللاحقة للإسلام يتمثل في مسائل العقيدة و ما يتعلق بها من قضايا تعبدية و تربوية. و هذا مؤشر على أن ذلك الجانب هو الأصل و الأهم في الإسلام. فالأصل في الديانات السماوية، و على رأسها الإسلام، هو ربط العلاقة و تمتينها و توثيقها بين الإنسان و خالقه، و تعبيد المخلوقات إلى الخالق. فمتى قامت تلك العلاقة و توطدت، و أسلم الإنسان وجهه إلى الله و اجتهد و أخلص في عبادته، صلح أمر الإنسان كفرد و كمجموعة، في الدنيا و في الآخرة. و إذا ما اهتزت تلك العلاقة و تنكر الإنسان للتوجه إلى خالقه و إلى الاجتهاد و الإخلاص في عبادته، فلا فائدة كبرى عندها ترتجى من الإنسان و من بقية أعماله.
و نحن نعجب كثيرا من حركات إسلامية تنظيمية عديدة، تهمل هذا الجانب و لا يعطي أعضاؤها أحسن الأمثلة عليه، بينما نراها تتهافت على الانشغال بالسياسة باسم الإسلام و قيمه، بل و لا تتردد في رفع شعار تطبيق الشريعة، بينما حال أعضائها و حال المتعاطفين معها، لا يمت إلى شعاراتها التي ترفعها بصلة، لا من جهة الجانب العلمي المعرفي الشرعي و لا من جهة جانب احترام القيم و تعظيمها، و لا من جهة الجانب التربوي و الخلقي و الخشية من الله التي تحصن صاحبها و تعصمه من الزلل.
إن تحول المعمورة إلى قرية صغيرة، لا يفصل شعوبها و أممها حدود و لا حواجز، حيث اختلطت كل الثقافات و القيم و المعايير، قد أوجب على كل الشعوب و الأمم، كل من جهته، ضرورة التحصين العقدي و التربوي و الثقافي. فالانفتاح على الآخر أصبح مفروضا، لا مفر منه، و لا يمكن تجنب عواقبه الوخيمة على الذات إلا بتجذير مقومات الذات و تحصينها و تعميق صلة المسلمين بخالقهم و تعميق أصول العقيدة الإسلامية و الآداب الإسلامية في نفوسهم. ففي عالم العولمة إما أن تكون محصنا و مؤثرا في الغير و إما تكون متأثرا بغيرك و مغزوا ثقافيا و قيميا من طرفه.
و نعتبر أن الجانب القار في مختلف قراءات الإسلام،أيالجانب العقديو التعبدي، هو الأساس و الغاية في الإسلام، و العناية به و تثبيته و تعميقه في النفوس يحتل موقع الأولوية، وهو مطلب أشد إلحاحا من مطلب تطبيق المتغير من الإسلام، مثل تطبيق الشريعة، أي الحكم بقوانين الإسلام، تلك القوانين التي لم تتبلور بعد بالقدر الكافي طبقا لمتطلبات هذا العصر المتغيرة بسرعة رهيبة. و هب أن هذه القوانين متبلورة بقدر كافي فإن أساس تطبيقها الصحيح و ضمانة النجاح فيه هو سلامة النسيج البشري للمسئولين على تطبيقها و كذلك للذين ستطبق عليهم، أي في النهاية سلامة النسيج البشري السائد في المجتمع. فالرسول صلى الله عليه و سلم لم يقم الدولة المسلمة إلا بعد أن بنا الفرد المسلم، أي أنه بعد أن وضع الأسس المتينة أقام عليها البناء. أما نحن في هذا الزمان فنحن نريد إقامة البناء بدون أسس، و هذا لا يستقيم. و لست أدري أية فائدة ترتجى من تطبيق الشريعة في مجتمع، لم تستقم بعد علاقة أفراده بخالقهم، و هل سيكون ممكنا ذلك التطبيق للشريعة أم لا؟

كل ما يقوم على الإكراه لا يثمر و لا يعمر
لقد سئمت كل شعوب المعمورة من الطغيان و الحكم الجبري، و أصبحت منذ زمان تتوق إلى الحرية عموما، و إلى حرية تقرير المصير على وجه الخصوص. فالشعوب في كل مكان أصبحت تمقت الحكام المفروضين عليها، و ترفض أن يختار الغير لها أي شيء، وهي تريد أن تختار لنفسها بنفسها، حكامها و ممثليها في البرلمانات، و تجيز الأحزاب السياسية التي تريد، و تحجب ثقتها عن تلك الأحزاب التي لا تريد، و تحدد لنفسها توجهاتها الكبرى في الحياة و خياراتها.
فالشعوب سئمت أن تعيش مسحوقة و أصبحت تتطلع لتعيش سيدة عزيزة، صاحبة الأمر و النهي، طليقة، تختار لنفسها ما تراه صالحا لها. وهي لم تعد تتحمل الجبر في شيء، لا في أمور الدين و العقيدة تأسيا بقول الله تعالى: “لا إكراه في الدين” و لا في أمور الدنيا و ما يتعلق بها من خيارات. فالشعب يرفض أن يقاد غصبا إلى أي شيء حتى و لو كانت الجنة ذاتها، فهو يرفض أن يقاد إلى الدولة الإسلامية التي تحكم بالبرامج الإسلامية و تطبق فيها الشريعة، لكنه بإمكانه أن يتطور نحوها بنفسه عبر الزمن حتى تصبح من مطالبه النابعة منه، الملبية لرغباته وآماله.
إذن فبرنامج الدولة الإسلامية لا يمكن أن يكون برنامج حركة تنظيمية بقدر ما يجب أن يكون مطلبا شعبيا قاعديا واسعا للغاية، قد ارتقى إليه وعي الشعب و تعلقت به آماله، و صمم الشعب في عمومه على تحقيقه.
و من أجل أن يحصل ذلك أو عكسه فالمجتمع يحتاج إلى المزيد من التعلم و تنوير العقل و تقوية ملكة النقد لديه, كما يحتاج أيضا إلى تعميق و توسيع الحوار السلمي بين أفراده و إذكاء سنة التدافع بينهم. فمتى ستعي الحركات التنظيمية الإسلامية ذلك، و تخرج من عزلتها لتذوب في المجتمع من جديد و تضيف طاقاتها إلى بقية طاقات المجتمع، مفوضة الأمر له ليختار في النهاية لنفسه ما يريد.

شق صفوف المجتمع و التمييز بين أفراده يعيق نموه المتوازن و الجماعي المتجانس
لا أزال أعتقد أن فكرة الفرقة المتميزة، بل و الناجية، من دون بقية الناس في المجتمع، هي فكرة خاطئة، تضر بالمجتمع أكثر مما تنفعه و ذلك مهما كان المقصد من وراءها حسنا. فالله تعالى خاطب المسلمين آمرا لهم فقال سبحانه: “و أفيضوا من حيث أفاض الناس”، ناهيا عن التميز و الاختلاف بين أفراد المجتمع، مانعا بذلك لما يجلبه التميز من ضرر كبير على المجتمع و من فتن بين أفراده. و الحركات التنظيمية هي نوع من الفرق تقوم بالأساس على فكرة التمييز بين أعضاءها و بقية أفراد المجتمع، وهي نوع من أنواع التزكية الجماعية التي لا ينهض للدفاع عنها دليل نقلي و لا عقلي، فالازدواجية التي أوجدتها، “الإسلامي و غير الإسلامي”، هي ازدواجية بغيضة غير محمودة، قد فرقت بين أفراد المجتمع و أضرت بهم، أكثر مما جمعت بينهم و قوت لحمة الروابط بينهم.
زد على ذلك أن أعضاء الحركة الإسلامية التنظيمية، و إن كانوا في غالبهم معافين من إتيان الكبائر و المنكرات، فهم مع ذلك ليسوا بالضرورة دائما هم أكثر الناس استقامة و تقوى و خشية من الله، في المجتمع. فهناك الكثير من أفراد المجتمع العاديين ممن يفوقون أبناء الحركات الإسلامية التنظيمية على جميع المستويات، الخلقية و التربوية و الفكرية. و المجتمعات بطبيعتها هي دائما في حاجة لما يقرب بين أفرادها و يقوي روابط اللحمة و الوحدة بينهم، و ليست هي في حاجة لما يفرق بينهم و يجعل بينهم فرقا و شيعا، خاصة في أمور الدين و العقيدة.
إن مسألة التصالح مع الإسلام و التفقه و الاجتهاد و التجديد فيه، ليست من خصوصيات فرقة من المجتمع بمفردها، و إنما هي من خصوصيات كل المجتمع، بل كل المجتمعات المسلمة المكونة للأمة مجتمعة. فكما كان الانحطاط توجه انحدرت بمقتضاه كل الأمة في الانحطاط، دون أن يستثنى مجتمع أو فرقة في مجتمع، كذلك فالنهضة هي الأخرى حركية ذهنية بالدرجة الأولى تتفشى تدريجيا بين صفوف كل الأفراد المكونين لكل المجتمعات المكونة للأمة. فالنهضة إما أن تكون جماعية أو لا تكون، و إما أن تشمل كل أرجاء المجتمعات الإسلامية أو لا تكون. و فكرة الفرقة الناجية التي ستكون بمثابة قارب النجاة لمجتمع بأسره هي فكرة خاطئة، لا تقود إلا إلى الانغلاق و التحجر و الجمود و الفرقة. بينما انفتاح كل مكونات المجتمع على بعضها، ثم انفتاح كل المجتمعات المكونة للأمة على بعضها، من شأنه أن يثري الخبرات، و يسرع في عملية التوعية الجماعية و يزيد من سرعة وتيرة النهضة التي انطلقت بعد في كيان كل مجتمع ككل، و في كيان الأمة مجتمعة.

فكرة الفرقة أو الجماعة التنظيمية هي فكرة معرقلة للنهضة
إن المتأمل في التاريخ الإسلامي يجد أن العصر الذهبي الذي عاشته الأمة هو ذلك العصر الذي كانت فيه الأمة نسيجا متجانسا خاليا من الشيع و الفرق، و عندما غزت الفرق الأمة و شاعت فيها عقليتها، لم تجد الأمة من بد إلا أن أخذت طريقها إلى منحدر الانحطاط. و لا يمكن أبدا التخلص من الداء بالداء ذاته. فإذا كان تعدد الفرق و شيوعها في الأمة هو سبب الانحطاط، فلا يمكن أن تكون عودة تتعدد الفرق في المجتمع و في الأمة جمعاء، مهما كان حسن المقصد من ورائه، هي السبيل القويم للخروج من الانحطاط. و التساؤل يبقى قائما، لماذا كان انتشار الفرق في المجتمع و الأمة هو سبب الانحطاط، ثم هو عائق أمام تحقيق النهضة ؟
لقد رأينا في ما سبق أن رأس قاطرة النهضة و الحداثة هو يقظة العقل و العقل النقدي على وجه الخصوص. فالاجتهاد في الدين و التجديد فيه و حركة الإبداع و اتباع منهجية الشك، كلها من بنات العقل. فإذا كان غياب العقل هو سبب الانحطاط و أهم ميزاته، فيقظة العقل و انتعاشته و ازدهار سلطانه هو من أهم ميزات الحداثة و النهضة. لكن ما علاقة ذلك بالفرق ؟
الفرق في عمومها مناهضة ليقظة العقل و لتحكيمه على نطاق واسع و جماعي في ما يعترضها من قضايا، حتى تلك الفرق التي قامت على أساس من العقل، مثل فرقة المعتزلة أو فرقة إخوان الصفاء، لم تنج من تلك اللوثة الخطيرة.
و الفرق الإسلامية الحديثة، أو الحركات الإسلامية بالمفهوم التنظيمي، هي الأخرى، بصفتها نوع من الفرق، لم تشذ عن تلك القاعدة. ففي داخل الفرق غالبا ما يؤول الأمر إلى تبني رأي الشيخ أو الأمير أو القائد أو جهاز التنظيم الذي تقوم عليه. فغالبا ما يكون أعضاء الفرقة أو الجماعة مطالبين بتطبيق رأي القيادة و قرارها و الانضباط له و الدفاع عنه، و لا يسمح بنقده و لا بتقديم رأي مخالف له. فالرأي السائد في الفرق و الجماعات، غالبا ما يكون الرأي الأحادي، رأي القيادة و جهاز التنظيم، و ليست الآراء المتعددة و المتقابلة، و العقلية السائدة هي عقلية الاتباع و القبول بالواقع السائد داخل تلك الفرق و الحركات، و ليست عقلية الشك و النقد و الإبداع.
أما الحوار وإعادة النظر في القرارات و الأفكار المتبعة فهي عملية شاذة نادرة الحصول بين صفوف الحركات الإسلامية التنظيمية. و هذا الأسلوب في التعامل، من شأنه أن يجمد العقل و يعقمه، وهو ما يفسر غياب المفكرين و المبدعين داخل التنظيمات عموما، إسلامية كانت أم غير إسلامية، لأنها تضيق ذرعا بالعقل و خاصة بالعقل النقدي، و تضيق ذرعا بالرأي المخالف و بغزارة الأفكار و تنوعها.
و على هذا المستوى تكون الحركات التنظيمية الماسكة برقاب الخلق، و الآمرة الناهية لهم، و المقننة لنشاط عقولهم، إن أبقت لعقولهم نشاط،، تكون كارثة ما بعدها كارثة على ملكة العقل و غزارة قدراته و عطائه. و هكذا فإن الحركات الإسلامية التنظيمية، رغم أن مبرر قيامها هو مبرر نهضوي تجديدي، فإنها لا تستطيع أن تذهب في مبررها ذاك إلى منتهاه بسبب ما تعاني منه من عوائق قاتلة، من أخطرها قصورها على استنهاض العقل عموما، و العقل النقدي على وجه الخصوص. و لهذا السبب بالذات تبقى الحركة الإسلامية التنظيمية بشكلها الحالي، عاجزة على تحقيق نهضة شعوبها، و نهضة الأمة بشكل عام، حتى و لو وصلت إلى الحكم و لقيت فيه بعض الوقت، فإنها سوف لن تجني في الأخير إلا الفشل الذريع.

مقولة في المنهجية المثلى لإنجاز عملية الاجتهاد
بعض المثقفين المسلمين بالانتساب و المشاعر العامة، في بلادنا كما في غيرها من البلدان الإسلامية، يؤكدون باستمرار على ضرورة الاجتهاد بغاية جعل الإسلام مواكبا للعصر. إلا أنهم، و إذا افترضنا فيهم حسن النية، ليس لهم من العلم بالإسلام ما يؤهلهم للخوض في هذه المسألة العويصة، بل للبت فيها. و العملية الاجتهادية بالنسبة لهؤلاء هي في منتهى البساطة و السهولة. فهم يعتبرون أن الأصل في الشيء، و جوهر الحقيقة، يتمثل في ما هو سائد عند الناس من أفكار و أنماط حياة و معاملات، و في المجتمعات الغربية على وجه الخصوص، و عملية الاجتهاد بالنسبة إليهم تتمثل في استصدار فتاوى تحرم أشياء كانت من قبل حلالا و فتاوى أخرى تحل أشياء أخرى كانت من قبل حراما، و إضافة أشياء جديدة و حذف أشياء قديمة، حتى تنتفي القيود و الكوابح و يصبح “الإسلام” مطابقا، كما ذكرنا، لما هو موجود لدى المجتمعات المتفوقة. و من المؤكد أن هذا النمط في الاجتهاد المزعوم لا يمت بصلة إلى الاجتهاد و لا إلى الإسلام مطلقا. و هذه المنهجية ليست شيئا آخر سوى عملية عبثية و مقولة أناس جهلة بالإسلام، سواء حسنت لديهم النية، و هم الأغلبية، أو فسدت نواياهم، و هم الأقلية من أهل اليسار المتطرف، الذين لا يؤمنون بالإسلام إلا مراءا.
في المقابل، لا أعتبر أن منهجية الاجتهاد و تدبر الأحكام الفقهية القديمة، القائمة على علم الأصول، لا تزال ناجعة، و ذلك لتعقدها و ثقلها و بطء آلياتها، و عدم تمشيها مع سرعة التطور في طبيعة حياة البشر و متطلباتها المتجددة بشكل مهول. و في المقابل أرى من الأنسب الاعتماد في العملية الاجتهادية على علم المقاصد المستمدة مباشرة من أصل الوحي، تقع مقارنته بعلم وضعي للمقاصد، يستمد من الأصول و الفلسفات التي تقوم عليها النظم الوضعية الراهنة. ذلك لأن هذه الأخيرة و إن لم تكن لها علاقة بالوحي، إلا أنها تبقى من نتاج العقل البشري الذي و لئن بقي قاصرا على إدراك و بلوغ الحقيقة المطلقة، إلا أنه غالبا ما يبقى قريبا من الحقائق النسبية، غير متناقض معها. خاصة و أن نتاج العقل البشري هو غالبا ما يعيننا على فهم الوحي الذي لم ينزل من الله إلا لهداية البشر في اتجاه الحقيقة و ينير سبيله إليها. و الله الذي نزل الوحي للبشر ليهتدي به في حياته و يتجنب به الزيغ عن الحق، إنما أنزله ليفهم و يستوعب من طرف الخلق بواسطة العقل.
و على هذا الأساس يصبح تدبر الأحكام أيسر و أسرع من ذي قبل. فكل حكم أو قانون يوضع، يكون مستجيبا لمقاصد الشريعة يكون حكما شرعيا حلالا, و في المقابل، كل حكم أو قانون يوضع، يكون متناقضا مع مقصد من مقاصد الشريعة أو أكثر من ذلك، يكون حكما حراما غير شرعي.
يضاف إلى ذلك، أن العملية الاجتهادية التجديدية، سواء كانت على مستوى تدبر المقاصد العامة و مواصلة البحث فيها و تنضيجها باستمرار، أو على مستوى استخراج الأحكام على أساسها، لم تعد ممكنة على مستوى الفرد كفرد مهما كانت درجة علمه، و أصبح من الضروري أن تقوم عليها مؤسسات، تقوم على العديد من العلماء من ذوي الاختصاص المتجانسة، و كذلك من ذوي الاختصاصات المتنوعة. كذلك العمل الاجتهادي لم يعد يكفيه أن يقوم على العلماء المختصين في المادة الإسلامية فحسب، و إنما أصبح في حاجة ماسة ليقوم على اختصاصات متعددة، مثل المختصين في الاقتصاد و في علم الاجتماع و في الطب و في القانون بكل فروعه، و غير ذلك من الاختصاصات. ذلك لأن متطلبات الحياة تعقدت كثيرا، و أصبح كل جانب منها يقوم على اختصاصات معقدة و معمقة، لا يفقهها إلا أهلها. 

http://nawaat.org/portail/2005/02/11/principal-reform-islamic-discourse/

الثلاثاء، 19 يونيو 2012

اشكالية الانحطاط والرّقي في فكر الطّاهر الحدّاد _ عميرة عليّة الصغيّر.


أكثر من  80  سنة مرّت على ما كتبه الحدّاد و لازلنا في الزمن ذاته و في الاشكالية ذاتها .
(مقال اعدت نشره بجريدة "المغرب ")

اشكالية الانحطاط والرّقي في فكر الطّاهر الحدّاد
عميرة عليّه الصغيّر- مؤرخ جامعي


"لو هاجمنا عيوبنا كما نهاجم حكّامنا لنلنا من الحياة
 أمانينا إذ هم ما قدروا ولا يقدرون على حكمنا إلاّبها"
الطّاهر الحدّاد، الخاطرة  53، خواطر، ص 83.

تشغل قضيّة النّهضة الفكر الإصلاحي العربي منذ أكثر من قرنين ولا زالت سبل الخروج من التخلّف (أو الانحطاط في تعبير السّابقين) قضيّة ملحّة تتضارب حولها التيّارات الفكريّة والسياسيّة في العالم العربي وخارجه حسب مصالح القوى الاجتماعيّة التي تسندها. وتثبت الأحداث أنّ فكر الحدّاد رغم مرور أكثر من ستّين سنة على وفاة هذا المصلح لا زال فاعلا بما أنّ الواقع في جوهره رغم انهيار الاستعمار المباشر لم يتغيّر جذريّا و لازالت مظاهر التخلّف والتّبعيّة والاستبداد سمات المجتمعات العربيّة.
وتهدف هذه الدّراسة للوقوف عند تشخيص الحدّاد لما يعتبره "انحطاطا" في وطنه  وكيفيّة تفسيره لذلك الواقع والبحث عن تصوّر هذا المصلح للنّهضة أو الرّقي من حيث الغايات ووسائل تحقيقها وذلك اعتمادا على الأثر المكتوب لهذه الشخصيّة.

I- الانحطاط في رؤية الحدّاد: الواقع والأسباب .

إن وعي الحدّاد بتأخّر وطنه وتألّمه لحاله نجدهما حاضرين في كلّ كتاباته النّثريّة والشّعريّة حيث تتكاثر المرادفات لتوصيف واقع تونس في الثّلث الأوّل من هذا القرن فهي حسب تشخيصه في حالة "احتضار" و "انحطاط" و "هوان" و"سقوط" و "في تأخّر" و "في ظلام" ... حيث "بات أهلها أمّة من أحقر الملل"[1].
وبعكس ما يعتقده جلّ الوطنيّين في عصره  يرى الحدّاد  أنّ هذا التّدهور لم يبدأ مع استعمار البلاد بل كان سابقا له وهو الذي مكّن بالذّات الاستعمار من فرض سيادته على البلاد فهو يقول: "إنّ هذه الحالة بجملتها هي التي ولّدت لنا جسما مريضا هو المجتمع التونسي الذي استطاع الاستعمار الفرنسي أن يخترقه بسهولة فيفرض عليه من الفروض ما شاء ويصدر عليه من قوانينه ما أراد"[2].


ويجزم الحدّاد أنّ "واقع التّدلّي" (والعبارة له) هذا شمل كل المستويات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسيّاسيّة والثقافيّة.
إنّ التدهور والانحطاط الاقتصادي يراه الحدّاد في ضعف الانتاج وتذبذبه وعدم قدرة الرأسمال المحلّي على منافسة الرأسمال الغازي إن كان في الصناعات أو التجارة أو الزّراعة التي تقوم كلّها على رأسمال ضعيف وفردي ووسائل عمل  عتيقة وأساليب تنظيم وادارة لا تتماشى مع متطلّبات المنافسة الرأسماليّة وروح العصر[3].
ويحظى الجانب الاجتماعي باهتمام أكبر لدى الحدّاد وهو المقّف العضوي ذو الميول الاشتراكيّة فكلّ كتاباته تشهّر بالواقع البائس للشعب الذي أصبحت حياته "أشبه بحياة الحيوان المسخّر" [4] سمتها البؤس العام من فقر واستغلال وجوع ومرض وبطالة ونزوح وتشرّد وسجون...[5] ويتجسّد انحطاط المجتمع في نظر الحدّاد في ما آلت إليه العائلة التونسية من تفكّك وبِؤس مادي وأخلاقي: سوء التغذية، انتشار الأمراض والأوبئة، انعدام النّظافة وشروط الصّحّة، انحلال العلاقات داخل الأسرة وتحكّم  العنف وشراسة الخلق في الحياة الزّوجيّة وخاصة ما كانت عليه المرأة التونسيّة من استعباد ومهانة[6] ويجد الحدّاد تخلّف مجتمعه  أيضا في تلك العلاقات التراتبيّة  التي لا زالت تحكم شرائحه وغطرسة الأكابر والأعيان في المدن والأرياف على من دونهم من الفئات الشعبيّة[7].
أمّا الانحطاط السّياسي للبلاد فيتجلّى حسب الحدّاد في الاستعمار وفقدان الوطن سيادته واستبداد حكّامه به إن كانوا فرنسيّين من المقيم العام إلى المراقب المدني[8] أو من المتعاونين مع الاستعمار التونسيّين من الباي إلى وزارئه وقيّاده[9] حتى أنّ التونسيّين وصلوا في رأي هذا المصلح إلى "درجة هم فيها أشقى أمّة مغلوبة على وجه المعمور اللّهمّ إلاّ بعض قبائل مبعثرة في صحراء افريقيا  و ما شاكلها"[10].
ويشنّ الحدّاد انتقادا أشمل للثقافة السّائدة في عصره في مفهومها الواسع والضيّق وإن كانت الثقافة العالمة أو الثقافة الشعبيّة أو ثقافة النّخبة وثقافة العامّة، سماتها الرّئيسيّة الجمود والمحافظة وعبادة الماضي وقتل العقل ومحاربة أفكار التّنوير والتّجديد والشواهد من فكر الحدّاد في هذا الموضوع كثيرة خاصة في أشعاره وخواطره[11]  ونورد هنا نماذج منها إذ يقول في قصيد "ظلّ الموت"
"ونسطو علـى العقـل نسقيـه سمّـا          لتسقـط أشلاؤنـا في الرّغـام"[12]
ويندّد بتزمّت شيوخ عصره قائلا:
"وهــذا الجمــود لديهــم فخــار          يعـد لـه النّشء منذ الفطــام" [13]

ويشّهر الحدّاد في مواقع عديدة  بعقم التّعليم المتّبع في المؤسسات الأهليّة وخاصّة بجامع الزّيتونة من برامج ينعتها  بالقصور لخلوّها من العلوم الصّحيحة وكطرق تدريس التي تعتمد على التّلقين وإجهاد الحافظة حيث تقتل العقل وملكة البحث والتّجديد[14] ويثور الحدّاد على عبادة الماضي وتقديس الأسلاف عند الخاصّة والعامّة. "نحن نتّجه بأعمالنا إلى المجهول لا لنعرفه ولكن لنعبد فيه جهلنا المقدس فنجد  ماضينا الجميل كما يجد الانسان معبوده لأننا لم نفهم حوادثه كما وقعت وذلك  ما يزيده تغلغلا  فينا واستعبادا لحياتنا" [15].
لا يستثنى الحدّاد في حملته على ثقافة البؤس والتخلّف الثقافة الشعبيّة كتصوّرات واعتقادات وسلوكيات واخلاقيات لم يزدها البؤس الاجتماعي والأميّة إلاّ رسوخا فهو يندّد بالتربية العائليّة التي تغرس في النشء الأوهام والخرافات والجبن الجتماعي والسّياسي حيث "لا تدع معها مجالا لحركة العقل والفكر ] ....[ فينشأ الابناء على جهل وحمق وتعصّب لما لقنوا منذ الصّغر"[16]. كما يرى انحطاط المجتمع في انتشار الثقافة الغيبيّة، ثقافة الطّرق والتصوّف والخنوع للأقدار. يقول في قصيد   "العلوم ":

"جهالتنا يـــا قوم أحنت رؤوسنـا       وخيّبت العقبى وصبّت مصـائبــــا
سكنّا لعيـش الغبن طول حيـاتنــا       عـلى أن نلقى في الممات الرّغـائـب
وعهـدتنـا في ذلك طبــل وقبـّـــة       نؤمّـل منهــا أن تصــدّ النّـوائـبـــا
ونحـيي بها في كـلّ عـام مــواسما       وفي كـل أسبـوع نقيــم مـلاعبــــا
واذ مـــا نصب في لهونا بملمـــّـة        نقل كان ذا حكما من الله واجبـا
نقـابلــه بالصّبر أجمــل صبرنــــا        وتسليمنــا كيمــا يجيــد مجـانبـــا "[17]

ورغم اعتبار الحدّاد الشعب في مرتبة الضحيّة وهو مدعاة للشفقة والأخذ باليد فهو لم يتوان على وصفه بالجبن والخوف والسّذاجة والعجز والاستسلام...[18]. وكلّها صفات أخلاقية ونفسانيّة للإنسان المقهور والمستعبد.

لكن أين تكمن أسباب هذا الانحطاط الشامل؟



جواب الحدّاد واضح : العلّة فينا
لا نجد في كتابات الحدّاد  بحثا عن أعذار لخيبة مجتمعه وسقوط وطنه في الاستعمار- رغم تحميله جانبا من المسؤوليّة- ولا لجوء للأقدار يحمّلها مسؤوليّة الواقع فمقاربته تقوم على استقراء الموجود ومنهجيّة  "التّحليل الملموس للواقع الملموس" (حسب عبارة لينين) وهذا  ما يتميّز به عن جلّ الاصلاحيّين الذين ينتمون إلى حقل الانتماء الاسلامي فهو أقرب إلى التّحليل الماركسي في محاولاته وخاصة التّيار الإرادوي منه المركّز على دور الإنسان في صنع التّاريخ ودور البنى الفوقيّة وخاصة العنصر الثقافي والنفسي في تشكيل الواقع التاريخي في اتّجاه التّثبيت أو التّحريك[19] .
يضع الحدّاد مسؤولية "التدلّي"  الذي عليه البلاد في الأوّل وبالذّات على النّخب في المجتمع ان كانت تقليديّة أو حديثة. فالنّخبة التّقليديّة من رجال الدّين من مشائخ الزيتونة والطّرق والأشراف والقضاة والمفتين والعدول وكبار الموظّفين وكلّ أصحاب الجاه والنفوذ والسّلطة يحمّلها الحدّاد مسؤولية تخلّف المجتمع لأنّها تعيش على حسابه وخاصة تتحالف مع المستعمر في استعباده يقول الحدّاد عن هؤلاء  "الكبراء" "كان كلّ هؤلاء عين السّلطة وعمادها في مدّ سلطانها على البلاد فكانت أخلاق الترفّع عن الصّناعات والأنفة من الاختلاط بسواد الأمّة مناسبة لهم إذ ذاك أما بعد الاحتلال فقد تحوّل ذلك السّلطان الملوكي الذي كان لهم إلى أيدي الفرنسيّين فأمسوا  آلة له من لم يرض أو لم ترض به حكومة الاحتلال فله في زاوية بيته أحسن مقام"[20]. وهو ينزع عنهم أي غيرة على الوطن وينعتهم بالانتهازيّة والتكسّب والجري وراء الرّواتب والمناصب لا همّ لهم إلاّ العيش الهادئ فهو يشهّر بهم في قصيد "ضحايا الماضي" :

"إنّ ساداتنا أضاعوا تراثا             إنّهــم مثلنا كسالي حيارى
سيموتـون مثلنا في لـضى الجـــــــوع سكـارى وما هم بسكارى
فلدينا هم حارسو مجدنا الضّخــــــم وعند الدّخيل ذابوا صغـارا
ولدينا عاشوا ضخاما كبارا          وأمام القوى كانوا صغـارا
في الجرايات همّهم ومناهم           ونـراهـم لخيرنــا أنصــارا" [21]

لكن نقمة الحدّاد تتوجّه أكثر لتلك الفئة من الشيوخ ورجال الدّين في التّعليم والقضاء أو في رئاسة الطّرق الدينيّة والتي ينعتها رفيق الحدّاد أحمد الدّرعي"بالاكليروس الإسلامي" [22] فهي حليفة الاستعمار وتتمعّش من خدمتها له وتستغلّ سذاجة  العامّة وجهلها لتقف ضد كلّ اصلاح وتجديد وهي سادنة القديم ومكرّسة الجمود في التعليم والقضاء والحياة العامة وقد نصّبت نفسها حارسة للمقدّسات وللماضي ومنحت ذاتها وحدها حقّ تفسير الدّين والقيادة الرّوحيّة للمجتمع [23].فالمحافظون يشدّون المجتمع إلى الوراء ويجهضون فيه كل خمائر التّجديد والرّقي. ويزخر ديوان الحدّاد بالقصائد التي تفضح دور تلك الفئة من المجتمع نذكر منها هذه الأبيات من قصيد  "الخيبة":


"رأوا باسم دين المصطفى أن يتاجـروا          فخافوا على الاسـلام أن يتناثــــــرا
وقـد أشهـروا الإلحاد في كلّ حـــدث          كأنّ الذي قالوا نـمـا وتكــاثـــــرا
وأنّهم أبطال دين تألّبوا على دوســــه           كـــي يـــودعـــوه المـقـــابــــــرا
فهذا كفور ملحـد حسبمـا اشتهــــوا           وذلك للاسلام يرصــد ماكـــــرا
وعندهــم التجـديــــد كفــر محـقـّــق           ورأي سفور البنت أيضا بلا مــرا
               ] ...[
ومــالـهــم مــن ديــــن أحمــــد ذرّة           ولكنّهـــم يبغـــون منـه مغـــاورا[24]

لكن حظّ النخبة الحديثة من نقد الحدّاد ليس أقلّ فإذا كانت النّخبة التقليدية "حارسة للانحطاط" فإن النخبة العصرية  قد "تخلّت عن واجبها" حسب الحدّاد حيث ينعتها بالأنانيّة الفرديّة والبحث عن هناء الحياة وعدم الاكتراث بحالة الشعب[25]والأدهى أنّ تلك النخبة التي تعلّمت عن الغرب تجاري المتزمّتين والمحافظين في تصدّيهم للفكر الإصلاحي والمجدّدين والحدّاد كان أحد ضحاياهم خاصة بعد نشر كتابه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" سنة 1930. ويقول الحدّاد في قصيد "زعماؤنا" (1932):

"هم فرقتان شيوخ الدّين في جـمــد         ونشـأة العلـم في السّربون منهمــــرا
هما اللّذان أثـارا الشـــرّ وادّعيـــــا          ان ينصرا الدّين حقّا جلّ ما ذكـــرا
لقد نصرتم جمود الشعب في وحـــل        حتى رضيتم لـــه أن يحكي الحجـــرا
فصار طوعا لأيديكم كمـــا انقلبت         وان امرتم أن يكــن بالأمر مؤتـمــرا
لا دين، لا عقل، لا اصلاح منتظـرا          إلاّ إذا كـــان منكـم نبعـه ظهــــرا
ماذا صنعتم هداة العصر في وطــــن          أهوت به رجة الأحداث فانحـــدرا" [26]
يحمّل الحدّاد إذن المثقّفين مسؤولية الانحطاط العام ويفضح ادّعاءاتهم الكاذبة في حماية الدّين وهم بذلك يكرّسون جمود الشعب وجهله كما يتبرّم  من ادّعائهم الزعامة الرّوحية للمجتمع والحق المطلق في توجيه الشعب وامتلاك الحقيقة والكلمة الأولى والأخيرة في أمور الدّين والعقل والاصلاح فهو ينفي عنهم زعم ذلك الحق بل يجرّمهم ويعتبرهم مسؤولين على بقاء الشعب في جهله  وفقره. كما أن الحدّاد يعتبر المعيار الوحيد في الحكم على صدق النّوايا نحو النّاس هو ما يفعله المرء لخدمة المجتمع فهو لا يرى المثقّف الحقيقي إلاّ ذلك "المثقّف العضوي" بالمفهوم القرامشي المضحّي بمصلحته الخاصة لفائدة المصلحة العامة والعامل فعلا من أجل خلاص هؤلاء البسطاء وتوعيتهم من أجل التحرّر الاجتماعي والوطني. في رأيه "زعماء الشعب هم الذين ينكرون حقوقهم الشخصيّة ومكاسبهم وروابطهم العائلية إذ كانت تعوقهم عن عملهم الذي خلقوا من أجله، والكاذبون هم الذين يتصلون بالشعب لتوفية هذه المصالح أو بالقدر الذي لا يعطّل من نموّها اذا عزّ الحظ وحكم القدر" [27].

أمّا الانحطاط الاقتصادي يرجعه الحدّاد علاوة على تأثير الرأسمال الاستعماري في تفكيك البنية الاقتصادية التقليديّة وتدخّل الحكومة الاستعماريّة لفائدته[28]إلى المنتجين التونسيّين أوّلا وبالذات إذ يقول "إنّني دائما أقول وأعتقد أيضا: أنّه لا مسؤولية فيما نحن فيه إلاّ أنفسنا"[29]. فهو يرى أنّ ضعف الرأسمال الوطني وقلة امكانياته في الانتاج والمنافسة يعود بالأساس إلى مسؤولية الأثرياء والملاّكين في المدن والأرياف وخاصة لجمود عقلياتهم التي تتحكّم فيها العادة والكسل وعدم إدراك أنّ منطق العصر والرأسمالية الظّافرة منبني على العقلانيّة وروح المبادرة والمغامرة فما هي عليه الآلة الانتاجيّة في تونس من ضعف هو "بسبب الكسل العام الذي منشؤه الجهل بأسباب الرزق الناجحة والخوف على المال من التّلف بالاستعمال"[30] كذلك لعقليّة التّبذير والإسراف أو الاكتناز القاتلة للإستثمار يقول الحدّاد: "ليس للمال عند أغنيائنا إلاّ أن يبذّر في اللّهو والفساد أو يحبس في الصناديق ليبقى ميراثا" [31]. فلا تبصّر ولا احتياط للجوائح  ولا استثمار محكم لرأس المال "لأنّ المنتجين التّونسيّين بصفة عموميّة يسيرون في عملهم بلا عقل" [32]. ومن عيوب العقليّة السائدة لدى أصحاب الأموال في تونس حسب الحدّاد تلك الأنانيّة والفرديّة الرّافضة للتّعاون والتشارك لبعث مؤسسات قادرة فعلا على الانتاج والمنافسة اذ يقول :"فنحن بما رسخ فينا من الأنانيّة لا يثق أحدنا إلاّ بنفسه ولا يعمل إلاّ منفردا لخير نفسه فهو يرى أنّ كلّ فرد من المجتمع يحاول أن يأخذ منه وهو بدوره يحاول أن يأخذ منهم لنفسه أيضا" [33].
هذه العقليّة السّائدة لدى الأثرياء والتي يجد فيها الحدّاد أحد الأسباب الرئيسية للتخلف ينتقدها أيضا وبحدّة لدى الفئات الشعبية اذ تتقاسم العامّة والخاصّة نفس الثقافة القاعديّة التي تقوم على التّقليد والقدريّة وتحمل سمات القرون الوسطى رغم تغيّرات محيطها. ينتقد الحدّاد في مواقع عدّة من كتاباته الثقافة الشعبية في تصوّراتها وسلوكياتها فهو يعيب في الشعب عقليّة الكسل والاتّكاليّة وعدم التبصّر والاحتياط وروح الاستسلام والقدريّة والعزوف عن الحياة وتمنّي الخلاص في الجنّة[34]. كما ينتقد فيه احتقار الذّات وسهولة الانتقاد للمخادعين من "أعداء الشعب" ان كانوا من رجال السّياسة أو رجال الدّين والمحافظين عامّة حيث تتكرّر هذه النّعوت للشعب في أشعار الحدّاد: "شعب مريض" "في ذلّ" "في هوان" "يائس"  "عاجز" "منفصل عن كلّ مجد " "كالشّاة" "منخدع" "ساذج" "في غيبوبة" "يقدّس الأخيلة"، "منهوب النفس والمال"...[35]. كما ينقم الحدّاد بصورة خاصة على عقليّة الانقياد  والتزلّف للحكّام إلى درجة العبادة[36]. هذه الثقافة السّائدة في المجتمع يعتبرها الحدّاد مظهرا من مظاهر انحطاطه وسببا له في الآن ذاته فهي المكبّلة لقوى التحرّر في المجتمع والمجهضة لعوامل التّغيير فيه وهي تخدم السّائدين في البلاد من استعمار وحلفائه من التونسيّين. يقول الحدّاد في هذا المضمار: "إن عيوبنا سوس ينخر عظامنا ولكنّها كنز مدخر عند حكامنا ينالون به ما شاؤوا منا على حسابنا ويصدموننا به كلّما تظاهرنا عليهم بحب الحياة  والحرّية"[37]. لقد كان وعي الحدّاد عميقا بدور البنى الفوقيّة في تعطيل حركة التاريخ نحو التحرّر والانعتاق الاجتماعي حيث "لعبت الثقافة التقليدية أو ثقافة التلقين بالعصا الغليضة دور التّدجين الاجتماعي والانقياد الكامل للكبار من مختلف الرّواتب"[38].
ولنا أن نتساءل في هذا المستوى من البحث عن مكانة فكر الحدّاد في موضوع رصد ظواهر التّخلّف وتحليل أسبابه في تونس من فكر معاصريه داخل البلاد التونسية أو في الشرق. في تقديرنا إن كان الحدّاد بالنسبة للتّونسيّين سبّاقا للنّقد الاجتماعي والغوص في حالة التّدهور العام للبلاد التونسية في الثّلث الأول من هذا القرن ومتميّزا بتفرّده الجريء برفع الغطاء عن عورات مجتمعه وبالتّصريح الشّجاع  بأنّ العلّة في أهله[39] فانّه لا يتميّز عمّا أتى به الفكر الإصلاحي في الشرق وخاصة الاتجاهات الحديثة في التجديد  الاسلامي حيث نلمس في فكر الحدّاد بصمات فكر الأفغاني وعبده والكواكبي وقاسم أمين وشكيب أرسلان وغيرهم كذلك تأثير رياح التغيير التي كانت تهبّ من تركيا الكماليّة[40]. لكن الحدّاد وإن أصاب في تقديرنا في التّأكيد على العوامل الداخلية لتفسير ما كانت عليه تونس من تخلّف ولم يجانب الحقيقة كذلك في إبراز دور البنية الثقافيّة والنفسيّة في تكريس ذلك الواقع المتردّي وديمومته فانّه بالغ في تضخيم هذه العوامل ومردّ ذلك في اعتقادنا إلى تكوين الحدّاد الأساسي وتشبّعه بالفكر الديني والاصلاحي الذي يعطي الأخلاق و"صلاح النّفوس" دورا مركزيا في تفسير ما يعتري المجتمعات من رقي وانحطاط. لكنّ فكره العملي ومنهجه القائم على استقراء الواقع الملموس لم يحل بينه وبين القدرة على انتاج طروحات وتفاسير أقرب إلى منهج الماديّة التاريخية من المقاربات المثاليّة وحجّة ذلك مثلا أنّنا لم نجد في كل ما كتبه الحدّد ولو إحالة واحدة لتفسير ظاهرة ما للقدرة الإلهيّة. غير أنّ ما ينقص مقاربة الحدّاد لفهم ظاهرة الانحطاط- في ظنّنا - هو ذلك البعد التاريخي. وكان من السّهل عليه أن يدرك أنّ كلّ ما شخّصه من واقع التخلّف هو في الحقيقة نتيجة لعوامل أخرى تضرب في عمق التاريخ لعلّ أهمّها غياب كل شروط تعدّي النظام الشبه الاقطاعي الذي كان يسود البلاد وعدم توفّر الشروط الأخرى -مثلما هو الشأن في الدّول المتقدّمة- لبروز الرأسمالية وتثوير المجتمع من قضاء مبكّر على علاقات الانتاج الاقطاعية وتراكم رؤوس الأموال منذ تكوين الامبراطوريات الاستعماريّة والرأسمالية الماركنتيلية مرورا بالثوارت الفكرية والعلمية والصناعية والسياسيّة التي عاشتها الدّول الغربيّة وهي حقائق بديهيّة لدارسي التاريخ. لكن هل هذه الهنّات في تفكير الحدّاد لازمت تصوّره للتقدّم وسبل الخلاص من واقع التردّي؟

II - الرّقي في فكر الحدّاد: الغايات والوسائل.

في الحقيقة لئن كان الحدّاد ينتقد واقع عصره بسخاء وفي جزئياته فإنّه في كتاباته لم يبلور بديلا نظريّا للواقع المؤمّل وهذه الملاحظة لا تخصّ الحدّاد فقط بل هي عامّة عند دعاة الاصلاح حيث تنقص المؤلّفات التّنظيريّة وخاصة في مجال الاقتصاد وتغلب على الدّعوات الاصلاحيّة والتنويريّة المواقف العامّة[41]. في مستوى المصطلح يورد الحدّاد عبارات عديدة فحواها الاصلاح والتّقدّم بالمجتمع وتحرّره مثل التّجديد والنّهضة والتطوّر والثّورة والاصلاح والخلاص والفوز والرّقي والتمدّن وغيرها.
إنّ الحدّاد رغم انتمائه إلى حقل ثقافي يقيس ما يتعلّق بالمجتمع بمعياريّة دينيّة  وإيمانه بأنّ الإسلام "هو سفر الحياة الخالد  ودستور العمل النافع"[42] ويبرّئه من تهمة تعطيل الاصلاح بل يعتبره "هو دينه القويم ومنبعه الذي لا ينضب"[43] فان في تصوّره للاصلاح يتعدّى طرح الاتّجاه السّلفي التّقليدي الدّاعي إلى وضع الاسلام الاجتماعي في مستوى الاسلام المعياري[44]  أو حتى الاتّجاه الاصلاحي اللّيبرالي خاصة في جرأته لاخضاع النّص القرآني لشروط التّاريخيّة وايمانه بضرورة تطوير الأحكام الواردة فيه ولو كانت نصّيّة وقاطعة[45] . كما أنّ الحدّاد رغم إنتقاده للمدنيّة الغربيّة فهو يعتبرها منبع الإصلاح [46] ونموذجا  يجب  أن ننزع نحوه إذ يقول: "إنّما الذي ينقصنا ويلزمنا أن يقف من أجله كلّ شيء حتى يتمّ هو بذل الجهود الاقتصاديّة المتّحدة لنقيم حياتنا على أساس ثابت مثل ما سارت عليه الأمم التي تعيش اليوم على وجه البسيطة ناجحة موفّقة في بلادها وحتى في مدّ سلطانها لتحضّ كل  خامل ضعيف".[47]
من أين نبدأ حسب الحدّاد؟
رغم انخراط الحدّاد  مبكرّا في النضال السّياسي والنّقابي يبدو أن التجربة أقنعته بأولويّة العمل الاجتماعي على السياسي[48] والنّضال السّلمي على النّضال الثّوري[49] فتأهيل المجتمع في ذهنه هو الشرط الأساسي للإصلاح والتحرّر وهو يقول في هذا الشأن "إنّ المملكة التونسية لا تتحمّل الثورة حتى ولو كانت موجّهة إلى السلطة الحاكمة] ...[ وهي أحوج وألزم لها من ذلك ايجاد القوّات الاجتماعية المدعّمة بالمعارف لامتلاك الثروة وتلك  هي القوّات الأساسية الدّائمة والسلميّة التي يمكن بناء الحياة الحرّة والسعيدة على أركانها"[50].

فما هو مضمون الرّقي عند الحدّاد؟

على المستوى السياسي كانت غاية الحدّاد التحرّر من الاستعمار وكتاباته خاصة أشعاره كلّها تندّد بالسيطرة  الاستعمارية وتصبو إلى التحرّر وحتى إن كان يعتقد أنّ ذلك ليس بقريب ما لم تتجهّز البلاد "بمثل ما عند دول الغرب من العلم وسائر أسلحة الكفاح"[51] أمّا نظام الحكم الذي يجب أن يسود فيراه الحدّاد قائما على دستور يضمن كلّ الحرّيات[52] لكن الحدّاد لا يتصور الحكم إلاّ مبنيا على السّيادة الشعبية الفعلية وقيم العدالة[53]والديمقراطية الاجتماعيّة فهو جمهوري دون التصريح بذلك[54].
أمّا على المستوى الاقتصادي ففي كلّ كتاباته يشهّر الحدّاد باستغلال الانسان للانسان ويعتقد أن لا "وجود للحريّة ما دام الانسان حرّا في تسخير الانسان لنفسه يعطيه بعض العلف ليستمر في خدمته"[55] فمنزعه الاشتراكي جلّي في مواقفه ونضاله لكن اشتراكيّتة ليست اشتراكية التيّارات الماركسيّة التي تقوم على صراع الطبقات بل اشتراكية انسانية يسود فيها الوفاق والتعاون بين البشر عوض التّنافر والتّحارب والأثرة [56] وهو بذلك يندرج في تيار دعاة العدالة الاجتماعية من روّاد الاصلاح العرب مثل رفاعة رافع الطهطاوي في "مناهج الألباب المصريّة في مباهج الآداب العصريّة" أو عبد الرّحمان الكواكبي في "أم القرى". لذلك يرى الحدّاد أنّ النّظام الاقتصادي الأمثل هو النظام التعاوني[57] القادر على خلق الرّأسمال الوطني في الصناعة والزراعة والتجارة وبناء اقتصاد يقوى على المنافسة وجدير بتحقيق السعادة للشعب.
بذلك يتوفر بناء المجتمع السّليم الذي يطمح له الحدّاد مجتمع تنتفي فيه كل الأمراض والعاهات التي تنخر واقعه المعيش، مجتمع متحرّر على مستوى الفرد والمجموعة يتساوى فيه الرّجل بالمرأة ويقوم على التّعاون والاشتراكية. هل الحدّاد يتصوّر مجتمعه هذا  مخالفا لما يسمّيه بالمجتمعات المتمدّنة أو الحيّة؟ أي المجتمعات الغربيّة. رغم انتقاداته لهذه المجتمعات وما تفشّى فيها من مظاهر الاستغلال و"الفساد" (والتي كانت تصدم الحدّاد المسلم) فانّه كان عكس الكثير من معاصريه الذين يتأفّفون من الحضارة الغربيّة ويصفونها بـ"الفجور والكفر" ويتحنّنون إلى القديم كان الحدّاد ينادي بوجوب مسايرة التطوّر العام في الأمم المتمدّنة وفتح النّفوس للمدنيّة الغربيّة لما فيها من المجد والقوّة والحق[58] "لأن تيّار هذه الحضارة جارف لا يقاوم"[59]. لكن ذلك-في رأيه-  يجب أن يتمّ دون الذّوبان في حضارة الآخرين اذ كان الحدّاد من دعاة الحفاظ على الذّاتية العربيّة وعلى الاسلام فيها، اسلام الاصلاح والتطوّر.

ماهي أدوات ووسائل التغيير في فكر الحدّاد؟

ان الاصلاح الشّامل الذي يدعو له الحدّاد يفترض عقلية جديدة ورجالا ينجزونه وأسسا يقوم عليها. وبما أنّه حدّد مكمن التّأخّر في شعبه في تخلّف ذهنيته التي تقوم على احتقار الذّات وانعدام الثقة بالنفس والجبن والتّسليم للأقدار والكسل والجهل والجمود وعبادة الماضي فلا مناص في رأيه  من تغيير هذه الذهنيّة وبث الوعي والايمان بالذّات ولن يحصل ذلك إلاّ بالتربية بمفهومها الشامل[60] داخل العائلة وخارجها للنشء وللكبار. لذلك اعطى الحدّاد أهميّة قصوى لدور الأم في هذه المهمّة وأوجب تعليم المرأة وتثقيفها وتحريرها من سجن الحجاب والمنزل ونادى  بمساواتها مع الرّجل ليس فقط في القيمة الانسانية بل في الحقوق وفي الشغل والوظائف والميراث واعتبر تحريرها الشرط الأوّل للتقدّم. لقد كتب: "إنّ شعبا من الشعوب الطّامحة إلى المجد لا يمكن أن يبلغ منه ما دام نصفه يعيش بهذه الحالة مقيما في ظلّ الخفاء الدّامس"[61]. فالمرأة المثقّفة والمتحرّرة هي القادرة على القضاء على تلك التربية التقليدية القائمة على الخوف والخرافة وتعطيل العقل والأنانيّة [62] لتغرس في أبنائها حبّ الحياة و الوطن والتّوق للحريّة والفضيلة والحق وتقديس العقل[63].
لكن تغيير العقليات لا يقصره الحدّاد على التربية العائليّة بل يجب أن يشمل كذلك نظام التعليم الذي انتقد عقمه إن كان في الزيتونة أو الكتاتيب ونادى بتعليم عصري شامل تدرّس فيه العلوم الوضعيّة وكل العلوم الضروريّة باللّغة الأم، اللّغة العربية[64]. والتّوعية يجب أن تشمل الكبار كما تشمل الصّغار لذا يهيب الحدّاد بالنخبة المتعلّمة أن تتصل بالعامّة من الناس موعيّة ومرشدة لا أن تبقى في برجها العاجي[65]. هذه الثقافة الجديدة التي يبشّر بها الحدّاد كأداة للتحرّر والتّقدّم ويراها غاية ومطمحا يجب أن تنبني على حرية الرأي والفكر كشرط للإبداع وتحقيق الذ ّات إذ يقول "لا علم إلاّ حيث يوجد الرّأي ولا رأي إلاّ حيث يوجد العلم"[66] ولا فوز إلا بتحرير العقل. "إنّنا لا نسمح حتّى الآن لعقولنا أن تنطلق من سجنها لتفكّر في رسم الخلاص والفوز ونحن أحباب عواطفنا وأعداء عقولنا "[67].
إنّ الثّقة في النفس وإرادة الخروج من التّخلّف ونفظ غبار الماضي هي مقدّمات ضروريّة للنّهضة التي يرى عمادها في العلم والعمل حتى أنّنا لا نقرأ نصّا للحدّاد دون أن نجد تمجيدا لهما. فهو مؤمن إيمانا لا حدّ له بدور العلم في نهضة الشّعوب فهو مصدر القوّة والمجد وهو الأساس الذي قامت عليه المدنيّة الغربيّة وهو باني قوّة الدّول الصّناعيّة حيث ثوّر قوى الانتاج ومكّن من معرفة أسرار الطّبيعة وخلق وسائل السيطرة والهيمنة على العالم واستعباد شعوبه. فلا مناص من الاقبال على النّهل من العلوم في مفهومها الوضعي للخروج من الانحطاط ونسوق هنا بعض الأبيات الشعريّة المتغنّية بالعلم :

"إذا أردنــا أن ننــال الرّغــائبـــا        فليس لنــا غير العلــوم مطالبـــــا
بها بدّد الغرب الضّلال وجيشــه        وقــاد بها نحو الحيــاة النجائبــــا"[68]
أو
"بـعقـل وعلـم تفـــوز شعـــوب         بمنيتهـــا في مجـــــال الصـــــّدام
فتحـرق بالعلم عادات ســــــوء          تصــول بحكم على الكلّ عـــام"[69]
و
"تقدّمت الأقوام بالعلـم واهتـدوا         لما فيـه من بــأس يــردّ الكتائبــا
ونحن بأحكـام القضاء وقهـــــره         نريد العلـى عفـوا ونأبى المتاعبــا"[70]

هنا أيضا يندرج الحدّاد ضمن التيّار الاصلاحي العربي وخاصة رافده العلماني الدّاعي إلى الاعتبار بتجربة الحضارة الغربيّة في بناء مجدها ووعيه بمحوريّة العلم فيها ولا نخال الحدّاد المعروف بلهفه على المعرفة لم يطّلع مثلا على كتابات عبد اللّه النّديم (1845-1896) أو قاسم أمين (1865-1905) الذي يقول في كتابه "المرأة الجديدة": "وتيقنّا أنّه من المستحيل أن يتم اصلاح ما في أحوالنا اذا لم يكن مؤسّسا على العلوم العصريّة الحديثة"[71]وهي فكرة تتردّد باستمرار في أثرالحدّاد.
إنّ النّهضة في فكر الحدّاد تقوم على العلم مع العمل. لذلك ينتقد الحدّاد كسل أهل عصره وقعودهم وتسليم أمرهم للأقدار وتشكّيهم المستمر من منافسة الآخرين من أروبيّين أو يهود وتظلّمهم للحكومات وتذلّلهم في طلب الاعانات داعيا للعمل والكدّ والمثابرة معتبرا العمل مصدر الثروة في المجتمعات وقوّتها مؤكّدا "أنّ الأمل طريق العمل والعمل هو أعظم واجب يتحتّم علينا القيام به"[72] ومشدّاد على أنّ "العمل، العمل فهو الرّائد لنجاج المطالب والرّغائب"[73]. ومن هنا نفهم أيضا توجّه الحدّاد الاشتراكي والإنساني المتعاطف مع عالم الشّغّالين و الضعفاء.
إن كانت سبل التقدّم بالمجتمع والبلاد واضحة في فكر الحدّد فعلى من يضع يا ترى مسؤوليّة النّهوض وقيادة الشّعب؟
إنّ المتتبّع لانتاجات الحدّاد  الفكرية منذ مقالاته الصّحفيّة في العشرينات إلى خواطره التي كتبها في صائفة 1933 أي قبل وفاته بسنتين ونيف (ديسمبر 1935) يدرك أنّ هذا المصلح يحمّل مسؤولية النّهوض بمشروعه الإصلاحي إلى النّخبة الواعية من المثقّفين والشّباب لكن تجارب الحدّاد المريرة وخيباته وربّما روحه الثائرة والمتعجّلة للتّغيير جعلته يعدّل من تفاؤله وثقته في تلك النّخبة التي خذلت محمد علي  الحامي سنة 1925 وتقاعست عن العمل الوطني الجاد[74] وخذلته هو شخصيّا اذ كانت في أغلبها في صفّ المتهجّمين عليه اثر صدور كتابه "امرأتنا في الشّريعة والمجتمع" (1930) وما سجن فيه من عزلة وضيم جعلته يتبرّم من الشّعب وممّن يدّعون زعامته لكن لا يفقد الأمل[75] في أن يرزق الشّعب "الصّوادح المعلنين"[76] لهدايته وإثارة قواه ولما لا يظهر زعيم مستبد لقيادته[77] رغما عنه إلى المجد. يقول الحدّاد في قصيد "متى ياشعب؟"

"متى ياشعب يولد فيك حـــــرّ       يقــودك للحياة كمـا يراهـــا
لبعث النـــاس يلــزم مستبـــــدّ       وأغـلال مـوثقــة عــراهـــــا
تقـاد بها الشّعـوب إلى التّرقـــي       فيرشد عقلها وترى هداهـــا
وتسلــم مـن مخالـب خادعيهــا        بدين الله كي تلقى رداهــا"[78]

تلك اذن سبل الرّقي عنده وطرق الخلاص من التّخلف.

خـــاتمـــة
إنّ فكر الحدّاد وطروحاته كانت سابقة لعصره لذلك تمكّنت القوى المحافظة من عزله وتكفيره لكن ما أخضع له هذا الرّائد المجتمع والعقليات من نقد شامل وما أتى به من رؤية جريئة لتطوير النّص الدّيني القرآني واخضاعه لقانون الحركة والتغيير في التاريخ ودعوته لإرساء الحريّة في الفكر وتحرير العقل من الجمود والاستبداد كلّها أفكار وقضايا لا زالت قائمة وملحّة بعد مرور أكثر من أربع وستّين سنة على وفاة هذا الرّجل الفذ مما يؤكّد على مكانة الحدّاد  في الفكر الاصلاحي في تونس وعند العرب عامّة.

عميرة عليّة الصغيّر.
المعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنية