أكثر من 80 سنة مرّت على ما كتبه الحدّاد و لازلنا في الزمن ذاته و في الاشكالية ذاتها .
(مقال اعدت نشره بجريدة "المغرب ")
اشكالية الانحطاط والرّقي في فكر الطّاهر الحدّاد
عميرة عليّه الصغيّر- مؤرخ جامعي
"لو هاجمنا عيوبنا كما نهاجم حكّامنا لنلنا من الحياة
أمانينا إذ هم ما قدروا ولا يقدرون على حكمنا إلاّبها"
الطّاهر الحدّاد، الخاطرة 53، خواطر، ص 83.
تشغل
قضيّة النّهضة الفكر الإصلاحي العربي منذ أكثر من قرنين ولا زالت سبل
الخروج من التخلّف (أو الانحطاط في تعبير السّابقين) قضيّة ملحّة تتضارب
حولها التيّارات الفكريّة والسياسيّة في العالم العربي وخارجه حسب مصالح
القوى الاجتماعيّة التي تسندها. وتثبت الأحداث أنّ فكر الحدّاد رغم مرور
أكثر من ستّين سنة على وفاة هذا المصلح لا زال فاعلا بما أنّ الواقع في
جوهره رغم انهيار الاستعمار المباشر لم يتغيّر جذريّا و لازالت مظاهر
التخلّف والتّبعيّة والاستبداد سمات المجتمعات العربيّة.
وتهدف هذه
الدّراسة للوقوف عند تشخيص الحدّاد لما يعتبره "انحطاطا" في وطنه وكيفيّة
تفسيره لذلك الواقع والبحث عن تصوّر هذا المصلح للنّهضة أو الرّقي من حيث
الغايات ووسائل تحقيقها وذلك اعتمادا على الأثر المكتوب لهذه الشخصيّة.
I- الانحطاط في رؤية الحدّاد: الواقع والأسباب .
إن
وعي الحدّاد بتأخّر وطنه وتألّمه لحاله نجدهما حاضرين في كلّ كتاباته
النّثريّة والشّعريّة حيث تتكاثر المرادفات لتوصيف واقع تونس في الثّلث
الأوّل من هذا القرن فهي حسب تشخيصه في حالة "احتضار" و "انحطاط" و "هوان"
و"سقوط" و "في تأخّر" و "في ظلام" ... حيث "بات أهلها أمّة من أحقر
الملل"[1].
وبعكس ما يعتقده جلّ الوطنيّين في عصره يرى الحدّاد أنّ
هذا التّدهور لم يبدأ مع استعمار البلاد بل كان سابقا له وهو الذي مكّن
بالذّات الاستعمار من فرض سيادته على البلاد فهو يقول: "إنّ هذه الحالة
بجملتها هي التي ولّدت لنا جسما مريضا هو المجتمع التونسي الذي استطاع
الاستعمار الفرنسي أن يخترقه بسهولة فيفرض عليه من الفروض ما شاء ويصدر
عليه من قوانينه ما أراد"[2].
ويجزم الحدّاد أنّ "واقع التّدلّي" (والعبارة له) هذا شمل كل المستويات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسيّاسيّة والثقافيّة.
إنّ التدهور والانحطاط الاقتصادي
يراه الحدّاد في ضعف الانتاج وتذبذبه وعدم قدرة الرأسمال المحلّي على
منافسة الرأسمال الغازي إن كان في الصناعات أو التجارة أو الزّراعة التي
تقوم كلّها على رأسمال ضعيف وفردي ووسائل عمل عتيقة وأساليب تنظيم وادارة
لا تتماشى مع متطلّبات المنافسة الرأسماليّة وروح العصر[3].
ويحظى الجانب الاجتماعي
باهتمام أكبر لدى الحدّاد وهو المقّف العضوي ذو الميول الاشتراكيّة فكلّ
كتاباته تشهّر بالواقع البائس للشعب الذي أصبحت حياته "أشبه بحياة الحيوان
المسخّر" [4] سمتها البؤس العام من فقر واستغلال وجوع ومرض وبطالة ونزوح
وتشرّد وسجون...[5] ويتجسّد انحطاط المجتمع في نظر الحدّاد في ما آلت إليه
العائلة التونسية من تفكّك وبِؤس مادي وأخلاقي: سوء التغذية، انتشار
الأمراض والأوبئة، انعدام النّظافة وشروط الصّحّة، انحلال العلاقات داخل
الأسرة وتحكّم العنف وشراسة الخلق في الحياة الزّوجيّة وخاصة ما كانت عليه
المرأة التونسيّة من استعباد ومهانة[6] ويجد الحدّاد تخلّف مجتمعه أيضا
في تلك العلاقات التراتبيّة التي لا زالت تحكم شرائحه وغطرسة الأكابر
والأعيان في المدن والأرياف على من دونهم من الفئات الشعبيّة[7].
أمّا الانحطاط السّياسي
للبلاد فيتجلّى حسب الحدّاد في الاستعمار وفقدان الوطن سيادته واستبداد
حكّامه به إن كانوا فرنسيّين من المقيم العام إلى المراقب المدني[8] أو من
المتعاونين مع الاستعمار التونسيّين من الباي إلى وزارئه وقيّاده[9] حتى
أنّ التونسيّين وصلوا في رأي هذا المصلح إلى "درجة هم فيها أشقى أمّة
مغلوبة على وجه المعمور اللّهمّ إلاّ بعض قبائل مبعثرة في صحراء افريقيا و
ما شاكلها"[10].
ويشنّ الحدّاد انتقادا أشمل للثقافة السّائدة في عصره
في مفهومها الواسع والضيّق وإن كانت الثقافة العالمة أو الثقافة الشعبيّة
أو ثقافة النّخبة وثقافة العامّة، سماتها الرّئيسيّة الجمود والمحافظة
وعبادة الماضي وقتل العقل ومحاربة أفكار التّنوير والتّجديد والشواهد من
فكر الحدّاد في هذا الموضوع كثيرة خاصة في أشعاره وخواطره[11] ونورد هنا
نماذج منها إذ يقول في قصيد "ظلّ الموت"
"ونسطو علـى العقـل نسقيـه سمّـا لتسقـط أشلاؤنـا في الرّغـام"[12]
ويندّد بتزمّت شيوخ عصره قائلا:
"وهــذا الجمــود لديهــم فخــار يعـد لـه النّشء منذ الفطــام" [13]
ويشّهر الحدّاد في مواقع عديدة بعقم التّعليم
المتّبع في المؤسسات الأهليّة وخاصّة بجامع الزّيتونة من برامج ينعتها
بالقصور لخلوّها من العلوم الصّحيحة وكطرق تدريس التي تعتمد على التّلقين
وإجهاد الحافظة حيث تقتل العقل وملكة البحث والتّجديد[14] ويثور الحدّاد
على عبادة الماضي وتقديس الأسلاف عند الخاصّة والعامّة. "نحن نتّجه
بأعمالنا إلى المجهول لا لنعرفه ولكن لنعبد فيه جهلنا المقدس فنجد ماضينا
الجميل كما يجد الانسان معبوده لأننا لم نفهم حوادثه كما وقعت وذلك ما
يزيده تغلغلا فينا واستعبادا لحياتنا" [15].
لا يستثنى الحدّاد في
حملته على ثقافة البؤس والتخلّف الثقافة الشعبيّة كتصوّرات واعتقادات
وسلوكيات واخلاقيات لم يزدها البؤس الاجتماعي والأميّة إلاّ رسوخا فهو
يندّد بالتربية العائليّة التي تغرس في النشء الأوهام والخرافات والجبن
الجتماعي والسّياسي حيث "لا تدع معها مجالا لحركة العقل والفكر ] ....[
فينشأ الابناء على جهل وحمق وتعصّب لما لقنوا منذ الصّغر"[16]. كما يرى
انحطاط المجتمع في انتشار الثقافة الغيبيّة، ثقافة الطّرق والتصوّف والخنوع
للأقدار. يقول في قصيد "العلوم ":
"جهالتنا يـــا قوم أحنت رؤوسنـا وخيّبت العقبى وصبّت مصـائبــــا
سكنّا لعيـش الغبن طول حيـاتنــا عـلى أن نلقى في الممات الرّغـائـب
وعهـدتنـا في ذلك طبــل وقبـّـــة نؤمّـل منهــا أن تصــدّ النّـوائـبـــا
ونحـيي بها في كـلّ عـام مــواسما وفي كـل أسبـوع نقيــم مـلاعبــــا
واذ مـــا نصب في لهونا بملمـــّـة نقل كان ذا حكما من الله واجبـا
نقـابلــه بالصّبر أجمــل صبرنــــا وتسليمنــا كيمــا يجيــد مجـانبـــا "[17]
ورغم
اعتبار الحدّاد الشعب في مرتبة الضحيّة وهو مدعاة للشفقة والأخذ باليد فهو
لم يتوان على وصفه بالجبن والخوف والسّذاجة والعجز والاستسلام...[18].
وكلّها صفات أخلاقية ونفسانيّة للإنسان المقهور والمستعبد.
لكن أين تكمن أسباب هذا الانحطاط الشامل؟
جواب الحدّاد واضح : العلّة فينا.
لا
نجد في كتابات الحدّاد بحثا عن أعذار لخيبة مجتمعه وسقوط وطنه في
الاستعمار- رغم تحميله جانبا من المسؤوليّة- ولا لجوء للأقدار يحمّلها
مسؤوليّة الواقع فمقاربته تقوم على استقراء الموجود ومنهجيّة "التّحليل
الملموس للواقع الملموس" (حسب عبارة لينين) وهذا ما يتميّز به عن جلّ
الاصلاحيّين الذين ينتمون إلى حقل الانتماء الاسلامي فهو أقرب إلى التّحليل
الماركسي في محاولاته وخاصة التّيار الإرادوي منه المركّز على دور الإنسان
في صنع التّاريخ ودور البنى الفوقيّة وخاصة العنصر الثقافي والنفسي في
تشكيل الواقع التاريخي في اتّجاه التّثبيت أو التّحريك[19] .
يضع الحدّاد مسؤولية "التدلّي" الذي عليه البلاد في الأوّل وبالذّات على النّخب في المجتمع ان كانت تقليديّة أو حديثة.
فالنّخبة التّقليديّة من رجال الدّين من مشائخ الزيتونة والطّرق والأشراف
والقضاة والمفتين والعدول وكبار الموظّفين وكلّ أصحاب الجاه والنفوذ
والسّلطة يحمّلها الحدّاد مسؤولية تخلّف المجتمع لأنّها تعيش على حسابه
وخاصة تتحالف مع المستعمر في استعباده يقول الحدّاد عن هؤلاء "الكبراء"
"كان كلّ هؤلاء عين السّلطة وعمادها في مدّ سلطانها على البلاد فكانت أخلاق
الترفّع عن الصّناعات والأنفة من الاختلاط بسواد الأمّة مناسبة لهم إذ ذاك
أما بعد الاحتلال فقد تحوّل ذلك السّلطان الملوكي الذي كان لهم إلى أيدي
الفرنسيّين فأمسوا آلة له من لم يرض أو لم ترض به حكومة الاحتلال فله في
زاوية بيته أحسن مقام"[20]. وهو ينزع عنهم أي غيرة على الوطن وينعتهم
بالانتهازيّة والتكسّب والجري وراء الرّواتب والمناصب لا همّ لهم إلاّ
العيش الهادئ فهو يشهّر بهم في قصيد "ضحايا الماضي" :
"إنّ ساداتنا أضاعوا تراثا إنّهــم مثلنا كسالي حيارى
سيموتـون مثلنا في لـضى الجـــــــوع سكـارى وما هم بسكارى
فلدينا هم حارسو مجدنا الضّخــــــم وعند الدّخيل ذابوا صغـارا
ولدينا عاشوا ضخاما كبارا وأمام القوى كانوا صغـارا
في الجرايات همّهم ومناهم ونـراهـم لخيرنــا أنصــارا" [21]
لكن نقمة الحدّاد تتوجّه أكثر لتلك الفئة من الشيوخ ورجال الدّين
في التّعليم والقضاء أو في رئاسة الطّرق الدينيّة والتي ينعتها رفيق
الحدّاد أحمد الدّرعي"بالاكليروس الإسلامي" [22] فهي حليفة الاستعمار
وتتمعّش من خدمتها له وتستغلّ سذاجة العامّة وجهلها لتقف ضد كلّ اصلاح
وتجديد وهي سادنة القديم ومكرّسة الجمود في التعليم والقضاء والحياة العامة
وقد نصّبت نفسها حارسة للمقدّسات وللماضي ومنحت ذاتها وحدها حقّ تفسير
الدّين والقيادة الرّوحيّة للمجتمع [23].فالمحافظون يشدّون المجتمع إلى
الوراء ويجهضون فيه كل خمائر التّجديد والرّقي. ويزخر ديوان الحدّاد
بالقصائد التي تفضح دور تلك الفئة من المجتمع نذكر منها هذه الأبيات من
قصيد "الخيبة":
"رأوا باسم دين المصطفى أن يتاجـروا فخافوا على الاسـلام أن يتناثــــــرا
وقـد أشهـروا الإلحاد في كلّ حـــدث كأنّ الذي قالوا نـمـا وتكــاثـــــرا
وأنّهم أبطال دين تألّبوا على دوســــه كـــي يـــودعـــوه المـقـــابــــــرا
فهذا كفور ملحـد حسبمـا اشتهــــوا وذلك للاسلام يرصــد ماكـــــرا
وعندهــم التجـديــــد كفــر محـقـّــق ورأي سفور البنت أيضا بلا مــرا
] ...[
ومــالـهــم مــن ديــــن أحمــــد ذرّة ولكنّهـــم يبغـــون منـه مغـــاورا[24]
لكن حظّ النخبة الحديثة من نقد الحدّاد ليس أقلّ
فإذا كانت النّخبة التقليدية "حارسة للانحطاط" فإن النخبة العصرية قد
"تخلّت عن واجبها" حسب الحدّاد حيث ينعتها بالأنانيّة الفرديّة والبحث عن
هناء الحياة وعدم الاكتراث بحالة الشعب[25]والأدهى أنّ تلك النخبة التي
تعلّمت عن الغرب تجاري المتزمّتين والمحافظين في تصدّيهم للفكر الإصلاحي
والمجدّدين والحدّاد كان أحد ضحاياهم خاصة بعد نشر كتابه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" سنة 1930. ويقول الحدّاد في قصيد "زعماؤنا" (1932):
"هم فرقتان شيوخ الدّين في جـمــد ونشـأة العلـم في السّربون منهمــــرا
هما اللّذان أثـارا الشـــرّ وادّعيـــــا ان ينصرا الدّين حقّا جلّ ما ذكـــرا
لقد نصرتم جمود الشعب في وحـــل حتى رضيتم لـــه أن يحكي الحجـــرا
فصار طوعا لأيديكم كمـــا انقلبت وان امرتم أن يكــن بالأمر مؤتـمــرا
لا دين، لا عقل، لا اصلاح منتظـرا إلاّ إذا كـــان منكـم نبعـه ظهــــرا
ماذا صنعتم هداة العصر في وطــــن أهوت به رجة الأحداث فانحـــدرا" [26]
يحمّل
الحدّاد إذن المثقّفين مسؤولية الانحطاط العام ويفضح ادّعاءاتهم الكاذبة
في حماية الدّين وهم بذلك يكرّسون جمود الشعب وجهله كما يتبرّم من
ادّعائهم الزعامة الرّوحية للمجتمع والحق المطلق في توجيه الشعب وامتلاك
الحقيقة والكلمة الأولى والأخيرة في أمور الدّين والعقل والاصلاح فهو ينفي
عنهم زعم ذلك الحق بل يجرّمهم ويعتبرهم مسؤولين على بقاء الشعب في جهله
وفقره. كما أن الحدّاد يعتبر المعيار الوحيد في الحكم على صدق النّوايا نحو
النّاس هو ما يفعله المرء لخدمة المجتمع فهو لا يرى المثقّف الحقيقي إلاّ
ذلك "المثقّف العضوي" بالمفهوم القرامشي المضحّي بمصلحته الخاصة لفائدة
المصلحة العامة والعامل فعلا من أجل خلاص هؤلاء البسطاء وتوعيتهم من أجل
التحرّر الاجتماعي والوطني. في رأيه "زعماء الشعب هم الذين ينكرون حقوقهم
الشخصيّة ومكاسبهم وروابطهم العائلية إذ كانت تعوقهم عن عملهم الذي خلقوا
من أجله، والكاذبون هم الذين يتصلون بالشعب لتوفية هذه المصالح أو بالقدر
الذي لا يعطّل من نموّها اذا عزّ الحظ وحكم القدر" [27].
أمّا الانحطاط الاقتصادي
يرجعه الحدّاد علاوة على تأثير الرأسمال الاستعماري في تفكيك البنية
الاقتصادية التقليديّة وتدخّل الحكومة الاستعماريّة لفائدته[28]إلى
المنتجين التونسيّين أوّلا وبالذات إذ يقول "إنّني دائما أقول وأعتقد أيضا:
أنّه لا مسؤولية فيما نحن فيه إلاّ أنفسنا"[29]. فهو يرى أنّ ضعف الرأسمال
الوطني وقلة امكانياته في الانتاج والمنافسة يعود بالأساس إلى مسؤولية
الأثرياء والملاّكين في المدن والأرياف وخاصة لجمود عقلياتهم التي تتحكّم
فيها العادة والكسل وعدم إدراك أنّ منطق العصر والرأسمالية الظّافرة منبني
على العقلانيّة وروح المبادرة والمغامرة فما هي عليه الآلة الانتاجيّة في
تونس من ضعف هو "بسبب الكسل العام الذي منشؤه الجهل بأسباب الرزق الناجحة
والخوف على المال من التّلف بالاستعمال"[30] كذلك لعقليّة التّبذير
والإسراف أو الاكتناز القاتلة للإستثمار يقول الحدّاد: "ليس للمال عند
أغنيائنا إلاّ أن يبذّر في اللّهو والفساد أو يحبس في الصناديق ليبقى
ميراثا" [31]. فلا تبصّر ولا احتياط للجوائح ولا استثمار محكم لرأس المال
"لأنّ المنتجين التّونسيّين بصفة عموميّة يسيرون في عملهم بلا عقل" [32].
ومن عيوب العقليّة السائدة لدى أصحاب الأموال في تونس حسب الحدّاد تلك
الأنانيّة والفرديّة الرّافضة للتّعاون والتشارك لبعث مؤسسات قادرة فعلا
على الانتاج والمنافسة اذ يقول :"فنحن بما رسخ فينا من الأنانيّة لا يثق
أحدنا إلاّ بنفسه ولا يعمل إلاّ منفردا لخير نفسه فهو يرى أنّ كلّ فرد من
المجتمع يحاول أن يأخذ منه وهو بدوره يحاول أن يأخذ منهم لنفسه أيضا" [33].
هذه العقليّة السّائدة لدى الأثرياء والتي يجد فيها الحدّاد أحد الأسباب الرئيسية للتخلف ينتقدها أيضا وبحدّة لدى الفئات الشعبية
اذ تتقاسم العامّة والخاصّة نفس الثقافة القاعديّة التي تقوم على التّقليد
والقدريّة وتحمل سمات القرون الوسطى رغم تغيّرات محيطها. ينتقد الحدّاد في
مواقع عدّة من كتاباته الثقافة الشعبية في تصوّراتها وسلوكياتها فهو يعيب
في الشعب عقليّة الكسل والاتّكاليّة وعدم التبصّر والاحتياط وروح الاستسلام
والقدريّة والعزوف عن الحياة وتمنّي الخلاص في الجنّة[34]. كما ينتقد فيه
احتقار الذّات وسهولة الانتقاد للمخادعين من "أعداء الشعب" ان كانوا من
رجال السّياسة أو رجال الدّين والمحافظين عامّة حيث تتكرّر هذه النّعوت
للشعب في أشعار الحدّاد: "شعب مريض" "في ذلّ" "في هوان" "يائس" "عاجز"
"منفصل عن كلّ مجد " "كالشّاة" "منخدع" "ساذج" "في غيبوبة" "يقدّس
الأخيلة"، "منهوب النفس والمال"...[35]. كما ينقم الحدّاد بصورة خاصة على
عقليّة الانقياد والتزلّف للحكّام إلى درجة العبادة[36]. هذه الثقافة
السّائدة في المجتمع يعتبرها الحدّاد مظهرا من مظاهر انحطاطه وسببا له في
الآن ذاته فهي المكبّلة لقوى التحرّر في المجتمع والمجهضة لعوامل التّغيير
فيه وهي تخدم السّائدين في البلاد من استعمار وحلفائه من التونسيّين. يقول
الحدّاد في هذا المضمار: "إن عيوبنا سوس ينخر عظامنا ولكنّها كنز مدخر عند
حكامنا ينالون به ما شاؤوا منا على حسابنا ويصدموننا به كلّما تظاهرنا
عليهم بحب الحياة والحرّية"[37]. لقد كان وعي الحدّاد عميقا بدور البنى
الفوقيّة في تعطيل حركة التاريخ نحو التحرّر والانعتاق الاجتماعي حيث "لعبت
الثقافة التقليدية أو ثقافة التلقين بالعصا الغليضة دور التّدجين
الاجتماعي والانقياد الكامل للكبار من مختلف الرّواتب"[38].
ولنا
أن نتساءل في هذا المستوى من البحث عن مكانة فكر الحدّاد في موضوع رصد
ظواهر التّخلّف وتحليل أسبابه في تونس من فكر معاصريه داخل البلاد التونسية
أو في الشرق. في تقديرنا إن كان الحدّاد بالنسبة للتّونسيّين
سبّاقا للنّقد الاجتماعي والغوص في حالة التّدهور العام للبلاد التونسية في
الثّلث الأول من هذا القرن ومتميّزا بتفرّده الجريء برفع الغطاء عن عورات
مجتمعه وبالتّصريح الشّجاع بأنّ العلّة في أهله[39] فانّه لا يتميّز عمّا
أتى به الفكر الإصلاحي في الشرق وخاصة الاتجاهات الحديثة في التجديد
الاسلامي حيث نلمس في فكر الحدّاد بصمات فكر الأفغاني وعبده والكواكبي
وقاسم أمين وشكيب أرسلان وغيرهم كذلك تأثير رياح التغيير التي كانت تهبّ من
تركيا الكماليّة[40]. لكن الحدّاد وإن أصاب في تقديرنا في التّأكيد على
العوامل الداخلية لتفسير ما كانت عليه تونس من تخلّف ولم يجانب الحقيقة
كذلك في إبراز دور البنية الثقافيّة والنفسيّة في تكريس ذلك الواقع
المتردّي وديمومته فانّه بالغ في تضخيم هذه العوامل ومردّ ذلك في اعتقادنا
إلى تكوين الحدّاد الأساسي وتشبّعه بالفكر الديني والاصلاحي الذي يعطي
الأخلاق و"صلاح النّفوس" دورا مركزيا في تفسير ما يعتري المجتمعات من رقي
وانحطاط. لكنّ فكره العملي ومنهجه القائم على استقراء الواقع الملموس لم
يحل بينه وبين القدرة على انتاج طروحات وتفاسير أقرب إلى منهج الماديّة
التاريخية من المقاربات المثاليّة وحجّة ذلك مثلا أنّنا لم نجد في كل ما
كتبه الحدّد ولو إحالة واحدة لتفسير ظاهرة ما للقدرة الإلهيّة. غير أنّ ما
ينقص مقاربة الحدّاد لفهم ظاهرة الانحطاط- في ظنّنا - هو ذلك البعد
التاريخي. وكان من السّهل عليه أن يدرك أنّ كلّ ما شخّصه من واقع التخلّف
هو في الحقيقة نتيجة لعوامل أخرى تضرب في عمق التاريخ لعلّ أهمّها غياب كل
شروط تعدّي النظام الشبه الاقطاعي الذي كان يسود البلاد وعدم توفّر الشروط
الأخرى -مثلما هو الشأن في الدّول المتقدّمة- لبروز الرأسمالية وتثوير
المجتمع من قضاء مبكّر على علاقات الانتاج الاقطاعية وتراكم رؤوس الأموال
منذ تكوين الامبراطوريات الاستعماريّة والرأسمالية الماركنتيلية مرورا
بالثوارت الفكرية والعلمية والصناعية والسياسيّة التي عاشتها الدّول
الغربيّة وهي حقائق بديهيّة لدارسي التاريخ. لكن هل هذه الهنّات في تفكير
الحدّاد لازمت تصوّره للتقدّم وسبل الخلاص من واقع التردّي؟
II - الرّقي في فكر الحدّاد: الغايات والوسائل.
في
الحقيقة لئن كان الحدّاد ينتقد واقع عصره بسخاء وفي جزئياته فإنّه في
كتاباته لم يبلور بديلا نظريّا للواقع المؤمّل وهذه الملاحظة لا تخصّ
الحدّاد فقط بل هي عامّة عند دعاة الاصلاح حيث تنقص المؤلّفات التّنظيريّة
وخاصة في مجال الاقتصاد وتغلب على الدّعوات الاصلاحيّة والتنويريّة المواقف
العامّة[41]. في مستوى المصطلح يورد الحدّاد عبارات عديدة فحواها الاصلاح
والتّقدّم بالمجتمع وتحرّره مثل التّجديد والنّهضة والتطوّر والثّورة
والاصلاح والخلاص والفوز والرّقي والتمدّن وغيرها.
إنّ الحدّاد رغم
انتمائه إلى حقل ثقافي يقيس ما يتعلّق بالمجتمع بمعياريّة دينيّة وإيمانه
بأنّ الإسلام "هو سفر الحياة الخالد ودستور العمل النافع"[42] ويبرّئه من
تهمة تعطيل الاصلاح بل يعتبره "هو دينه القويم ومنبعه الذي لا ينضب"[43]
فان في تصوّره للاصلاح يتعدّى طرح الاتّجاه السّلفي التّقليدي الدّاعي إلى
وضع الاسلام الاجتماعي في مستوى الاسلام المعياري[44] أو حتى الاتّجاه
الاصلاحي اللّيبرالي خاصة في جرأته لاخضاع النّص القرآني لشروط التّاريخيّة
وايمانه بضرورة تطوير الأحكام الواردة فيه ولو كانت نصّيّة وقاطعة[45] .
كما أنّ الحدّاد رغم إنتقاده للمدنيّة الغربيّة فهو يعتبرها منبع الإصلاح
[46] ونموذجا يجب أن ننزع نحوه إذ يقول: "إنّما الذي ينقصنا ويلزمنا أن
يقف من أجله كلّ شيء حتى يتمّ هو بذل الجهود الاقتصاديّة المتّحدة لنقيم
حياتنا على أساس ثابت مثل ما سارت عليه الأمم التي تعيش اليوم على وجه
البسيطة ناجحة موفّقة في بلادها وحتى في مدّ سلطانها لتحضّ كل خامل
ضعيف".[47]
من أين نبدأ حسب الحدّاد؟
رغم
انخراط الحدّاد مبكرّا في النضال السّياسي والنّقابي يبدو أن التجربة
أقنعته بأولويّة العمل الاجتماعي على السياسي[48] والنّضال السّلمي على
النّضال الثّوري[49] فتأهيل المجتمع في ذهنه هو الشرط الأساسي للإصلاح
والتحرّر وهو يقول في هذا الشأن "إنّ المملكة التونسية لا تتحمّل الثورة
حتى ولو كانت موجّهة إلى السلطة الحاكمة] ...[ وهي أحوج وألزم لها من ذلك
ايجاد القوّات الاجتماعية المدعّمة بالمعارف لامتلاك الثروة وتلك هي
القوّات الأساسية الدّائمة والسلميّة التي يمكن بناء الحياة الحرّة
والسعيدة على أركانها"[50].
فما هو مضمون الرّقي عند الحدّاد؟
على المستوى السياسي
كانت غاية الحدّاد التحرّر من الاستعمار وكتاباته خاصة أشعاره كلّها تندّد
بالسيطرة الاستعمارية وتصبو إلى التحرّر وحتى إن كان يعتقد أنّ ذلك ليس
بقريب ما لم تتجهّز البلاد "بمثل ما عند دول الغرب من العلم وسائر أسلحة
الكفاح"[51] أمّا نظام الحكم الذي يجب أن يسود فيراه الحدّاد قائما على
دستور يضمن كلّ الحرّيات[52] لكن الحدّاد لا يتصور الحكم إلاّ مبنيا على
السّيادة الشعبية الفعلية وقيم العدالة[53]والديمقراطية الاجتماعيّة فهو
جمهوري دون التصريح بذلك[54].
أمّا على المستوى الاقتصادي ففي كلّ
كتاباته يشهّر الحدّاد باستغلال الانسان للانسان ويعتقد أن لا "وجود
للحريّة ما دام الانسان حرّا في تسخير الانسان لنفسه يعطيه بعض العلف
ليستمر في خدمته"[55] فمنزعه الاشتراكي جلّي في مواقفه ونضاله لكن
اشتراكيّتة ليست اشتراكية التيّارات الماركسيّة التي تقوم على صراع الطبقات
بل اشتراكية انسانية يسود فيها الوفاق والتعاون بين البشر عوض التّنافر
والتّحارب والأثرة [56] وهو بذلك يندرج في تيار دعاة العدالة الاجتماعية من
روّاد الاصلاح العرب مثل رفاعة رافع الطهطاوي في "مناهج الألباب المصريّة في مباهج الآداب العصريّة" أو عبد الرّحمان الكواكبي في "أم القرى". لذلك يرى الحدّاد أنّ النّظام الاقتصادي الأمثل هو النظام التعاوني[57] القادر على خلق الرّأسمال الوطني في الصناعة والزراعة والتجارة وبناء اقتصاد يقوى على المنافسة وجدير بتحقيق السعادة للشعب.
بذلك يتوفر بناء المجتمع السّليم
الذي يطمح له الحدّاد مجتمع تنتفي فيه كل الأمراض والعاهات التي تنخر
واقعه المعيش، مجتمع متحرّر على مستوى الفرد والمجموعة يتساوى فيه الرّجل
بالمرأة ويقوم على التّعاون والاشتراكية. هل الحدّاد يتصوّر مجتمعه هذا
مخالفا لما يسمّيه بالمجتمعات المتمدّنة أو الحيّة؟ أي المجتمعات الغربيّة.
رغم انتقاداته لهذه المجتمعات وما تفشّى فيها من مظاهر الاستغلال
و"الفساد" (والتي كانت تصدم الحدّاد المسلم) فانّه كان عكس الكثير من
معاصريه الذين يتأفّفون من الحضارة الغربيّة ويصفونها بـ"الفجور والكفر"
ويتحنّنون إلى القديم كان الحدّاد ينادي بوجوب مسايرة التطوّر العام في
الأمم المتمدّنة وفتح النّفوس للمدنيّة الغربيّة لما فيها من المجد والقوّة
والحق[58] "لأن تيّار هذه الحضارة جارف لا يقاوم"[59]. لكن ذلك-في رأيه-
يجب أن يتمّ دون الذّوبان في حضارة الآخرين اذ كان الحدّاد من دعاة الحفاظ
على الذّاتية العربيّة وعلى الاسلام فيها، اسلام الاصلاح والتطوّر.
ماهي أدوات ووسائل التغيير في فكر الحدّاد؟
ان الاصلاح الشّامل الذي يدعو له الحدّاد يفترض عقلية جديدة ورجالا ينجزونه وأسسا يقوم عليها.
وبما أنّه حدّد مكمن التّأخّر في شعبه في تخلّف ذهنيته التي تقوم على
احتقار الذّات وانعدام الثقة بالنفس والجبن والتّسليم للأقدار والكسل
والجهل والجمود وعبادة الماضي فلا مناص في رأيه من تغيير هذه الذهنيّة وبث
الوعي والايمان بالذّات ولن يحصل ذلك إلاّ بالتربية بمفهومها الشامل[60]
داخل العائلة وخارجها للنشء وللكبار. لذلك اعطى الحدّاد أهميّة قصوى لدور
الأم في هذه المهمّة وأوجب تعليم المرأة وتثقيفها وتحريرها من سجن الحجاب
والمنزل ونادى بمساواتها مع الرّجل ليس فقط في القيمة الانسانية بل في
الحقوق وفي الشغل والوظائف والميراث واعتبر تحريرها الشرط الأوّل للتقدّم.
لقد كتب: "إنّ شعبا من الشعوب الطّامحة إلى المجد لا يمكن أن يبلغ منه ما
دام نصفه يعيش بهذه الحالة مقيما في ظلّ الخفاء الدّامس"[61]. فالمرأة
المثقّفة والمتحرّرة هي القادرة على القضاء على تلك التربية التقليدية
القائمة على الخوف والخرافة وتعطيل العقل والأنانيّة [62] لتغرس في أبنائها
حبّ الحياة و الوطن والتّوق للحريّة والفضيلة والحق وتقديس العقل[63].
لكن تغيير العقليات لا يقصره الحدّاد على التربية العائليّة بل يجب أن يشمل كذلك نظام التعليم
الذي انتقد عقمه إن كان في الزيتونة أو الكتاتيب ونادى بتعليم عصري شامل
تدرّس فيه العلوم الوضعيّة وكل العلوم الضروريّة باللّغة الأم، اللّغة
العربية[64]. والتّوعية يجب أن تشمل الكبار كما تشمل الصّغار لذا يهيب
الحدّاد بالنخبة المتعلّمة أن تتصل بالعامّة من الناس موعيّة ومرشدة لا أن
تبقى في برجها العاجي[65]. هذه الثقافة الجديدة التي يبشّر بها الحدّاد
كأداة للتحرّر والتّقدّم ويراها غاية ومطمحا يجب أن تنبني على حرية الرأي
والفكر كشرط للإبداع وتحقيق الذ ّات إذ يقول "لا علم إلاّ حيث يوجد الرّأي
ولا رأي إلاّ حيث يوجد العلم"[66] ولا فوز إلا بتحرير العقل. "إنّنا لا
نسمح حتّى الآن لعقولنا أن تنطلق من سجنها لتفكّر في رسم الخلاص والفوز
ونحن أحباب عواطفنا وأعداء عقولنا "[67].
إنّ الثّقة في النفس وإرادة الخروج من التّخلّف ونفظ غبار الماضي هي مقدّمات ضروريّة للنّهضة التي يرى عمادها في العلم والعمل
حتى أنّنا لا نقرأ نصّا للحدّاد دون أن نجد تمجيدا لهما. فهو مؤمن إيمانا
لا حدّ له بدور العلم في نهضة الشّعوب فهو مصدر القوّة والمجد وهو الأساس
الذي قامت عليه المدنيّة الغربيّة وهو باني قوّة الدّول الصّناعيّة حيث
ثوّر قوى الانتاج ومكّن من معرفة أسرار الطّبيعة وخلق وسائل السيطرة
والهيمنة على العالم واستعباد شعوبه. فلا مناص من الاقبال على النّهل من
العلوم في مفهومها الوضعي للخروج من الانحطاط ونسوق هنا بعض الأبيات
الشعريّة المتغنّية بالعلم :
"إذا أردنــا أن ننــال الرّغــائبـــا فليس لنــا غير العلــوم مطالبـــــا
بها بدّد الغرب الضّلال وجيشــه وقــاد بها نحو الحيــاة النجائبــــا"[68]
أو
"بـعقـل وعلـم تفـــوز شعـــوب بمنيتهـــا في مجـــــال الصـــــّدام
فتحـرق بالعلم عادات ســــــوء تصــول بحكم على الكلّ عـــام"[69]
و
"تقدّمت الأقوام بالعلـم واهتـدوا لما فيـه من بــأس يــردّ الكتائبــا
ونحن بأحكـام القضاء وقهـــــره نريد العلـى عفـوا ونأبى المتاعبــا"[70]
هنا
أيضا يندرج الحدّاد ضمن التيّار الاصلاحي العربي وخاصة رافده العلماني
الدّاعي إلى الاعتبار بتجربة الحضارة الغربيّة في بناء مجدها ووعيه
بمحوريّة العلم فيها ولا نخال الحدّاد المعروف بلهفه على المعرفة لم يطّلع
مثلا على كتابات عبد اللّه النّديم (1845-1896) أو قاسم أمين (1865-1905)
الذي يقول في كتابه "المرأة الجديدة": "وتيقنّا أنّه من
المستحيل أن يتم اصلاح ما في أحوالنا اذا لم يكن مؤسّسا على العلوم
العصريّة الحديثة"[71]وهي فكرة تتردّد باستمرار في أثرالحدّاد.
إنّ
النّهضة في فكر الحدّاد تقوم على العلم مع العمل. لذلك ينتقد الحدّاد كسل
أهل عصره وقعودهم وتسليم أمرهم للأقدار وتشكّيهم المستمر من منافسة الآخرين
من أروبيّين أو يهود وتظلّمهم للحكومات وتذلّلهم في طلب الاعانات داعيا
للعمل والكدّ والمثابرة معتبرا العمل مصدر الثروة في المجتمعات وقوّتها
مؤكّدا "أنّ الأمل طريق العمل والعمل هو أعظم واجب يتحتّم علينا القيام
به"[72] ومشدّاد على أنّ "العمل، العمل فهو الرّائد لنجاج المطالب
والرّغائب"[73]. ومن هنا نفهم أيضا توجّه الحدّاد الاشتراكي والإنساني
المتعاطف مع عالم الشّغّالين و الضعفاء.
إن كانت سبل التقدّم بالمجتمع والبلاد واضحة في فكر الحدّد فعلى من يضع يا ترى مسؤوليّة النّهوض وقيادة الشّعب؟
إنّ
المتتبّع لانتاجات الحدّاد الفكرية منذ مقالاته الصّحفيّة في العشرينات
إلى خواطره التي كتبها في صائفة 1933 أي قبل وفاته بسنتين ونيف (ديسمبر
1935) يدرك أنّ هذا المصلح يحمّل مسؤولية النّهوض بمشروعه الإصلاحي إلى
النّخبة الواعية من المثقّفين والشّباب لكن تجارب الحدّاد المريرة وخيباته
وربّما روحه الثائرة والمتعجّلة للتّغيير جعلته يعدّل من تفاؤله وثقته في
تلك النّخبة التي خذلت محمد علي الحامي سنة 1925 وتقاعست عن العمل الوطني
الجاد[74] وخذلته هو شخصيّا اذ كانت في أغلبها في صفّ المتهجّمين عليه اثر
صدور كتابه "امرأتنا في الشّريعة والمجتمع" (1930) وما
سجن فيه من عزلة وضيم جعلته يتبرّم من الشّعب وممّن يدّعون زعامته لكن لا
يفقد الأمل[75] في أن يرزق الشّعب "الصّوادح المعلنين"[76] لهدايته وإثارة
قواه ولما لا يظهر زعيم مستبد لقيادته[77] رغما عنه إلى المجد. يقول
الحدّاد في قصيد "متى ياشعب؟"
"متى ياشعب يولد فيك حـــــرّ يقــودك للحياة كمـا يراهـــا
لبعث النـــاس يلــزم مستبـــــدّ وأغـلال مـوثقــة عــراهـــــا
تقـاد بها الشّعـوب إلى التّرقـــي فيرشد عقلها وترى هداهـــا
وتسلــم مـن مخالـب خادعيهــا بدين الله كي تلقى رداهــا"[78]
تلك اذن سبل الرّقي عنده وطرق الخلاص من التّخلف.
خـــاتمـــة
إنّ
فكر الحدّاد وطروحاته كانت سابقة لعصره لذلك تمكّنت القوى المحافظة من
عزله وتكفيره لكن ما أخضع له هذا الرّائد المجتمع والعقليات من نقد شامل
وما أتى به من رؤية جريئة لتطوير النّص الدّيني القرآني واخضاعه لقانون
الحركة والتغيير في التاريخ ودعوته لإرساء الحريّة في الفكر وتحرير العقل
من الجمود والاستبداد كلّها أفكار وقضايا لا زالت قائمة وملحّة بعد مرور
أكثر من أربع وستّين سنة على وفاة هذا الرّجل الفذ مما يؤكّد على مكانة
الحدّاد في الفكر الاصلاحي في تونس وعند العرب عامّة.
عميرة عليّة الصغيّر.
المعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق