فمن سيُعيد إلى سيدي بوزيد رمزيتها؟
د. سالم لبيض
لا أحد يستطيع أن يزايد على المحكمة الإدارية، ولا أحد يستطيع اتهام قضاتها بقلة النزاهة أو بانعدامها، ولا أحد يمكنه وصمهم بالمحاباة والمحسوبية، ولا أحد بوسعه أن يعتبرهم من أنصار العريضة الشعبية وصاحبها الحامدي وحزبه حزب المحافظين التقدميين، أيديولوجيا أو سياسيا. فالمتداول لدى الطبقة السياسية والحقوقية في تونس هو نزاهة تلك المحكمة وإنصافها لكل من تقدم لها عارضا أمره عليها في زمن ما قبل الثورة. كثر هم الذين استرجعوا حقوقهم المهنية المادية والمعنوية من قبل المحكمة الإدارية ومنهم من كان مصنفا ضمن أعداء بن علي ونظام حكمه وحزبه الدستوري المستبد بالسلطة. ولهذه الأسباب مجتمعة كان من طبائع الأمور أن تُنصف قائمات العريضة التي أسقطتها الهيئة المستقلة للانتخابات ويستعيد أصحابها مكانهم الذي اختاره لهم الناخبون ضمن أعضاء المجلس التأسيسي. وقد يختلف المرء مع العريضة وصاحبها وحزبه ويصفه بما يشاء من النعوت في حدود ايطيقا الأعراف السياسية المتفق عليها أو حتى خارجها، لكن القبول بنتائج العملية الانتخابية بما في ذلك الأحكام القضائية للمحكمة الإدارية لا يُعد البتة من باب مساندة هذا الحزب أو ذاك وإنما هو مطمح قديم ونصر كبير في معركة الديمقراطية التي لم تنته بعد، من أجل إقامة النظام الديمقراطي التداولي السلمي كآلية في التسيير السياسي وفي التطور الاجتماعي. إن صعود هذا الحزب أو ذاك المرشح الذي قد نختلف معه أو نتناقض هو جزء لا يتجزأ من آليات العمل الديمقراطي وضروراته.
ووفق تلك الرؤية قامت المحكمة الإدارية بإصلاح ما أفسدته الهيئة المستقلة للانتخابات حيث أخطأت بصفة عفوية أو بسابق الإضمار والترصد في اللحظة التي من المفترض أن تنهي تلك الهيئة عملها الذي أنجزته بحِرفية عالية. فالقرار المتخذ بإسقاط قائمات العريضة لاسيما في سيدي بوزيد موطن الحامدي التقليدي وموطن عشيرته التي تحميه وموطن عصبيته التي تنصره وتأويه، لم يقبله الكثير من أنصاره كسلوك عفوي ناتج عن تطبيق القانون، ناهيك أنه يوجد مستفيدون مباشرون من الأحزاب السياسية التي احتلت المقاعد الشاغرة مباشرة، وحجتهم في ذلك هو أن ما ينسحب على القائمات المسقطة ينسحب أيضا على بقية قائمات العريضة وعلى كثير من الأحزاب السياسية الأخرى من الكتل والمجموعات المتصدرة للمشهد الانتخابي.
لا نريد القول بأن قرار الهيئة المستقلة للانتخابات الذي تضمن كثيرا من العشوائية في تطبيق المرسوم الانتخابي، كان وراء ما حدث في سيدي بوزيد من حرق ودمار للمنشآت العمومية بما في ذلك ذات الدور السيادي مثل المحكمة والبلدية والمؤسسات الأمنية وغيرها، ولكن لابد من الإقرار بأن بعض الهيئات القيادية سواء في هذه المرحلة الانتقالية الحساسة أو في غيرها من المراحل لا تمتلك هامشا للخطإ في قراراتها وسلوكياتها ومواقفها وهذا الأمر ينطبق أيضا على تصريحات قادة الأحزاب السياسية التي قد تلعب دور المذكي لتلك النيران المشتعلة.
لا بد من الإقرار أيضا بأن سيدي بوزيد لم تخسر منشآتها الاقتصادية والإدارية التي تضمّن بعضها أرشيفات ووثائق نادرة تمثل ذاكرة المجتمع المحلي والسجل المدني ومحاضر المجلس البلدي للمنطقة برمتها، وإنما خسرت رمزيتها التي وهبتها لها تضحيات أبنائها، خسرت رمزيتها التي أعطتها إياها انتفاضة 17 ديسمبر التي انتهت ثورة 14 جانفي.
إن سيدي بوزيد ليست إسما لمدينة عادية تشبه بقية المدن، سيدي بوزيد هي مدينة استثنائية في قاموس التسميات الذي يجب إعادة صياغته على وقع الثورة العربية والعالمية المستمرة في عالم اليوم التي حلُم بها يوما المناضل اليساري تروتسكي وكرّس حياته منظّرا لها، وتمنّى منظرو الثورة العربية أن يعيشوها ولكن الزمن لم يسعفهم. إن سيدي بوزيد هي رمز تلك الثورة الدائمة، فلا أحد ينكر اليوم دور سيدي بوزيد في إسقاط النظام الذي لا يكاد يوصف في حجم الاستبداد والفساد والعتو في تونس، ولا أحد يجب عليه أن يتنكر لدور سيدي بوزيد وثورتها في إسقاط نظام مبارك شديد الفساد والنسخة الأخرى لنظام بن علي، ولا أحد عليه أن يتنكر للحالة الثورية العربية المستشرية تسفيها لمقولة الاستثناء والخنوع الأبدي العربي، وإلى العالم الذي انتفض تحت أقدام الرأسمالية المتوحشة بسبب انتفاضة سيدي بوزيد.
إن رمزية سيدي بوزيد أكبر من توصّف في مقال معدود الكلمات مثل هذا. ولكن التذكير بها في كل مرة هو من مروءة الأخلاق ومن باب الاعتراف بحقائق التاريخ.
لقد كان على نخبتنا أن تتجاوز هذه المرحلة أي مرحلة الاعتراف إلى ما هو أسمى وأعزّ أي إلى تحويل المدينة التاريخية ذات الأفضال الكبيرة إلى رمز لكافة المدن والقرى، كان من الواجب وضع اسمها في السجلات والموسوعات العالمية، كان يجب أن تخلّد ذكراها من قبل الألسكو والإيسسكو واليونسكو المنظمات الثقافية الدولية المعروفة، كان يجب أن يطلق هذا الاسم على الشوارع وعلى الأزقة وعلى الأنهج وعلى الساحات في كافة مدن العالم وفي صدارتها مدننا وقرانا، فسيدي بوزيد الآن لا تقل أهمية عن قرطاج والقيروان وغرناطة وفاس ...، وجب على نخبنا السياسية القادمة إلى هرم الحكم بفضل سيدي بوزيد ورمزها المرحوم الشهيد محمد البوعزيزي الذي لولاه لما أتاها الحُكم صاغرا مطيعا، أن تقيم التماثيل لذلك البطل في ساحات المدن وتضع صوره في كافة المؤسسات التربوية والجامعية والثقافية والشبابية، وتجعل من ذكراه يوم عطلة رسمية، ليس للتبرك به كما قد يعتقد بعض الغلاة، وإنما لتثبيت رمزيته التي لا تأبى الانفصال عن رمزية ثورتنا ورمزية هذا الربيع العربي ورمزية التمرد على هذه المنظومة الاقتصادية والسياسية والعسكرية المتوحشة التي تحكم عالم اليوم، .. فمن سيعيد لسيدي بوزيد رمزيتها؟ أو لنقل من أضاع لسيدي بوزيد رمزيتها؟
د. سالم لبيض
لا أحد يستطيع أن يزايد على المحكمة الإدارية، ولا أحد يستطيع اتهام قضاتها بقلة النزاهة أو بانعدامها، ولا أحد يمكنه وصمهم بالمحاباة والمحسوبية، ولا أحد بوسعه أن يعتبرهم من أنصار العريضة الشعبية وصاحبها الحامدي وحزبه حزب المحافظين التقدميين، أيديولوجيا أو سياسيا. فالمتداول لدى الطبقة السياسية والحقوقية في تونس هو نزاهة تلك المحكمة وإنصافها لكل من تقدم لها عارضا أمره عليها في زمن ما قبل الثورة. كثر هم الذين استرجعوا حقوقهم المهنية المادية والمعنوية من قبل المحكمة الإدارية ومنهم من كان مصنفا ضمن أعداء بن علي ونظام حكمه وحزبه الدستوري المستبد بالسلطة. ولهذه الأسباب مجتمعة كان من طبائع الأمور أن تُنصف قائمات العريضة التي أسقطتها الهيئة المستقلة للانتخابات ويستعيد أصحابها مكانهم الذي اختاره لهم الناخبون ضمن أعضاء المجلس التأسيسي. وقد يختلف المرء مع العريضة وصاحبها وحزبه ويصفه بما يشاء من النعوت في حدود ايطيقا الأعراف السياسية المتفق عليها أو حتى خارجها، لكن القبول بنتائج العملية الانتخابية بما في ذلك الأحكام القضائية للمحكمة الإدارية لا يُعد البتة من باب مساندة هذا الحزب أو ذاك وإنما هو مطمح قديم ونصر كبير في معركة الديمقراطية التي لم تنته بعد، من أجل إقامة النظام الديمقراطي التداولي السلمي كآلية في التسيير السياسي وفي التطور الاجتماعي. إن صعود هذا الحزب أو ذاك المرشح الذي قد نختلف معه أو نتناقض هو جزء لا يتجزأ من آليات العمل الديمقراطي وضروراته.
ووفق تلك الرؤية قامت المحكمة الإدارية بإصلاح ما أفسدته الهيئة المستقلة للانتخابات حيث أخطأت بصفة عفوية أو بسابق الإضمار والترصد في اللحظة التي من المفترض أن تنهي تلك الهيئة عملها الذي أنجزته بحِرفية عالية. فالقرار المتخذ بإسقاط قائمات العريضة لاسيما في سيدي بوزيد موطن الحامدي التقليدي وموطن عشيرته التي تحميه وموطن عصبيته التي تنصره وتأويه، لم يقبله الكثير من أنصاره كسلوك عفوي ناتج عن تطبيق القانون، ناهيك أنه يوجد مستفيدون مباشرون من الأحزاب السياسية التي احتلت المقاعد الشاغرة مباشرة، وحجتهم في ذلك هو أن ما ينسحب على القائمات المسقطة ينسحب أيضا على بقية قائمات العريضة وعلى كثير من الأحزاب السياسية الأخرى من الكتل والمجموعات المتصدرة للمشهد الانتخابي.
لا نريد القول بأن قرار الهيئة المستقلة للانتخابات الذي تضمن كثيرا من العشوائية في تطبيق المرسوم الانتخابي، كان وراء ما حدث في سيدي بوزيد من حرق ودمار للمنشآت العمومية بما في ذلك ذات الدور السيادي مثل المحكمة والبلدية والمؤسسات الأمنية وغيرها، ولكن لابد من الإقرار بأن بعض الهيئات القيادية سواء في هذه المرحلة الانتقالية الحساسة أو في غيرها من المراحل لا تمتلك هامشا للخطإ في قراراتها وسلوكياتها ومواقفها وهذا الأمر ينطبق أيضا على تصريحات قادة الأحزاب السياسية التي قد تلعب دور المذكي لتلك النيران المشتعلة.
لا بد من الإقرار أيضا بأن سيدي بوزيد لم تخسر منشآتها الاقتصادية والإدارية التي تضمّن بعضها أرشيفات ووثائق نادرة تمثل ذاكرة المجتمع المحلي والسجل المدني ومحاضر المجلس البلدي للمنطقة برمتها، وإنما خسرت رمزيتها التي وهبتها لها تضحيات أبنائها، خسرت رمزيتها التي أعطتها إياها انتفاضة 17 ديسمبر التي انتهت ثورة 14 جانفي.
إن سيدي بوزيد ليست إسما لمدينة عادية تشبه بقية المدن، سيدي بوزيد هي مدينة استثنائية في قاموس التسميات الذي يجب إعادة صياغته على وقع الثورة العربية والعالمية المستمرة في عالم اليوم التي حلُم بها يوما المناضل اليساري تروتسكي وكرّس حياته منظّرا لها، وتمنّى منظرو الثورة العربية أن يعيشوها ولكن الزمن لم يسعفهم. إن سيدي بوزيد هي رمز تلك الثورة الدائمة، فلا أحد ينكر اليوم دور سيدي بوزيد في إسقاط النظام الذي لا يكاد يوصف في حجم الاستبداد والفساد والعتو في تونس، ولا أحد يجب عليه أن يتنكر لدور سيدي بوزيد وثورتها في إسقاط نظام مبارك شديد الفساد والنسخة الأخرى لنظام بن علي، ولا أحد عليه أن يتنكر للحالة الثورية العربية المستشرية تسفيها لمقولة الاستثناء والخنوع الأبدي العربي، وإلى العالم الذي انتفض تحت أقدام الرأسمالية المتوحشة بسبب انتفاضة سيدي بوزيد.
إن رمزية سيدي بوزيد أكبر من توصّف في مقال معدود الكلمات مثل هذا. ولكن التذكير بها في كل مرة هو من مروءة الأخلاق ومن باب الاعتراف بحقائق التاريخ.
لقد كان على نخبتنا أن تتجاوز هذه المرحلة أي مرحلة الاعتراف إلى ما هو أسمى وأعزّ أي إلى تحويل المدينة التاريخية ذات الأفضال الكبيرة إلى رمز لكافة المدن والقرى، كان من الواجب وضع اسمها في السجلات والموسوعات العالمية، كان يجب أن تخلّد ذكراها من قبل الألسكو والإيسسكو واليونسكو المنظمات الثقافية الدولية المعروفة، كان يجب أن يطلق هذا الاسم على الشوارع وعلى الأزقة وعلى الأنهج وعلى الساحات في كافة مدن العالم وفي صدارتها مدننا وقرانا، فسيدي بوزيد الآن لا تقل أهمية عن قرطاج والقيروان وغرناطة وفاس ...، وجب على نخبنا السياسية القادمة إلى هرم الحكم بفضل سيدي بوزيد ورمزها المرحوم الشهيد محمد البوعزيزي الذي لولاه لما أتاها الحُكم صاغرا مطيعا، أن تقيم التماثيل لذلك البطل في ساحات المدن وتضع صوره في كافة المؤسسات التربوية والجامعية والثقافية والشبابية، وتجعل من ذكراه يوم عطلة رسمية، ليس للتبرك به كما قد يعتقد بعض الغلاة، وإنما لتثبيت رمزيته التي لا تأبى الانفصال عن رمزية ثورتنا ورمزية هذا الربيع العربي ورمزية التمرد على هذه المنظومة الاقتصادية والسياسية والعسكرية المتوحشة التي تحكم عالم اليوم، .. فمن سيعيد لسيدي بوزيد رمزيتها؟ أو لنقل من أضاع لسيدي بوزيد رمزيتها؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق