الاثنين، 26 ديسمبر 2011

أرشيفات البوليس السياسي ملكية وطنية لا يجوز التصرف فيها.. د.سالم لبيض


رسالة إلى السيد وزير الداخلية المكلف بالإصلاح:
أرشيفات البوليس السياسي ملكية وطنية لا يجوز التصرف فيها
د.سالم لبيض

منذ زمن ليس بالبعيد طلع علينا السيد وزير الداخلية المكلف بالإصلاح في مشهد احتفالي وهو يستقبل مجموعة من الأطفال الأبرياء تحت أضواء الكاميرات وهم يرسمون ما يدور بخلدهم على جدران بيضاء، اكتشفنا بعد حين أنها جدران دهاليز وزارة الداخلية أو هو مجمّع الزنازين الموجودة أسفل تلك الوزارة. لقد كانت الوسائل المستخدمة ناعمة، فنية، جمالية، إنه الرسم في أرقى تجلياته. وفي زمن آخر صرّح الوزير نفسه إلى إحدى الصحف بأن أرشيف البوليس السياسي ستُعيّن له لجنة متعددة الاختصاصات من عسكريين وأمنيين وقضاة ومؤرخين لمعالجته بعد أن تُزال منه كافة المعطيات الشخصية المتعلقة بالذوات.
ولست أدري إن كان السيد الوزير قد أذن بطمس معالم الزنازين بحسابية السياسي ! أم بخشية رجل القانون ! أم بحذر رجل الأمن ! ولست أعلم هل أن السيد الوزير كان يستحضر حسّا متميزا لحماية ذاكرة شعب وحافظة هوية، كثيرا ما تعرضت للطمث في مراحل تاريخية ومفصلية من تاريخ تونس لفائدة مصالح ضيقة وحسابات شخصية، أم قادته رؤية أمنية محدودة لم تر في ذلك الرأسمال الرمزي من الرسوم على حيطان زنزانات الوزارة سوى أشكالا لا معنى لها ولا دلالة هذا في أفضل الحالات، أو هي عناصر إدانة، وفي ذلك الكم الهائل من الوثائق والتقارير الأمنية السياسية سوى معطيات قد تدين هذا الشخص أو تدعم ذاك.
السيد الوزير، اسمح لي بالتذكير بحقيقة بسيطة من المفترض أنها مشاعة بين كافة العارفين بعلوم الإنسان من التونسيين ومن غيرهم وهي أن للأرشيف علما قائما بذاته يدرّس للطلبة في معهد مختص ينفق عليه التونسيون من دافعي الضرائب، ويمنح شهادات علمية من الإجازة إلى الماجستير إلى الدكتوراه ويلتحق منهم العشرات بسوق الشغل سنويا. وللأرشيف كذلك مركزا وطنيا تعود نواته الأولى إلى زمن تولي خير الدين الوزارة الكبرى سنة 1874 تحت اسم خزينة مكاتيب الدولة ويسمى حاليا الأرشيف الوطني التونسي، يضم ملايين الوثائق الإدارية بما في ذلك الأمنية للفترتين الحسينية والاستعمارية والنزر القليل من الفترة البورقيبية. والأرشيفات في تونس بما في ذلك المؤسسة التي تنظم الأرشيف الوطني وتصونه وتحميه وتضعه على ذمة كافة المهتمين لاسيما الباحثين منهم، منظّمة بواسطة قانون يعتبر من أهم قوانين الأرشيفات ودور الوثائق والمخطوطات في العالم، كان أشرف على وضعه رجل من أفضل الخبراء في هذا المجال، بعد أن كان استفاد من الدول التي تعلمت كيف تحمي ذاكرتها بوصفها مصلحة وطنية عليا تحتل المرتبة السابقة على مصالح الأفراد.
السيد الوزير، إن الإجراء الذي اتخذتموه في شأن زنازين وزارة الداخلية يعد طمسا لتاريخ كافة المساجين السياسيين المنتمين إلى تيارات أيديولوجية وسياسية مختلفة تركوا بصماتهم على حيطان تلك الأقبية، بداية بالقوميين العرب من اليوسفيين في الخمسينيات والستينيات والبعثيين وحزب الشعب الثوري ثم سجناء الجبهة القومية التقدمية في بداية السبعينيات مرورا بجماعة قفصة من نفس الجبهة ومن الحركة الثورية لتحرير تونس وصولا إلى الثمانينيات وتحديدا القوميين اليساريين المعروفين بحركة التحرير الشعبية العربية التي كان يشرف عليها الكاتب الفلسطيني ناجي علوش، ثم اليساريين الماركسيين من حركة آفاق في الستينيات وإفرازاتها من عامل تونسي وشعلة ثم حزب العمال الشيوعي، وبعد ذلك جاء الدور على الإسلاميين في وسط الثمانينيات وطيلة عشرية التسعينيات والجماعات الإسلامية الأخرى من حزب تحرير وسلفيين وجهاديين وغيرهم، وحتى من حركات ليبرالية نشأت من صلب الحزب الدستوري نفسه. وبالتوازي مع ذلك كانت تزور دهاليز الوزارة مجموعات طلابية من مختلف الاتجاهات السياسية، من الطلبة العرب التقدميين الوحدويين والطلبة القوميين والطليعة الطلابية العربية ومن الوطنيين الديمقراطيين بفصائلهم ومن النقابيين الثوريين واتحاد الشباب الشيوعي والمناضلين الوطنيين الديمقراطيين والتروتسكيين، ومن مجموعات يسارية أخرى، ومن طلبة الاتجاه الإسلامي ثم حركة النهضة، ومن ناشطي التنظيمات النقابية الطلابية (اتحاد طلبة تونس والاتحاد التونسي للطلبة). وحظي الكثير من النقابيين (اتحاد الشغل ونقاباته) والحقوقيين(الرابطة التونسية لحقوق الإنسان) والإعلاميين والسياسيين المستقلين باستقبال مميز في تلك الزنازين. وإن الطمس الذي طال الأقوال والأشعار والتناهيد والبكاء والآلام والتعذيب والقهر وكافة أنواع الاعتداء الجسدي بما في ذلك اغتصاب الرجال والنساء، والقتل، الذي كان مرسوما بأشكال تعبيرية مختلفة، لم ينل من ذاكرة السجناء المنتمين إلى مختلف أطياف المجتمع السياسي والنقابي والطلابي فقط وإنما نال من الذاكرة السياسية لمجتمع بأكمله، فأولئك المساجين كانوا ولا يزالون يمثلون نخبة تونس السياسية على اختلافها وتنوعها وتناقضها.
السيد الوزير، إن أصحاب الشعارات والأقوال والأشعار الذين أعدمتم ذاكرتهم من على حيطان الزنازين وحرمتموهم من حقهم في أن يكونوا محتوى للدراسات والبحوث ومادة للأفلام الوثائقية، هم أنفسهم الذين تضجّ بهم ملفات وتقارير البوليس السياسي أحياء وأمواتا، لا فرق بين حياتهم الخاصة وحياتهم السياسية أو الثقافية أو العسكرية أو النقابية أو الطلابية أو النضالية، فهي تشكل كلا متكاملا لا يحق لأي كان طمسه بالكامل أو إتلاف جزء منه أو مسخه بأي وسيلة أو أي خلفية كانت. فإذا كان هناك حقوق وجب إرجاعها إلى أصحابها فإن المعطيات الخاصة ستدعم تلك الحقوق وإذا كان هناك علم سيُكتب بالاستناد إلى تلك الوثائق سيستفيد حتما من كل ما تحتويه الملفات من معلومات مهما بدا صغرها وعدم أهميتها. وللتذكير فقط يوجد نوع من البحوث السوسيو- تاريخية والانثروبولوجية يسمى الدراسات السيريةBiographique كثيرا ما تُعتمد فيها المعطيات الشخصية في تفسير الوقائع السياسية أو غير السياسية الكبرى والأدوار المتعلقة بالأفراد.
السيد الوزير، إن أرشيفات البوليس السياسي مثل غيرها من الأرشيفات بما فيها الأفلام المصورة وجب أن تخضع في تنظيمها لقانون الأرشيف فتوضع أولا في مكانها الطبيعي أي الأرشيف الوطني التونسي. ووفق ذلك القانون توجد آجال محددة في الإطلاع على الوثائق والمعطيات وتوظيفها للأغراض العلمية أو حتى الشخصية التي ليست الإدانة بالضرورة وإنما التثمين أيضا، منها ما يتم فتحه بعد 30 سنة وآخر بعد 50 سنة وثالثا بعد 100 سنة، وأن استعمال المعطيات الشخصية في الثلب والتشهير والتحقير والاعتداء الرمزي يخضع لأحكام قانونية تبت فيها المحاكم. ولذلك لا مناص من ترك هذه المسألة الهامة لأهل الذكر من المختصين وعلماء الإنسانيات بفروعها المتصلة بعلم الأرشيف وليس للمؤرخين فقط.
السيد الوزير، إن الأرشيفات لاسيما السياسية منها تمثل ثروة هامة في حياة الشعوب والأفراد وقد رأينا كيف أبدت الولايات المتحدة الأمريكية استعدادها لدفع ملايين الدولارات للحصول على نسخة الكترونية من أرشيف الحزب الشيوعي السوفياتي بعد سقوطه سنة 1991. ونعلم كذلك حجم الصعوبات التي تعترض المؤرخين والسوسيولوجين في جامعاتنا والأموال التي تنفق للإطلاع على الوثائق الإدارية والعسكرية التونسية التي ظلت محتكرة من قبل الإدارة الفرنسية في أرشيفات جيش البر بنانت وقصر فانسان وأرشيفات ما وراء البحار في مدينة أكس، وندرك المداخيل التي تدرها أرشيفات الدولة العثمانية التي كانت تونس من بين رعاياها على الحكومات التركية سواء بطريقة مباشرة عن طريق دفع معاليم محددة مقابل الإطلاع على الوثائق أو تصويرها ورقيا وإلكترونيا أو بطريقة غير مباشرة عند التنقل والإقامة والاستهلاك والتسوق، ويمكن أن نقدر الأهمية السياسية الآنية لبعض الوثائق الأرشيفية التي اعتقدنا أن دورها قد انتهى مثل تلك المتعلقة باغتيال الزعيمين الشهيدين فرحات حشاد وصالح بن يوسف إذ تمثل حججا لإدانة الحكومتين الاستعمارية والبورقيبية، ومادة على درجة قصوى من الأهمية في مجال الاستثمار الإعلامي والسينمائي والوثائقي، وبالإضافة إلى كل ذلك ندرك الميزانيات الضخمة التي تخصصها بعض الحكومات الغربية في صيانة وترميم الوثائق والمخطوطات لكي لا يصيبها التلف الطبيعي وفي تكوين المختصين للقيام بمهام الصيانة ، فكيف لنا أن نفكر مجرد التفكير في التخلص من جزء من أرشيفنا الوطني مهما كان حجم خطورة مضامينه؟
السيد الوزير، لقد عاشت النخب النقابية والمشتغلون بالوثائق تجربة مريرة في التعامل مع الأرشيف النقابي إبان أحداث الإضراب العام المعروف بالخميس الأسود سنة 1978 أو أثناء الاعتداء على مقرات الاتحاد العام التونسي للشغل سنة 1984 واحتلالها من قبل الميليشيات الدستورية. ففي تلك الأحداث تم إتلاف الوثائق النقابية فدُمرت ذاكرة الإتحاد وعثر على بعض وثائقه مستعملة في محلات العطرية و"الحماصة" بعد أن توزعت وتفتت وذهب ريحها، ونأمل أن يكون بعضها الآخر محفوظا بأرشيفات البوليس السياسي. ولكن الأهم هو الدرس المستفاد من وراء تلك التجربة وهو العمل قدر الإمكان على صيانة الأرشيف وحفظه، فالقاعدة العلمية في هذا المجال تقوم على أن لا وثيقة ميتة طالما هي موجودة ولم تتلف وإنما توجد وثيقة قيد الاستعمال والمقصود هنا الوثيقة الإدارية الحية وأخرى تنتظر الاستعمال لتنبعث فيها الحياة من جديد والمقصود هنا الوثيقة الأرشيفية مهما طالت مدة حفظها. ونأمل أن يعي المشرفون على الأرشيف السياسي وكافة الأرشيفات الإدارية لاسيما الأمنية منها والعسكرية أن الحفاظ على مخزوننا الوطني من الوثائق كما هي ودون تغيير أو تزييف أو طمس وتدمير هو مسؤولية تاريخية لاسيما في ظل هذه الثورة التي نأمل أن تكون قد أعادت تونس لأبنائها بعد أن كانت حديقة خلفية لغيرهم طيلة القرون الماضية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق