الجامعة والثورة والسلفية
د.سالم لبيض
ما من شك في أن أحد أكبر المكاسب التي عرفتها تونس خلال السنوات الخمسين المنقضية هي الجامعة التونسية، وما من شك كذلك في أن تلك الجامعة قد أُنشأت من عرق الفقراء ودافعي الضرائب من مختلف الطبقات والشرائح الاجتماعية وبالتالي فإن وجودها ليس مزية من النظام السياسي أو من هذا الشخص أو ذاك ممن تولى أمر البلاد كما يحلو للبعض ترويجه. ولكن من حقائق الأمور اليوم هو أن الجامعة التونسية التي تنامى عدد طلابها في السنوات الأخيرة إلى أكثر من 350 ألف طالب تحتضنهم ما يناهز 200 مؤسسة جامعية لم تبرز منها إلا تلك المعطيات الكمية التي كثيرا ما افتخر بها نظام بن علي وتباهى، مع أن جامعاتنا المحدثة لم تكن لتجد لها مكانا في خارطة التصنيفات العالمية أو هي مصنفة خارج الترتيب، وهذه حقيقة كان يعرفها كافة المهتمين بالشأن العام في تونس وخارجها (انظر تصنيف جامعة شنغهاي 2010 حيث تحتل أفضل الجامعات التونسية وهي جامعة سوسة الرتبة 6719 عالميا). وبعيدا عن سياسة التزييف التي مارسها النظام السابق والذي لم ينج منها حتى تاريخ تأسيس الجامعة حيث جاء في مؤلف خمسينية الجامعة التونسية الذي أصدرته وزارة التعليم العالي أيام الوزير البوعوني أن بعث الجامعة كان سنة 1958 وهو ما خوّل له زورا الاحتفال بخمسينيتها سنة 2008 ولم يكن له من هدف من وراء ذالك الإجراء سوى ترسيخ ذكراه إلى جانب ذكرى المؤسسة الجامعية والتقرب بذلك من ولي نعمته بن علي الذي ناله شرف كتابة رسالة خاصة نشرت بخط يده في أولى صفحات الكتاب وهو الرجل الأمي قراءة وكتابة، في حين أن التاريخ الحقيقي لتأسيس الجامعة التونسية إما أن يكون سنة 1956 مع بعث دار المعلمين العليا أو سنة 1960 مع صدور قانون إحداث الجامعة. وبعيدا عن تلك السياسة الدعائية التي كانت توظف كل شيء لصالح السياسي، لا بد من الاعتراف بأن جامعاتنا كانت تعيش خلال العقود المنقضية أزمة مزمنة شبيهة بأزمة الجامعة الفرنسية بوصفها مستنسخة منها (انظر العدد الهام من مجلة موس
- Revue du Mauss ; L’université en Crise Mort ou Résurrection n 33
Premier semestre 2009 ; 384 p )
إن مظاهر أزمة الجامعة التونسية كثيرة جدا، منها ما هو متعلق بجمهرة Massification الجامعة بسبب الصبغة السياسية لامتحان الباكالوريا بعد أن حاد عن وظيفته العلمية، ومنها ما هو متعلق بالبنية الأساسية الضعيفة أو المنعدمة خاصة في المؤسسات الناشئة حيث تُفتقد المكتبات والتجهيزات، ومنها ما هو متعلق بظروف الطالب المتردية جدا في مستويات السكن والمعيشة والمنحة(50 دينار شهريا)، ومنها وما هو متعلق بنظام التكوين لاسيما النظام المعروف بأمد المستنسخ من التجارب الأروبية ودولها المانحة، والمدعوم بقروض البنك الدولي، الذي أعطى نتائج كارثية فيما يتعلق بنوعية الخريجين وأفقد الحياة الجامعية صبغتها الأكاديمية وحوّل الجامعة إلى مؤسسة للمهننة وتعلُم بعض الحرف والصنائع على غرار مدارس التكوين المهني ولكن بأكثر سوء. ومن مظاهر الأزمة المستعصية والمعقدة نوعية الجامعي ففي السنوات الأخيرة ولسد الفراغ الذي سبّبه العدد الكبير من الطلبة وقع الاستنجاد بالموظف السامي للتدريس ووصلنا إلى مرحلة تدريس الطالب للطالب، هذا ناهيك عن أنظمة الترقية الجائرة والأجور الجامعية المصنفة في أسفل السلم العالمي حيث يتقاضى أستاذ التعليم العالي في حدود 1000 أورو وهو ما يتقاضاه الطالب في شكل منحة، ويتقاضاه صاحب الأجر الأدنى في أروبا، ولا يتجاوز أجر مساعد التعليم العالي وهي أدنى رتبة في السلم الجامعي، سوى 600 أورو(اعتمدنا الأورو وليس الدينار في القياس لأن المتطلبات الجامعية لا تصنف محليا وإنما عالميا)، وهذه الأجور الضعيفة مقارنة بالجامعيين على مستوى عالمي ومقارنة بكوادر الدولة وما يتمتعون به من امتيازات، تعكس المقدرة الشرائية المتدنية للجامعي وتدفعه إلى القيام بأعمال أخرى موازية لسداد نفقات حياته المرتفعة من كونه ينتمي نظريا إلى الطبقات المترفهة، ويدفعه كذلك إلى الارتماء في أحضان حزب التجمع الحاكم الذي اشترى منه كرامته وحريته واستقلالية موقفه مقابل المنصب والمرتبة الإدارية التي تحصل عليها هذا الأستاذ أو ذاك(2772 استاذ تجمعي سنة 2002 انظر كتاب زهير مظفر من الحزب الواحد إلى حزب الأغلبية).
لم تكن أزمة الجامعة سوى جزء لا يتجزأ من أزمة مجتمع بكاملة عمل نظام بن على تعطيل ديناميته الاجتماعية والسياسية ومن ثمة الهيمنة عليه بواسطة مؤسسات الدولة التي اخترقها الفساد والاستبداد فتحولت جهازا معاديا للمجتمع الذي تنظمه. وقد جاءت ثورة 14 جانفي تتويجا لحركة احتجاجية بدأت بمضامين اجتماعية في 17 ديسمبر سرعان ما أخذت أبعادا سياسية تطالب بتغيير النظام. لكن المفارقة تكمن في أن الثورة لم تقدها الشرائح الجامعية والنخب التي تمتهن الفكر وهي الأكثر وعيا من بين مختلف الشرائح وإنما فجّرتها وقادها وانتصرت فيها شرائح أخرى أقرب من عامة الناس رغم أنها أقل وعيا مقارنة بالجامعيين. المفارقة أيضا في أن الجامعيون لم يعيشوا الثورة الملتهبة في سيدي بوزيد والقصرين منذ 17 ديسمبر 2010 إلا في 12 جانفي 2011 وذلك من خلال التجمع الذي لم يتجاوز بضع مئات من الأشخاص في كلية الحقوق بتونس قبل أن يتجهوا في ذلك اليوم إلى مقر جامعة تونس المنار الذي لا يبعد سوى مئات الأمتار، بل هناك من يتحدث آنذاك عن حياده تجاه ما يجري في البلاد يوم سقوط العدد الأكبر من الشهداء في القصرين وتالة ويوم أن سقط زميلنا حاتم بن طاهر شهيدا في موطنه مدينة دوز فنالت معه شرف الشهادة ولم تنلها معه الجامعة لأنها لم تكن مسرحا للإحداث الاحتجاجية كما كانت زمن أوجها. وبعد يومين فقط من ذلك التاريخ سقط بن علي ولكن الرسالة التي وُجهت للجامعيين أن مجيئكم قد جاء متأخرا جدا أو هو منعدم إذا ما استثنينا المشاركات الفردية لبعض الجامعيين المنخرطين في بعض أحزاب المعارضة وعددهم كان قليلا جدا أو البعض الآخر من المهتمين بالشأن العام. ولعل تلك المشاركات المحتشمة جدا في مستوى مقالات الرأي الداعمة للانتفاضة الشعبية التي عمت مختلف مناطق البلاد وهذا من وظيفة الجامعي الأساسية، وفي مستوى التظاهر والاحتجاج في الشوارع، أو هو الغياب شبه الكلي للجامعة هو الذي أقصاها من النقاش السياسي الذي تعيشه البلاد منذ 17 ديسمر 2010 إلى اليوم وحرم الكثير من الجامعيين من الوصول إلى المجلس التأسيسي بعد أن اعتقدوا أن ذلك الأمر يسيرا بالنسبة إليهم، بينما نال شرف الانتماء إلى المجلس أشخاص من شرائح اجتماعية ابعد ما تكون عن النخبة الجامعية ولكنها أقرب إلى عامة الناس وهمومهم. ومن غير المبالغة القول أن الجامعة التونسية حُيدت أو حيدت نفسها عما يجري في البلاد بسبب هذا التمشي الفوقي الذي انتهجته أو انتهجه جامعيوها، وكنا ننتظر طيلة الفترة المنقضية لاسيما بعد الثورة أن يثير الجامعيون ونقاباتهم ومختلف الأطر المنظمة للحياة الجامعية القضايا الحقيقية للجامعة وخاصة التفقير المنظم الذي مارسه بن علي على الجامعيين والتهميش الممنهج الذي أقصى الجامعة من لعب أي دور في الحياة العامة وأن تتحول إلى منبر للنقاش السياسي والفكري والأكاديمي لكل ما يدور فيها ومن حولها إضافة إلى دورها في التدريس والبحث كما هو حال أغلب جامعات الدنيا، ولكن الذي حدث غير ذلك بالمرة، فقد تحولت الجامعة إلى مؤسسة بفلوفية لا تتقن إلا رد الفعل تجاه مثير خارجي يسمى السلفية، حدث ذلك في سوسة وفي قابس وفي الزيتونة وفي القيروان ومنوبة اولا وفي منوبة أخيرا ولا نعتقد أن هذا المسلسل سينتهي قريبا فكلما حضرت السلفية تحركت في مواجهتها الجامعة وكلما غابت السلفية عن المشهد أعفى الجامعيون أنفسهم من عناء التحرك. لقد انخرط الكثير من الجامعيين في الاحتجاج تجاه الخطر الداهم المسمى بالسلفية وظاهرة النقاب وخطورتها على الحريات الشخصية، وتعالت الأصوات المنادية بتحييد الجامعة وعدم تسييسها وانتضمت الإضرابات والاعتصام وتوجه الجمع إلى المجلس التأسيسي، وما من شك في أن كل ذلك مشروعا في مناخ الحريات الذي وفرته الثورة لمن شارك فيها ولمن لم يشارك، وأن النقاش والاحتجاج والاعتصام والتظاهر الذي لا يصل درجة ممارسة العنف على الغير بأي مسوغ كان هو أمرا طبيعيا بل وضروريا في مشهد متعدد متنوع وهو من مقتضيات لعبة الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة، وأن القبول بكل مكونات المشهد السياسي والفكري والأيديولوجي في الجامعة هو من طبيعتها بوصفها مؤسسة تنتج الأفكار والمعرفة ولعلها تحتكر ذلك وهو في رأيي أمرا ضروريا وحيويا . وإن هذا المناخ المفتوح داخل الجامعة من النقاش والحوار وتبادل الأفكار وتصحيح المفاهيم سواء كان في الأطر الشكلية أو على هامشها هو وحده الذي سيصلح السياسات الجامعية الفاسدة التي اقترفتها أيادي القائمين على الجامعة زمن بن علي والتي أدت من ضمن ما أدت إليه بروز الظواهر المتطرفة الدينية وغير الدينية التي انتصرت على ما يبدو على ما أنتجته المؤسسة التعليمية الجامعية وغير الجامعية التي روجت يوما للعقلانية والحداثة والتسامح. ولنا من تاريخ الحركة الطلابية دروس، فقد كانت تلك الحركة تشكل مجتمعا فكريا وايديولوجيا موازيا للمجتمع العلمي منذ الستينيات وحتى بداية التسعينيات، ولقد تربى أغلب كوادر الأحزاب والتنظيمات السياسية والنقابية والحقوقية المشتغلة اليوم في تلك المدرسة. إن النقاش السياسي والفكري الحر والمفتوح في الجامعة هو الوحيد القادر على الإقناع على سبيل المثال بأن لون الإسلام لم يكن يوما السواد القاتم وإنما هي الألوان المتعددة للشعوب وألسنتها وبالتالي ثقافاتها المختلفة وأن أشكال اللباس هي جزء من عادات الشعوب وتقاليدها وثقافاتها التي تنتجها ألسنتها متفاعلة مع محيطها الاجتماعي والثقافي والبيئي، وأن الإسلام لا يميل إلى العنف والدليل أن أكبر الشعوب الإسلامية في أندونيسيا ونيجيريا وغيرها لم يدخلها فارس مقاتل واحد وإنما دخلها تجار ينشرون الكلمة التي كانت أكثر وقعا من السيف والمدفع، وأن العلم فريضة تطلب ولو كانت في الصين وسكان الصين زمن الرسول لم يكونوا من المسلمين أو المؤمنين ومع ذلك فإن طلب علمهم واجب متأكد مع أنه علم وضعي وليس علما دينيا ...إلخ ، وخلاصة القول هو أن الجامعة مطالبة بالخوض في قضايا حقيقية تهمها وتهم المجتمع ومطالبة بأن تكون مفتوحة للجميع بدون إقصاء وبعيدا عن ممارسة أي شكل من أشكال العنف وأن تحييدها عن التوظيف السياسي لهذا الطرف أو ذاك من الطلبة أو الأساتذة أمر بات متأكدا.
د.سالم لبيض
ما من شك في أن أحد أكبر المكاسب التي عرفتها تونس خلال السنوات الخمسين المنقضية هي الجامعة التونسية، وما من شك كذلك في أن تلك الجامعة قد أُنشأت من عرق الفقراء ودافعي الضرائب من مختلف الطبقات والشرائح الاجتماعية وبالتالي فإن وجودها ليس مزية من النظام السياسي أو من هذا الشخص أو ذاك ممن تولى أمر البلاد كما يحلو للبعض ترويجه. ولكن من حقائق الأمور اليوم هو أن الجامعة التونسية التي تنامى عدد طلابها في السنوات الأخيرة إلى أكثر من 350 ألف طالب تحتضنهم ما يناهز 200 مؤسسة جامعية لم تبرز منها إلا تلك المعطيات الكمية التي كثيرا ما افتخر بها نظام بن علي وتباهى، مع أن جامعاتنا المحدثة لم تكن لتجد لها مكانا في خارطة التصنيفات العالمية أو هي مصنفة خارج الترتيب، وهذه حقيقة كان يعرفها كافة المهتمين بالشأن العام في تونس وخارجها (انظر تصنيف جامعة شنغهاي 2010 حيث تحتل أفضل الجامعات التونسية وهي جامعة سوسة الرتبة 6719 عالميا). وبعيدا عن سياسة التزييف التي مارسها النظام السابق والذي لم ينج منها حتى تاريخ تأسيس الجامعة حيث جاء في مؤلف خمسينية الجامعة التونسية الذي أصدرته وزارة التعليم العالي أيام الوزير البوعوني أن بعث الجامعة كان سنة 1958 وهو ما خوّل له زورا الاحتفال بخمسينيتها سنة 2008 ولم يكن له من هدف من وراء ذالك الإجراء سوى ترسيخ ذكراه إلى جانب ذكرى المؤسسة الجامعية والتقرب بذلك من ولي نعمته بن علي الذي ناله شرف كتابة رسالة خاصة نشرت بخط يده في أولى صفحات الكتاب وهو الرجل الأمي قراءة وكتابة، في حين أن التاريخ الحقيقي لتأسيس الجامعة التونسية إما أن يكون سنة 1956 مع بعث دار المعلمين العليا أو سنة 1960 مع صدور قانون إحداث الجامعة. وبعيدا عن تلك السياسة الدعائية التي كانت توظف كل شيء لصالح السياسي، لا بد من الاعتراف بأن جامعاتنا كانت تعيش خلال العقود المنقضية أزمة مزمنة شبيهة بأزمة الجامعة الفرنسية بوصفها مستنسخة منها (انظر العدد الهام من مجلة موس
- Revue du Mauss ; L’université en Crise Mort ou Résurrection n 33
Premier semestre 2009 ; 384 p )
إن مظاهر أزمة الجامعة التونسية كثيرة جدا، منها ما هو متعلق بجمهرة Massification الجامعة بسبب الصبغة السياسية لامتحان الباكالوريا بعد أن حاد عن وظيفته العلمية، ومنها ما هو متعلق بالبنية الأساسية الضعيفة أو المنعدمة خاصة في المؤسسات الناشئة حيث تُفتقد المكتبات والتجهيزات، ومنها ما هو متعلق بظروف الطالب المتردية جدا في مستويات السكن والمعيشة والمنحة(50 دينار شهريا)، ومنها وما هو متعلق بنظام التكوين لاسيما النظام المعروف بأمد المستنسخ من التجارب الأروبية ودولها المانحة، والمدعوم بقروض البنك الدولي، الذي أعطى نتائج كارثية فيما يتعلق بنوعية الخريجين وأفقد الحياة الجامعية صبغتها الأكاديمية وحوّل الجامعة إلى مؤسسة للمهننة وتعلُم بعض الحرف والصنائع على غرار مدارس التكوين المهني ولكن بأكثر سوء. ومن مظاهر الأزمة المستعصية والمعقدة نوعية الجامعي ففي السنوات الأخيرة ولسد الفراغ الذي سبّبه العدد الكبير من الطلبة وقع الاستنجاد بالموظف السامي للتدريس ووصلنا إلى مرحلة تدريس الطالب للطالب، هذا ناهيك عن أنظمة الترقية الجائرة والأجور الجامعية المصنفة في أسفل السلم العالمي حيث يتقاضى أستاذ التعليم العالي في حدود 1000 أورو وهو ما يتقاضاه الطالب في شكل منحة، ويتقاضاه صاحب الأجر الأدنى في أروبا، ولا يتجاوز أجر مساعد التعليم العالي وهي أدنى رتبة في السلم الجامعي، سوى 600 أورو(اعتمدنا الأورو وليس الدينار في القياس لأن المتطلبات الجامعية لا تصنف محليا وإنما عالميا)، وهذه الأجور الضعيفة مقارنة بالجامعيين على مستوى عالمي ومقارنة بكوادر الدولة وما يتمتعون به من امتيازات، تعكس المقدرة الشرائية المتدنية للجامعي وتدفعه إلى القيام بأعمال أخرى موازية لسداد نفقات حياته المرتفعة من كونه ينتمي نظريا إلى الطبقات المترفهة، ويدفعه كذلك إلى الارتماء في أحضان حزب التجمع الحاكم الذي اشترى منه كرامته وحريته واستقلالية موقفه مقابل المنصب والمرتبة الإدارية التي تحصل عليها هذا الأستاذ أو ذاك(2772 استاذ تجمعي سنة 2002 انظر كتاب زهير مظفر من الحزب الواحد إلى حزب الأغلبية).
لم تكن أزمة الجامعة سوى جزء لا يتجزأ من أزمة مجتمع بكاملة عمل نظام بن على تعطيل ديناميته الاجتماعية والسياسية ومن ثمة الهيمنة عليه بواسطة مؤسسات الدولة التي اخترقها الفساد والاستبداد فتحولت جهازا معاديا للمجتمع الذي تنظمه. وقد جاءت ثورة 14 جانفي تتويجا لحركة احتجاجية بدأت بمضامين اجتماعية في 17 ديسمبر سرعان ما أخذت أبعادا سياسية تطالب بتغيير النظام. لكن المفارقة تكمن في أن الثورة لم تقدها الشرائح الجامعية والنخب التي تمتهن الفكر وهي الأكثر وعيا من بين مختلف الشرائح وإنما فجّرتها وقادها وانتصرت فيها شرائح أخرى أقرب من عامة الناس رغم أنها أقل وعيا مقارنة بالجامعيين. المفارقة أيضا في أن الجامعيون لم يعيشوا الثورة الملتهبة في سيدي بوزيد والقصرين منذ 17 ديسمبر 2010 إلا في 12 جانفي 2011 وذلك من خلال التجمع الذي لم يتجاوز بضع مئات من الأشخاص في كلية الحقوق بتونس قبل أن يتجهوا في ذلك اليوم إلى مقر جامعة تونس المنار الذي لا يبعد سوى مئات الأمتار، بل هناك من يتحدث آنذاك عن حياده تجاه ما يجري في البلاد يوم سقوط العدد الأكبر من الشهداء في القصرين وتالة ويوم أن سقط زميلنا حاتم بن طاهر شهيدا في موطنه مدينة دوز فنالت معه شرف الشهادة ولم تنلها معه الجامعة لأنها لم تكن مسرحا للإحداث الاحتجاجية كما كانت زمن أوجها. وبعد يومين فقط من ذلك التاريخ سقط بن علي ولكن الرسالة التي وُجهت للجامعيين أن مجيئكم قد جاء متأخرا جدا أو هو منعدم إذا ما استثنينا المشاركات الفردية لبعض الجامعيين المنخرطين في بعض أحزاب المعارضة وعددهم كان قليلا جدا أو البعض الآخر من المهتمين بالشأن العام. ولعل تلك المشاركات المحتشمة جدا في مستوى مقالات الرأي الداعمة للانتفاضة الشعبية التي عمت مختلف مناطق البلاد وهذا من وظيفة الجامعي الأساسية، وفي مستوى التظاهر والاحتجاج في الشوارع، أو هو الغياب شبه الكلي للجامعة هو الذي أقصاها من النقاش السياسي الذي تعيشه البلاد منذ 17 ديسمر 2010 إلى اليوم وحرم الكثير من الجامعيين من الوصول إلى المجلس التأسيسي بعد أن اعتقدوا أن ذلك الأمر يسيرا بالنسبة إليهم، بينما نال شرف الانتماء إلى المجلس أشخاص من شرائح اجتماعية ابعد ما تكون عن النخبة الجامعية ولكنها أقرب إلى عامة الناس وهمومهم. ومن غير المبالغة القول أن الجامعة التونسية حُيدت أو حيدت نفسها عما يجري في البلاد بسبب هذا التمشي الفوقي الذي انتهجته أو انتهجه جامعيوها، وكنا ننتظر طيلة الفترة المنقضية لاسيما بعد الثورة أن يثير الجامعيون ونقاباتهم ومختلف الأطر المنظمة للحياة الجامعية القضايا الحقيقية للجامعة وخاصة التفقير المنظم الذي مارسه بن علي على الجامعيين والتهميش الممنهج الذي أقصى الجامعة من لعب أي دور في الحياة العامة وأن تتحول إلى منبر للنقاش السياسي والفكري والأكاديمي لكل ما يدور فيها ومن حولها إضافة إلى دورها في التدريس والبحث كما هو حال أغلب جامعات الدنيا، ولكن الذي حدث غير ذلك بالمرة، فقد تحولت الجامعة إلى مؤسسة بفلوفية لا تتقن إلا رد الفعل تجاه مثير خارجي يسمى السلفية، حدث ذلك في سوسة وفي قابس وفي الزيتونة وفي القيروان ومنوبة اولا وفي منوبة أخيرا ولا نعتقد أن هذا المسلسل سينتهي قريبا فكلما حضرت السلفية تحركت في مواجهتها الجامعة وكلما غابت السلفية عن المشهد أعفى الجامعيون أنفسهم من عناء التحرك. لقد انخرط الكثير من الجامعيين في الاحتجاج تجاه الخطر الداهم المسمى بالسلفية وظاهرة النقاب وخطورتها على الحريات الشخصية، وتعالت الأصوات المنادية بتحييد الجامعة وعدم تسييسها وانتضمت الإضرابات والاعتصام وتوجه الجمع إلى المجلس التأسيسي، وما من شك في أن كل ذلك مشروعا في مناخ الحريات الذي وفرته الثورة لمن شارك فيها ولمن لم يشارك، وأن النقاش والاحتجاج والاعتصام والتظاهر الذي لا يصل درجة ممارسة العنف على الغير بأي مسوغ كان هو أمرا طبيعيا بل وضروريا في مشهد متعدد متنوع وهو من مقتضيات لعبة الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة، وأن القبول بكل مكونات المشهد السياسي والفكري والأيديولوجي في الجامعة هو من طبيعتها بوصفها مؤسسة تنتج الأفكار والمعرفة ولعلها تحتكر ذلك وهو في رأيي أمرا ضروريا وحيويا . وإن هذا المناخ المفتوح داخل الجامعة من النقاش والحوار وتبادل الأفكار وتصحيح المفاهيم سواء كان في الأطر الشكلية أو على هامشها هو وحده الذي سيصلح السياسات الجامعية الفاسدة التي اقترفتها أيادي القائمين على الجامعة زمن بن علي والتي أدت من ضمن ما أدت إليه بروز الظواهر المتطرفة الدينية وغير الدينية التي انتصرت على ما يبدو على ما أنتجته المؤسسة التعليمية الجامعية وغير الجامعية التي روجت يوما للعقلانية والحداثة والتسامح. ولنا من تاريخ الحركة الطلابية دروس، فقد كانت تلك الحركة تشكل مجتمعا فكريا وايديولوجيا موازيا للمجتمع العلمي منذ الستينيات وحتى بداية التسعينيات، ولقد تربى أغلب كوادر الأحزاب والتنظيمات السياسية والنقابية والحقوقية المشتغلة اليوم في تلك المدرسة. إن النقاش السياسي والفكري الحر والمفتوح في الجامعة هو الوحيد القادر على الإقناع على سبيل المثال بأن لون الإسلام لم يكن يوما السواد القاتم وإنما هي الألوان المتعددة للشعوب وألسنتها وبالتالي ثقافاتها المختلفة وأن أشكال اللباس هي جزء من عادات الشعوب وتقاليدها وثقافاتها التي تنتجها ألسنتها متفاعلة مع محيطها الاجتماعي والثقافي والبيئي، وأن الإسلام لا يميل إلى العنف والدليل أن أكبر الشعوب الإسلامية في أندونيسيا ونيجيريا وغيرها لم يدخلها فارس مقاتل واحد وإنما دخلها تجار ينشرون الكلمة التي كانت أكثر وقعا من السيف والمدفع، وأن العلم فريضة تطلب ولو كانت في الصين وسكان الصين زمن الرسول لم يكونوا من المسلمين أو المؤمنين ومع ذلك فإن طلب علمهم واجب متأكد مع أنه علم وضعي وليس علما دينيا ...إلخ ، وخلاصة القول هو أن الجامعة مطالبة بالخوض في قضايا حقيقية تهمها وتهم المجتمع ومطالبة بأن تكون مفتوحة للجميع بدون إقصاء وبعيدا عن ممارسة أي شكل من أشكال العنف وأن تحييدها عن التوظيف السياسي لهذا الطرف أو ذاك من الطلبة أو الأساتذة أمر بات متأكدا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق