العلمانية المؤمنة د.سالم لبيض هذا المصطلح السحري الذي استخدمه أردوغان أثناء زيارته الأخيرة لمصر ولقي هجوما بسببه من قبل بعض قادة حركة الإخوان المسلمين، كان أصّله الشيخ راشد الغنوشي في مقال قصير ولكنه هام نشرته مجلة المستقبل العربي البيروتية في عددها 359 سنة 2009 بعنوان "الإسلام والعلمانية"، معتبرا أن ذلك النوع من العلمانية "لا يعترضها من مصادر الإسلام معترض". المقال يكاد يفصل فصلا تاما بين المجال السياسي بما هو شأن دنيوي والمجال الديني بما هو مجال تعبدي، ولكنه ترك هامشا من الرقابة الدينية على السلطة السياسية، ومع ذلك لم يسلم من انتقادات الباحث علي خليفة الكواري المشهود له في الدراسات حول الديمقراطية وذلك في مقال بعنوان "لا تقوم الديمقراطية في ظل حكومة دينية مناقشة لرأي الأستاذ راشد الغنوشي" نشرته المستقبل العربي في عددها 362. لقد كان انطباعي حينها هو أن الشيخ الغنوشي يتحوّل تدريجيا في أفكاره من مقولة الحاكمية الإلهية التي ورثها عن الجماعات الإخوانية والجهادية المشرقية لاسيما القطبية(نسبة إلى سيد قطب) إلى نوع من اللائكية المقيدة، وإن كنت ميالا إلى اعتبار أن تلك العلمانية المؤمنة ليست سوى تسمية جديدة مغازلة للعلمانيين لأن ما قيل فيها يندرج ضمن خصائص الدولة المدنية التي عرفها العرب منذ زمن الصحيفة ولم تكن سوى نتاج للعصبية بمعناه القرابي أو الأيديولوجي والعقدي. ولما قرأت برنامج حركة النهضة الصادر مؤخرا في 365 نقطة تأكد لي مفعول ذلك المقال على الرؤية السياسية الجديدة لهذه الحركة. فالبرنامج على درجة من الثراء ويمسح كافة مجالات تدخل السلطة، والمتأمل فيه جيدا لا يجد ما يحيل على أنه برنامج حركة إسلامية نشأت نشأة إخوانية إلا إذا استثنينا بعض التلميحات الواردة فيه بصفة محدودة باستخدام كلمة الإسلامية من حين لآخر. لقد انتابني الشك بأني بصدد قراءة برنامج حركة سياسية ليبرالية لو أني لم أكن أعرف أدبيات الحركة وأفكارها الكبرى وأيديولوجيتها. لكن ذلك يُسجل للنهضة في أنها باتت قادرة على استثمار جهد نخبة الخبراء في وضع تصور للحكم متجاوزة كافة أشكال التمترس الأيديولوجي التقليدي الذي لا يزال يكبّل حركات سياسية أخرى لا تعوزها الجماهيرية والنضالية والمصداقية وإنما تنقصها التصورات العملية. لقد تضمن البرنامج عدة رسائل مهمة ومطمئنة في نفس الوقت، أولها لمراكز القوى الداخلية التي استولت على الحكم بدون وجه حق ليلة هروب بن علي، في أن التوجهات الكبرى للدولة التي رُسمت بعد فشل التعاضد وتبلورت مع الإصلاح الهيكلي بداية من وسط الثمانينيات في مجالات الاقتصاد والمال والعقار والسياسات الاجتماعية والثقافية والتربوية لا يزال قائما. ثانيها أن الارتباط بالقوى الدولية الأمريكية منها والأروبية والمعاهدات المبرمة معها لاسيما اتفاقية الشراكة الأوروبية والمطالبة بالشريك المتميز والانفتاح على الأسواق العالمية والمحافظة على مصالح المستثمرين الأجانب ومزيد استقطابهم للسوق التونسية لا يزال ثابتا. لكن الرسالة المهمة التي من المفترض أن يتضمنها البرنامج ولم تصدر تهم الشعب الذي ثار وأسقط بن علي وبعض زبانيته، رسالة كان يجب أن تكون واضحة لا لبس فيها ولا غبار عليها، رسالة مضمونها استرجاع الدولة لمؤسساتها ولأملاكها المنهوبة ولدورها في تسيير الشأن العام وإدارة القطاعات الحيوية والإستراتيجية وعدم التلاعب بها، وذلك بعد أن بيعت تلك المؤسسات بالمزاد العلني بأبخس الأثمان ونهبت وسرقت وسُلبت لفائدة رأس المال العالمي والمحلي المافيوي والعائلي، وقد وصل الأمر إلى حد التفويت في الأراضي والجبال والبحار والشواطئ، لقد باتت الدولة مجرد ديكور سياسي لا أكثر في ظل سياسة الاقتراض وتسديد الدين التي انتهجتها في السنوات الأخيرة. وما لم تسترجع الدولة دورها السيادي في المجال الاقتصادي والعقاري والمالي فإن أداءها السياسي سيبقى مجرد تنفيذ سياسات مملاة ولن تحظى بثقة المجتمع فيها ولن تكون تعبيرته السياسية التي تمثّله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق