الأحد، 15 يوليو 2012

من الذاكرة : صحيفة دولية من تونس عبداللطيف الفراتي


من الذاكرة : صحيفة دولية من تونس (2/5)

رشحت الدولة اللبنانية الأمين المساعد أسعد الأسعد لمنصب الأمين العام لينافس الأستاذ الشاذلي القليبي، ويا ليتها ما رشحته،، فلقد تلقى وهو الرجل الطيب صفعة ما كان في حاجة لها،  ربما جاء هذا الترشيح  لأن لبنان كانت تشقه أيامها حرب أهلية كاسحة ، ولم يكن بلدا محكوما بحق ، وربما جاء الترشيح بطلب من سوريا التي كانت تحكم حقا في القرار اللبناني ، ولعل الترشيح  جاء أيضا قصد إغاظة بغداد التي كانت  حريصة  على المرشح التونسي الذي تم الإتفاق على مبدإ انتخابه في قمة بغداد  بما يشبه الضمانة العراقية والسعودية ، كان  ذلك هو ثمن نقل الجامعة من مصر إلى تونسي على ما يبدو، وكان يصاحبه وفاق عربي عام على أن يكون الأمين العام تونسي ترشحه الحكومة التونسية، وقد بدا أن الحكومة التونسية قد اتخذت قرارها أيامها وهي برئاسة الهادي نويرة ،على ترشيح الأستاذ الشاذلي القليبي، فيما راجت إشاعات قوية ( ولكن غير واقعية) حول ترشيح المرحوم محمد الفيتوري وكان وقتها وزيرا للخارجية وصديق حميم للوزير الأول، و كان مثل تونس في قمة بغداد التي تقرر فيها نقل الجامعة إلى تونس على خلفية توقيع مصر لاتفاقية كامب ديفيد واعترافها بإسرائيل، كما كانت أيامها  سرت إشاعات ملحة حول رغبة عربية لترشيح المرحوم الباهي الأدغم للمنصب ، وهو الذي تعرف عليه القادة العرب بمناسبة أحداث سبتمبر الأسود في عمان،  و سبتمبر هو الشهر الذي شن فيه الملك حسين حربا مدمرة على منظمة التحرير الفلسطينية، وقد ترأس السيد الباهي الأدغم أيامها الوفد التونسي إلى القمة العربية في القاهرة ثم إنه تولى مهمة المصالحة العربية فسافر إلى الأردن  نيابة عن القادة العرب بقصد وقف إطلاق النار، واشتهر السيد الباهي الأدغم بأنه هو الذي تولى تهريب المرحوم ياسر عرفات في طائرته التي وضعها على ذمته القادة العرب،  وأنقذه من موت محقق ،عندما ألبسه سفساري نسائي  تونسي وأخذه معه  إلى الطائرة، وهو محل تفتيش من السلطات الأردنية جميعها ،بشهادة السيد محمد عمامو، السفير التونسي أيامها في عمان،وأوصله الباهي الأدغم  حتى قمة القاهرة وهي القمة التي تولت المصالحة وانتهت بوفاة الرئيس جمال عبدالناصر في 28 سبتمبر 1970، أما المرشح الثاني الذي مال إليه بعض العرب أيامها علىحد بعض الشاعات  فكان وزير الخارجية التونسية الأسبق محمد المصمودي، ولكن لم يكن لأي منهما أي حظ في ترشيح تونسي رسمي، وكان كل منهما مغضوب عليه في تونس.
وقد أسندت الأمانة العامة وقتها كما رغبت الحكومة التونسية وبوفاق عربي كامل   للإستاذ الشاذلي القليبي فعلا، وكان وزيرا للثقافة والإعلام حائزا على ثقة الرئيس بورقيبة ، خاصة وأنه تولى لفترة ،المهمة الصعبة لرئاسة ديوانه،   محل تقدير عربي ودولي ، كما إنه كان صديقا ودودا  للسيد الهادي نويرة وكان أحد ثلاثة لا يفترقون ، الهادي نويرة والشاذلي القليبي والحبيب شيخ روحه.
وقد أظهر الشاذلي القليبي كفاءة عالية في هذا المنصب، وأدار الشأن العربي بصبر أيوب، واستطاع أن يحقق إجماعا عربيا، وأن يفكك كثيرا من القنابل الموقوتة ، التي كانت تتهدد العمل العربي  المشترك، كما مشكل لبنان وخاصة وقوف سوريا الأسد مع إيران ضد العراق في حرب الثماني سنوات المدمرة.
أو قضية الكومندوس التونسي الذي حركه العقيد القذافي لزعزعة النظام التونسي.
 ___________________________ ___________________________ ___________________________

من الذاكرة : صحيفة دولية من تونس (3/5)


بعد قدوم الجامعة العربية إلى تونس واستقرارها ، حصل مضض  أصاب الإخوة العرب،  وهو ما نقله لي شخصيا في حينه  بعض وزراء الخارجية العرب ، ممن كنت أتردد عليهم،  أو من ممثلي الدول العربية لدى الجامعة. وقد تعرفت على الكثيرين وأصبحوا أصدقاء لي وما زلت أحتفظ لليوم بصداقة بعضهم، ومنهم طارق عزيز وزير الخارجية العراقي السابق، والذي لا  أفهم كيف كان راضيا بالعمل مع صدام حسين ، وهو رجل ذو ثقافة عالية وحس مرهف كان الله في عونه وقد حكم عليه بالإعدام، ولقد قامت الجامعة العربية  في الأحد عشر سنة التي قضتها في تونس، وبقيادة الأستاذ الشاذلي القليبي ، بأدوار كبيرة، لما وفرته مما كان مفقودا في القاهرة، وهو عدم التدخل مطلقا في سيرها  من قبل الحكومات التونسية المتعاقبة، وجاء المضض العربي من أمرين اثنين في نظري:
أولهما أن المقر الذي وضعت فيه الجامعة العربية ، كان بكل المقاييس غير لائق ولا عملي، ولا وجه للمقارنة بينه وبين المقر في القاهرة، وكانت اجتماعات الوزراء تنعقد غالبا في فندق الهيلتون، أو أفريكا ، لافتقار المقر الرسمي لقاعة صالحة كما كان الشأن في القاهرة.
وفي مناسبتين وكنت حاضرا فيهما بمعية أسعد السعد ونهاد الباشا وعبدالوهاب عبدالله، الذي كان آنذاك رئيسا لديوان السيد الشاذلي القليبي في وزارة الثقافة والإعلام، وممثله في لجنة البحث عن مقر للجامعة، اختارت اللجنة مقر البنك المركزي الحالي قبل أن يحتله وقتها البنك، وفندق هميلكار،غير أن السلطات التونسية لم توافق لا على هذا ولا ذاك، وتم الإكتفاء بعمارة مائلة كما كان يقول بعض العاملين في الجامعة العربية، لتكون مقرا غير لائق للبيت العربي، تقع في مونبليزير قبل أن يعمر كما هو حاليا ، والعمارة هي مقر لوزارة التجارة حاليا.
وثانيهما أن تونس  بدت بحيادها المطلق وكأنها غير مهتمة بهذا الجهاز العربي.
بعد قدوم الجامعة  في سنة 1979 جاء الدور ليستقر الفلسطينيون في تونس في خريف 1982.، بعد طردهم من بيروت.
أصبحت تونس عاصمة عالمية ، تكاثر السفراء المستقرون فيها،  فما من دولة إلا وفتحت لها  سفارة ،وبات كل يوم يشهد  قدوم وفود عديدة عربية وعالمية، سواء للجامعة العربية  أو للفلسطينيين وقد اتخذ ياسر عرفات من تونس مقرا لقيادة منظمة التحرير لفلسطينية ، وبتنا قبلة دبلوماسية مشهودة.
في ذلك الوقت كانت الصحافة العربية الصادرة من عدة عواصم دولية  في نفس الوقت أمرا رائجا، فبعد الشرق الأوسط جاءت الحياة ، وجاء القبس العربي والدولي ، الذي اشتغلت فيه  هو الآخر لسنوات وكانت تجربة مختلفة وثرية جدا لطبيعة من خالطتهم فيه من كبار الصحفيين العرب والدوليين،  دائما مع واحد من أقدر الصحفيين العرب والدوليين عبدالكريم أو النصر، الذي كانت له مداخل في مقرات أصحاب القرار في كبريات العواصم العربية والدولية، وجاءت صحيفة العرب التي كان يصدرها وزير سابق من العهد الملكي الليبي تصالح مع القذافي وأصبح على ما يقال بوقا له وللرئيس التونسي السابق.
 ___________________________ ___________________________ ___________________________

من الذاكرة : صحيفة دولية من تونس (4/6)

انتشرت الصحافة العربية التي اتخذت صبغة دولية بصورة كبيرة، وكان في الأثناء قد تم تعييني رئيس تحرير أول لجريدة الصباح. من هنا خامرني التفكير في أن أجعل من جريدة الصباح جريدة عربية دولية على غرار الصحف الدولية الأخرى . وكان لا بد من إعداد داخلي وآخر خارج الحدود. وحتى يكون للصحيفة وزن دولي وكانت الصباح أيامها أوسع الصحف انتشارا في تونس، وفي فرنسا من بين كل الصحف التونسية، كان لا بد من زيادة تركيزها وطنيا ، من هنا شرعنا في إصدار طبعة للجنوب، وبدأنا في الإعداد لطبعة للشمال ، مع إبقاء طبعة تونس والولايات المحيطة.
وكانت الخطوة الثانية هي تعزيز المحتوى، وإعطاء حيوية للمضمون، كان المفروض أن نستوعب 10 من أكبر الأقلام الصحفية في تونس ، وبدأنا في الإنتداب ، لا لمواقع تسيير وإنما ككبار صحفيين للكتابة والمقالات التأليفية، وأقحمنا مثلا صلاح الجورشي الذي فتح مبدئيا صفحة “الإسلام دين حضارة” وليس دين وحضارة ، واستعنا بكتاب من أمثال الدكتور حميدة النيفر والمرحوم مصطفى النيفر، ودخل في صفوفنا أيامها كمال بن يونس وسليم الكراي والهاشمي الحامدي صاحب قناة المستقلة حاليا  وبوبكر الصغير ، وكان مفترضا أن يلتحق بنا الهاشمي الطرودي، كان البرنامج واسعا وطموحا، وأخذنا في الإتصال بكتاب من العواصم العربية والدولية ممن أتيح لي أن أتعرف عليهم مباشرة أو عن طريق كتاباتهم .
وكان أحد الذين اتصلت بهم أيامها في آخر ربيع 1988 فيصل البعطوط ، وقد اشتهر أيامها بالمقابلات الصحفية المستفزة ،التي كان يجريها وهو صحفي جريء مقدام وليس خجولا مل أحوالي.
اتفقنا على كل شيء ، مجال العمل وحجمه ، والمقابل وكان  المرتب أعلى من أي أجر  ولا حتى  مرتبي أنا رئيس التحرير.
واتفقنا على موعد البدء ولكن وفي الساعة الموعودة لم يأت فيصل البعطوط،، بعد ساعة  من الموعد المحدد خاطبته بالتليفون، قال لي إن له حديثا معي يحسن أن يقوله لي مباشرة ، والتقينا في مقهى الكوليزي رافقني وقتها الزميل مصطفى المشاط من تحرير الجريدة ، وكان صديقا حميما لفيصل، ساكنه في فترة من فترات دراستهما  معا في معهد الصحافة .
بدا لي فيصل البعطوط محرجا كل الحرج ، ولكنه اعتذر سريعا وانسحب حتى بدون أن يشرب القهوة التي طلبتها له.
عدت أدراجي وأنا حانق غاضب فأنا من الذين لا يطيقون أن يخلف المرء وعده،،
في مدخل مقر الجريدة كانت تنتظرني مفاجأة أخرى، طلبوا مني أن أتوجه مباشرة إلى المدير، وفي مكتبه تم إعلامي بسحب مشروع الجريدة الدولية ، وقصة الطبع في باريس، وانتداب صحفيين كبار.

 ___________________________ ___________________________ ___________________________

من الذاكرة : صحيفة دولية من تونس (6/6)

 
ستمر الأيام سريعة وستترى على حياتي قصص عدة منها دفعي لمغادرة العمل الصحفي.
في سنة 2003، كنت في قطر، أحضر مؤتمرا حول  الليبرالية والديمقراطية  على ما أذكر، دعا له أمير قطر وشارك فيه جهابذة من اختصاصيي الديمقراطية بكل مكوناتها ، وكان من بين المحاضرين الأستاذ الكبير الشاذلي العياري، الذي ألقى يومها محاضرة ملفتة،، في الليل كنت في بهو الفندق صحبة فيصل البعطوط الذي استقر في الدوحة ، والذي كنت أسعى لانتدابه في الصباح سنة 1988 ، وكنا ننتظر مقابلة صحفية كان من المنتظر أن يجريها امحمد كريشان مع أريال شارون رئيس وزراء إسرائيل  على قناة الجزيرة، وهي مقابلة كانت زوجة امحمد كريشان ترفض أن يتولاها زوجها، وكادت تعصف ببيتهما ، فيما كان يقول لها: أنا مثل جندي ، عندما يدعى إلى معركة لا يستطيع أن يهرب منها لأي سبب ، وقد عين لتلك المقابلة، فما عليه إلا أن يجريها.
وفجأة وفيصل البعطوط وأنا جالسان أمام التلفزيون، جاءت الممانعة من شارون الذي اشترط أن تكون المقابلة وجها لوجه لا بالدوبلاكس، وانسحب تماما، فألقى امحمد كريشان خطبة عصماء، ذكر فيها بالإتفاق الذي جرى بين الجزيرة وأريال شارون وكان ينص على إجراء مقابلة صحفية يتولى فيها الصحفي امحمد كريشان إلقاء أسئلته من الأستوديو في الدوحة ويجيب فيها شارون من الأستوديو في القدس.
مرت المسألة بسلام بالنسبة لمحمد كريشان وعائلته، ولكن دفعت فيصل البعطوط لمصارحتي بما يخفيه وبقي على ضميره كما قال لي:
سألني وكأنه يريد أن يتخلص من عبء ثقيل يحمله منذ سنوات .:
هل تذكر يوم لقائنا في الكوليزي عندما اعتذرت عن الإلتحاق بك في جريدة الصباح، يومها في الصباح الباكر دعيت إلى وزارة الإعلام ، فجأة قيل لي : إنك لن تذهب إلى تلك الجريدة، إنها بتحويلها إلى صحيفة دولية ستتجاوز في وزنها تلك المحلية التي تتسم بها ليصبح لها وزن أكبر، فتتحرر منا. وتصبح خارجة عن نطاقنا.
وهذا غير مسموح، لذلك لن تذهب والمشروع كله سيسقط في الماء.
وفعلا سقط المشروع في الماء في ذلك الصباح نفسه.
فقط بعد 23 سنة أود أن أضيف  ثلاثة عناصر:
أولها : أن بلادنا خسرت فرصة لتفرض إشعاعا دوليا ليس لجريدة الصباح وإنما للدولة التونسية كلها  وكان ذلك في متناول اليد ولم يعد له معنى اليوم في عصر الأقمار الصناعية والإنترنت.
وثانيها : إن مثل هذه الأوامر لا بد أن تكون أتت من أعلى مركز في السلطة وليس من وزارة بذاتها.
وثالثها : ما هو مدى وطنية الذين دفعوا لمنع قيام جريدة دولية في تونس،هذه الدولة الصغيرة التي تميزت دوما بمبادراتها التي كانت أكبر من حجمها، والتي انقرضت بعيد مجيئ نظام لم يكن يريد الخير لهذه البلاد.
ستـأتي الأيام ببراهين عديدة على ذلك.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق