استدعي المفكر العربي عزمي بشارة من طرف الرئيس التونسي المؤقت إلى قصر
قرطاج لإلقاء محاضرة حول العلمانية بحضور كل الفعاليات السياسية التونسية
بما فيها الفعاليات العلمانية والإسلامية يوم 19 مايو الحالي وقد نقلت قناة
الجزيرة مباشر هذه المحاضرة . ولقد اغتنم الدكتور عزمي بشارة الفرصة من
أجل تقديم النصح للتونسيين بضرورة صيانة ثورتهم التي كانت رائدة في الوطن
العربي ، ومنها انطلقت شرارة التغيير في هذا الوطن ، وفيها أزهر الربيع
العربي أول مرة .
وحاول عزمي بشارة توضيح موقفه من مفهومي الدولة العلمانية والدولة الدينية والديمقراطية. وتجاوز طرحه لهذه القضية الطرح التقليدي المعروف الذي يعرف العلمانية بأنها فصل الدين عن الدولة ، وأن الديمقراطية هي حكم الأغلبية . ويذهب عزمي بشارة إلى أن الدولة الدينية لم يعرفها التاريخ قط حتى في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكل ما وجد في ذلك العصر هو دولة مدنية لها خلفية دينية . وقصد الدكتور بشارة هو أن كلا من الديني والعلماني يجمعهم ما هو مدني مع اختلاف في الخلفيات .
والمهم بالنسبة له هو صيانة الديمقراطية التي لها قواعد وضوابط لا يجب أن تداس لتتحول الديمقراطية إلى شكل من أشكال الديكتاتورية عندما يستغلها العلماني أو الإسلامي لفرض تصوره بشكل مستبد. ولقد حاول المتدخلون التونسيون الذين حضروا المحاضرة الدفاع عن أطروحتي الدولة العلمانية أوالدولة الإسلامية في حضرة المفكر العربي عزمي بشارة لنقل الصراع الدائر في المجتمع التونسي إلى قاعة قصر قرطاج إلا أنه نبه الطرفين المتدخلين معا من العلمانيين والإسلاميين إلى ضرورة التخلي عن هذا الصراع الذي سيجهض الثورة التونسية ، والتي يعلق عليها المفكر العربي آمالا عريضة ، مقابل توجسه من الثورة المصرية التي لا زال مسارها لم يتضح بعد. ولقد حاول الدكتور عزمي كبح جماح التعصب للدولة العلمانية أو الدولة الإسلامية من خلال ردوده على تدخلات المتدخلين المنتصرين لهذا الطرح أو ذاك . واعتبر عزمي أن اجتماع العلمانيين والإسلاميين في قاعة قصر قرطاج دليل على نضج ديمقراطي واعد في تونس .
وخلال محاضرته وأجوبته عن أسئلة المتدخلين أكد على فشل نموذجي الدولة العلمانية والدولة الدينية ، وضرب مثلا على ذلك بالنظام التونسي المنافق ،والذي كان يتبجح بالعلمانية ، وكان العلمانيون يدعمونه تعصبا ضد الإسلاميين ، وبنظام حركة طلبان التي أقصت غيرها وكان مآلها الفشل . وأشاد عزمي بنموذج الحكومة التركية التي استطاعت أن تدير دولة مدنية بخلفية دينية دون أن يتعثر مسار هذه الدولة التي تعتبر نموذجا ناجحا في الدول الإسلامية ، وهو ما جعل عزمي بشارة يأسف لعدم وجوده في العالم العربي .
والرسالة التي أراد عزمي بشارة إيصالها إلى التونسيين خاصة والعرب عامة وقد حضرت محاضرته كل القيادات السياسية وعلى رأسها زعيم حزب النهضة راشد الغنوشي إلى جانب الرئيس التونسي المؤقت ، وغيرهما هو ضرورة إنجاح التجربة الديمقراطية التونسية لتعميمها في باقي الوطن العربي . وكان الواضح من رسالته هو التحذير الصريح والمبطن من الانزلاق نحو الصراعات الإيديولوجية التي من شأنها أن تجهض الثورة التونسية ، وتصادرها كمكسب للشعب التونسي . وتمثلت نصيحة عزمي بشارة في قيام دولة مدنية ديمقراطية تستوعب كل الخلفيات الإيديولوجية دون أن تبتلع خلفية من خلفيات غيرها مستغلة شعار الديمقراطية لتحويلها إلى ديكتاتورية واستبداد يعتبران السمة الغالبة في الوطن العربي ، وهي مشكلة العرب التي لا توجد عند باقي الشعوب الإسلامية التي استوعبت مفهوم الديمقراطية بشكل جيد . وفي اعتقادي أن رسالة الدكتور عزمي بشارة للتونسيين لا تقتصر عليهم وحدهم بل تتعداهم إلى غيرهم .
فما أحوج كل الشعوب العربية إلى نصيحة هذا المفكر العربي الفذ خصوصا وأن المحسوبين على العلمانية في البلاد العربية التي أفرزت فيها صناديق الاقتراع فوز الأحزاب الإسلامية ، لم يستسيغوا هذا الفوز ، وعمدوا إلى حملات مسعورة من أجل إجهاض المسار الديمقراطي لمجرد أن الفوز لم يكن حليفهم . ومعلوم أن الوطن العربي يروم من وراء ربيعه دخول مرحلة الديمقراطية بعد عقود طويلة من الديكتاتورية التي أعقبت استقلاله عن الاحتلال الغربي .
فالأنظمة المستبدة تقاوم مقاومة شديدة الديمقراطية كما كان حال الأنظمة الساقطة أو التي هي في طريق السقوط . والصراع القائم بين الأنظمة العربية وشعوبها ليس صراعا بين أحزاب إسلامية وأنظمة بل هو صراع بين شعوب عربية تريد الديمقراطية وأنظمة مستبدة تتشبث بالديكتاتورية ،لأن الديمقراطية من شأنها أن تفضي إلى اختيار الشعوب العربية من يحكمها بحرية ، وهو ما لا يخدم الأنظمة المستبدة . فالنظام العسكري الجزائري على سبيل المثال ،والذي كان أول من صدمته التجربة الديمقراطية التي فاز فيها حزب إسلامي لم يجد بدا من إجهاض هذه التجربة لضمان استمرار استبداده ، وجر البلاد إلى حرب أهلية ثمنا لبقائه في السلطة .
وهو اليوم يحاول الالتفاف على الديمقراطية من خلال انتخابات صورية مزورة تضمن بقاءه في السلطة . والنظام السوري المستبد لم يقبل خوض اللعبة الديمقراطية أصلا لأنه كان على يقين من زواله ، فاختار مسار النظام العسكري الجزائري والليبي من أجل البقاء في السلطة وتكريس الديكتاتورية على حساب الشعب السوري. وفي كل من تونس و مصر والمغرب حيث أفرزت اللعبة الديمقراطية فوز الأحزاب الإسلامية تحاول غيرها من الأحزاب المحسوبة على اليسار أو العلمانية التشكيك في نوايا الأحزاب الإسلامية تجاه احترام الديمقراطية ، وتروج للتخويف من الاستبداد الإسلامي الذي سيحل محل استبداد الأنظمة . والغريب أن الأحزاب اليسارية والعلمانية التي كانت تتعايش مع الأنظمة المستبدة بل وتشاركها أحيانا في السلطة ترفض اليوم التعايش مع الحكومات الإسلامية ، وهو ما يعني رفض اللعبة الديمقراطية التي لم تكن لصالحها .
وهذا الرفض للتعايش مع الحكومات الإسلامية يشكل تهديدا خطيرا للمسار الديمقراطي في الوطن العربي ، لأن التشويش على الحكومات الإسلامية ، والعمل على إسقاطها بكل الوسائل والطرق قبل أن تستوي على سوقها لتعجب الزراع سيعيد الشعوب العربية إلى المربع الأول ، وسيجهز على ربيعها الفتي . ولهذا تعتبر نصيحة الدكتور عزمي بشارة أغلى نصيحة تقدم للشعوب العربية من أجل إنقاذ ربيعها ، ومن أجل انتقالها التاريخي من مرحلة الديكتاتورية والاستبداد إلى مرحلة الديمقراطية التي تضمن تناوب الجميع على السلطة دون وجود فكرة الاقصاء والاستئصال التي تولد الديكتاتورية في أشكالها المختلفة . وآمل أن يجوب الدكتور عزمي بشارة العواصم العربية ليبلغ رسالته لشعوبها قبل فوات الأوان وضياع فرصة لا تعوض . وصوت الدكتور عزمي بشارة هو صوت الحكمة والتعقل في ظرف طغيان أصوات التهور التي تخدم المصالح الأجنبية على حساب المصالح العربية .
محمد شركي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق