الزيتونة و اليسار الفرنسي وحرّيّة الفكر من خلال قضيتي الثعالبي (1904) و الحداد (1930)
د.عميرة علية الصغير
المعهد العالي لتاريخ الحركة الوطنية
تحاول هذه المداخلة إثارة إشكالية جوهرية في الحركة الفكرية والإصلاحية
عامة في تونس ألا وهي حرية الفكر من خلال قضيتين شغلتا النخبة و الرأي
العام سنة 1904 و 1930 عندما قدّما شابان تونسيان الثعالبي و الحداد
للمحاكمة الفكرية و حتى القضائية لأنهما تجرءا من موقعهما كمثقفين على
تحريك الساكن و مسائلة المسلمات فاصدما ب"حراس الماضي" على تعبير الحداد
ووقف يحاربهما إكليروس الزيتونة على حد تعبير رفيقه أحمد الدرعي و نعني هنا
شيوخ القرار فيها (النّظارة) والمتنفذين من "علمائها" وعلى عكس الموقف
المناصر الذي لقياه هذان المحاربان من أجل "إطلاق الفكر من عقاله" من قبل
رجال اليسار الفرنسيين. ولا نبغي في هذه المساهمة تكرار ما قيل لأن قضيتي
الثعالبي و الحداد تناولهما الكثيرون لكن نطمح من جانبنا للتساؤل حول
خلفيات الأطراف في هذه القضية : المدافعون عن العلمين و المعارضين لهما
كذلك البحث في مضمون "الحرية الفكرية" و مداها عند هذين الشيخين الزيتونيين
ومقابلتها بمفهومها و حدودها عند مناوئيهما من أهل الزيتونة و عند الطرف
الثالث من أهل اليسار الفرنسي في تونس المنتصر لحرية الفكر و التعبير.
و تأتي هذه الورقة في ثلاثة عناصر :
1- الزيتونة و ادعاء حق الرقابة على الفكر.
2- حقيقة تمثّل حريّة الفكر عند الثعالبي و عند الحداد.
3- الانتصار لحرية الفكر لدى اليسار الفرنسي بتونس بين المبدئية و التوظيف.
I- الزيتونة و ادعاء حق الرقابة على الفكر.
في البدء نوضح اننا لا نعني هنا بالزيتونة ذلك الفضاء الديني للتعبد و
التعلم و ما كان يحويه من شيوخ علم و طلبة و ما تخمر فيه من صراع المجددين و
المحافظين و بين دعاة الوطنية و الراكنين للأمر الواقع بل نعني هنا
بالزيتونة تلك المؤسسة التي لها من يتكلم باسمها من شيوخ متنفذين و خاصة من
مجلس نظارتها الذي أسسه أحمد باي سنة 1842 في اطار اصلاح التعليم في
الزيتونة حيث نص قرار الباي على ان النظارة العلمية تتكون من شيخ الاسلام
الحنفي و من الباش مفتي المالكي و من قاض حنفي و آخر مالكي إلى جانب مجلس
رسمي يتألف من ثلاثين مدرسا .
و أكد هذا التنظيم اصلاح خير الدين لسنة
1875. و كانت هيأة النظارة هذه طرفا رئيسيا في تشديد الخناق على المجددين و
المصلحين كما هو في حالة الثعالبي و الحداد. وقبل أن نتطرق لموقف الزيتونة
من هذه المسألة نذكر أولا بقضيتي هذين الشيخين و بمبررات التصدي لهما.
1- التذكير بقضيتي الثعالبي و الحداد.
لن نعيد هنا حيثيات و تفاصيل قضيتي الثعالبي و الحداد لأنهما أشبعت بحثا
من غيرنا ونقتصر فقط على التذكير بفحوى ما ادعاه عليهما خصومهما لتجريمهما
فكريا.
قدم اذن الثعالبي للمحاكمة أمام محكمة الدريبة (المحكمة
الابتدائية بتونس العاصمة) في جوان-جويلية 1904 لتصدر حكمها النهائي عليه
في 23 جويلية بشهرين سجنا و يتبين من نص الحكم و ما أوردته الصحافة حول
تلك المحاكمة ان الثعالبي حوكم لأنه :
- نقد القرآن و اعتبر أن بعض سوره تنقصها البلاغة ؛
- ثلب و سبّ الأولياء الصالحين و خاصة عبد القادر الجيلاني ناعتا اياه بابن زنا ؛
- استنقص من قيمة الطرق الصوفية و فضل المقاهي الافرنجية عليها ؛
- سب الولي (التونسي) المجذوب علي بن جابر و نعته "بالكلب" و نفى عنه شرف النسب ؛
- نقد الخليفــة الراشدي عثمان بن عفــان و اعتبره أول من أسّس الاستبــداد و التعسف في تاريخ الدولة الاسلامية ؛
- ردّد أنّ طلبة الجامع الأعظم يتلقون علوما تؤول بهم الى الظلالة.
أما الطاهر الحداد لئن لم يجر أمام المحاكم و سلم من أعواد المشنقة ربما
لتدخل الاقامة العامة و تقوي التيار التحديثي سنة 1930 و لوجود مناوئيه من
المحافظين أنذاك في موقف ضعف فانه حوكم فكريـــا بتدخل من نظارة جــامع
الزيتونة- كمــا سنبينه في العنصر الموالـــي- وجندت له شيوخ الزيتونة
ليردوا على مؤلفه "امرأتنا في الشريعة و المجتمع". و قد أتى في رسالة مشايخ
"النظارة" الى الوزير الاكبر خليل بوحاجب بتاريخ 11 أكتوبر 1930 أنّ كتاب
الحداد مشتمل "على مخالفات شرعية و أقوال لا يسع المسلم السكوت عليها" و هو
"موجب للتشويش" و "للفتنة" و تتلخص "الجرائم الفكرية" التي اقترفها
الحداد حسب معارضيه ومن خلال مؤلفين أجازتهما نظارة جامع الزيتونة و أمضى
الترخيص بنشرهما الشيوخ أحمد بيرم و محمد الطاهر بن عاشور و محمد الطيب
بيرم و صالح المالقي و هما "الحداد على إمرأة الحداد او رد الخطإ و الكفر و
البدع التي حواها كتاب امرأتنا في الشريعة و المجتمع" للشيخ الحنفي محمد
الصّالح بن مراد و "سيف الحق على من لا يرى الحق" لكاتب النظارة العلمية
لجامع الزيتونة عمر بن ابراهيم البري المدني .
تتلخص في ما يلي :
- إن الأحكام الشرعية لا تتطور و لا تتغير عكس ما ادعاه الحداد .
- إن الاسلام لا يبيح إعمال الرأي عند ظهور نصوص شرعية و أنّ مخالفتها "كفر و ظلم و فسق" .
- المرأة ليست مساوية للرجل في قدراتها العقلية بل هي ناقصة "بحجة تركها
الصلاة و الصوم عند الحيض" و شهادتها نصف شهادة الرجل "لأنها ناقصة ذاكرة".
- لا يمكن للمرأة أن تساوي الرجل البتة شرعا لأن الدين يقول "و للرجال عليهن درجة" .
- إن الاقرار بامكانية تطور أحكام واضحة في القرآن كالمناداة بالمساواة في الارث بين الرجل و المرأة هو من باب الكفر و الإلحاد .
- إن تعدّد الزوجات ليس "سيئة من سيئات الجاهلية" كما كتب الحداد بل هو
"حسنة من حسنات الاسلام" (حسب تعبير البري) طابق بها الشرائع المتقدمة عليه
.
- إن بعث محاكم طلاق هو من باب الالحاد و التواطؤ مع رجال الكنيسة لان حق الطلاق في رأي المؤلفين هو من الحقوق المطلقة للرجل شرعا.
و يؤكد هذان الكتابان على أن الحداد لا تتوفر فيه شروط العالم المجتهد فهو
عكس ذلك "جاهل" و "قاصر الفكر" و ما قصده من تأليفه الا "نشر الفاحشة و
تقويض الدين الاسلامي" و "التواطؤ مع أعدائه" و خلصا الى نعت الكاتب
بالجنون و الكفر و الزندقة و الالحاد و الردة و الظلال و الحمق و الفسق...
وردّدت تلك الأحكام الصحف الموالية للتيار المحافظ و هكذا حكم على الحداد
بالإدانة و طرد من شغله بكتابة الجمعية الخيرية الاسلامية (25 أكتوبر 1930)
و سحبت منه شهادة التطويع التي تحصل عليها من الزيتونة و منع من إلقاء
الدروس و الجلوس للإشهاد و تهيجت عليه العامة تحاصره و تهينه ففارق الحياة
مكلوما بعد خمس سنوات و كان للزيتونة مسؤوليتها في ذلك كما هوفي الحكم على
رفيقة الثعالبي.
2- ادعاء الزيتونة احتكار تأويل الدين و مراقبة حرية الفكر.
تدخلت اذن الزيتونة كمؤسسة باسم حماية الدين لاضطهاد عبد العزيز الثعالبي و
كذا الحداد (و غيرهم) اعتمادا على ما كان يحظى به الجامع الاكبر من رأسمال
رمزي و سلطة معنوية يمارسها شيوخه كحماة للدين و ممثليه الرسميين لدى
الحاكم و لدى عموم المؤمنين. فعلماء الزيتونة و على رأسهم شيوخ النظارة
بحكم موقعهم في هيكلة المجتمع (في ارتباط عضوي مع الفئات الثرية و مع
العائلة الحاكمة خاصة بالنسبة للعائلات العلمية الكبرى) و مكانتهم في بنيته
الثقافية التقليدية حيث لا زال حتى الثلاثينات يسود المجتمع مناخ ميثي و
في عالم مقدس يرى فيه الانسان لزاما عليه تبرير سلوكه تبريرا دينيا كانوا
يخوّلون لأنفسهم القيادة الروحية للمجتمع و توجيهه و يسعفهم في هذا
الادّعاء القانون المنظم للزيتونة (الترتيب) و الذي وضعه خير الدين سنة
1875 و الذي كثيرا ما يعتمدون عليه عندما يتصدون للمنشورات والأراء التي
يرونها مارقة عن الدين. و قد أتى فعلا في الفصل خمسين من ذاك الترتيب
والخاص بالمطبوعات ما يلي " كل من ألف كتابا أو رسالة في أي فن كان من
الفنون العلمية فليس له ان يبثه بين الناس إلا بعد عرضه أولا على المشايخ
النظار، فان كان مما لا تكفي فيه الاجازة منهم يعرض على الدولة" و قد تم
الاستنجاد فعلا بهذا "الامتياز" في حالتي الثعالبي و الحداد.
يبدو
أن قضية الثعالبي سنة 1904 و محاكمته تعود جذورها لقبل ذلك بكثير و تتنزل
ضمن اختلافه مع الشق المتزمت من المحافظين باختلاف مواقعهم في التعليم و
الافتاء و القضاء و في الطرق الصوفية و في الصحافة... و ذلك منذ تجربة
"سبيل الرشاد" و التي لم تعمّر طويلا لتعرّض الثعالبي لفساد أحد القضاة
بمجاز الباب و تدخل شيخ الاسلام سنة 1896 لدى الكاتب العام للحكومة في
رسالة بتاريخ 19 مارس يطالبه فيها بتعلة "الغيرة علــى المناصب الشرعيــة
والذبّ عن حضرة النبوة" بان "لاترسم في جرنال من الجرنالات مقالة دينية حتى
تعرض على المشايخ النظار و يرخصون بطبعها كما هو قانون بيت النظارة"
وزادت علاقة الثعالبي مع شق المحافظين تعقيدا بعد عودته من رحلته من الشرق
الى تونس سنة 1902 بذاك "المظهر الغريب يتكلم بأفكار جمال الدين الأفغاني و
محمد عبده و يشيد بحسن حسني الطويراني وعلي يوسف و عبد الرحمان الكواكبي و
يدعو الى التطور و الحرية و فهم أسرار الوجود و أسرار الدين و
يعرب بكلام عربي يطفح بمقالات الحكماء الغربيين من الفلاسفة والطبيعيين"
ولم تزد الرسالة الصادرة بمجلة "المنار" المصرية في 14 أفريل 1903
والمنسوبة للثعالبي الا من النقمة عليه من قبل المحافظين ومن شيوخ الزيتونة
و علمائها الذين تقول عنهم الرسالة بأنهم "جاهلون، متكبرون، متغابنون وهم
آلهتنا (...) حديثهم بطونهم وتدقيقاتهم ومباحثهم خاصة بعجائب التكايا
وكرامـــات القبور و علمهم كعلم آلهة الاشوريين لا يزيد و لا ينقص ولا
يتجدّد ولا ينعدم و هو محصور في تصريف أكل يأكل أكلا" و قد حاول القاضيان
المالكي والحنفي تقديمه للمحاكمة لذلك و فشلا وقد استغلّت جرأته و حريته
في الكلام والخوض في أمور الدين و شؤون الطرق الصوفيــة بــالنقد و التعرض
للتعليم الزيتوني و للقـــائمين عليه بالتجريح والحط لتدبّر محاكمته مرة
أخرى و تنسج خيوطها في السر بتخطيط و تحريض من القاضي الحنفي (عضو نظارة
الزيتونة) والشق المحافظ عامة و كانت نية الديوان الشرعي إهدار دم الثعالبي
لولا تدخل هنري قيو المدير الفرنسي للمصالح القضائية الإسلامية و تحويل
القضية لمحكمة الدريبة وكان حكمها الذي سبق ذكره.
وكان تدخل
شيوخ الزيتونة لضرب حرية الفكر وإسكات من يخالفهم الرأي سريعا في حالة
الطاهر الحداد إذ عملوا على خنق أرائه ومنع نشرها مثل ما أتى في مراسلتهم
للوزير الأكبر خليل بوحاجب بتاريخ 11 أكتوبر 1930، أي بــعــد خمسة أيام من
صدور "امرأتــنا فــي الشــريعــة و المجتمع" مطالبين بـ "حجز الكتاب
المذكور عملا بالفصل 23 من قانون جامع الزيتونة حتى لا تنتشر تلك الافكار
العقيمة و تنام الفتنة" وشكلت "النظارة العلمية" لجامع الزيتونة لجنة
لتنظر في كتاب الحداد و تقدم تقريرا في شأن عقيدة صاحبه. و تركبت هذه
اللجنة من الشيوخ : الطاهر بن عاشور رئيسها و محمد بن يوسف و عبد العزير
جعيط و بلحسن النجار و محمد بن القاضي لتقدم تقريرا بتاريخ 30 أكتوبــر
حكمت فيه على الكتاب بأنه ناقض التعالـــيم القرآنـــية و تضمن عدوانا على
مقام النبي الأعظم فوجب في نظرها تكفير مؤلفه ، ثم كانت الحملة على الطاهر
الحداد من مشايخ الزيتونة للرد على الحداد و تجنيد أقلام الصحافة المحافظة
لتشويه هذا الرجل و إخراجه من حضيرة المسلمين مثلما أسلفنا الذكر.
و تكمن معارضة مشايخ الزيتونة عامة (و ليس كلهم) للأفكار التي صدع بها
المجددون و هنا الثعالبي و الحداد لاعتبارات دينية تتمثل في تعارض أفكار
المصلحين مع قناعات هذا "الاكليروس الاسلامي" ووفاء لتمثلهم لوظيفتهم
الدينية التي تمنحهم سلطة احتكار تأويل النص الديني و التكلّم باسمه و
لنظرتهم الجمودية للدين و لوحدانية الفكر و اعتبارهم كل اختلاف أو نقد أو
معارضة هي من باب "تفريق لصف الامة" و"تمزيق لوحدة الجماعة" اضافة
للآخلاقيات المترسخة عند رجال الدين عامة و المتمثلة في الدغمائية و
"الغرور المقدس" و النّرجسيّة والرضا عن النفس و الوثوقية المطلقة و بقائهم
سجيني نظام معرفي تقليدي يقوم على عبادة الماضي و اجترار الموروث مما
يمنع عليهم تمثل الثقافة الحديثة و متطلبات قوانين الحياة في التبدل و
التغير و ما يفرضه العقل الانساني من تجديد ارتباطا بمنجزات الذكاء البشري
ونجاحات العلم.
ثم أن الأفكار الاصلاحية التي نادى بها الثعالبي و
خاصة الحداد تتضارب مع مصالحهم وامتيازاتهم الوظيفية (احتكار وظائف
التدريس و الافتاء و القضاء من طرف بعض العائلات الدينية) و مكانتهم
الاقتصادية كملاكين عقاريين و متصرفين في أوقاف شاسعة بالنسبة للبعض منهم .
زد على ذلك أنّ مشروع الحداد الاصلاحي للعائلة و للمجتمع القائم على
المساواة بين الأفراد في الثروة و المساواة بين الجنسين من شأنه أن يخلخل
البنية التقليدية القائمة و يضر بمصالح الفئات المتربعة على هرمها و رجال
الدين و مشايخ الزيتونة (على الأقل من الطبقة الأولى) هم جزء منها.
ثم أنّ هناك دافع آخر يفسر العنف الذي جوبه به الحداد سنة 1930 و ذكره
الكثيرون هو تورط شيوخ الدين و خاصة أعضاء المجلس الشرعي في قبولهم الى
جانب الباي أن يكونوا ضمن اللّجنة الشرفية للمؤتمر الافخارستي الذي انعقد
بــتــونس في مــاي 1930 و سكوتهم عنه و عدم ردهم عن كتاب منسنيار بونس "
الكنيسة الجديدة بافريقيا" و الذي نشر في تونس زمنذاك كذلك ما صاحب المؤتمر
الديني ذاك من توزيع "لنشريات خضر محررة بالعربية" تحث المسلمين على أن
يرتدوا عن دينهم واعتناق المسيحية . فكان صدور كتاب "امرأتنا في الشريعة
والمجتمع" فرصة لدفع تهمة التخاذل في الدفاع عن الاسلام ورفع الشّبهة كان
الحداد كبش فداء لاثبات دور شيوخ الدين و غيرتهم على مقدسات الأمة و
وقوفهم في وجه المتجرّئين على الاسلام. ومحاولة التّعمية على معرّة
اقترفوها. هذا يجرنا لتقييم سريع لمضمون حرية الفكر عند الثعالبي وعند
الحداد هذه الحرية التي جنّدت في وجههما معارضة المتزمتين.
II- حقيقة تمثل حرية الفكر عند الثعالبي و عند الحداد.
نشير أولا الى أن الرجلين ينتميان الى نفس الفضاء الثقافي العربي الاسلامي
و يشتركان في نفس المرجعية الفكرية و يقبلان كلاهما بمنجزات المدنية
الغربية و فتوحات العقل و العلم في الغرب (على الأقل تصريحا) ممّا يضعهما
في صف المجددين لكن اختلاف الشّخصيتين من حيث عمق التكوين و القدرة على
استيعاب روح العصر و تمثل العقلانية جعلهما في اعتقادنا يختلفان من حيث
مسار تطورهما الفكري و انخراطهما في النضال على الواجهة الفكرية. اذ بقي
الثعالبي داعية دينية و مناضلا وطنيا أساسا، ولم يخرج عن المقولات
التقليدية للتيار السلفي الاصلاحي بينما ذهب الحداد بالتزامه الواعي
بالعقلانية الى أقصى نتائجها ليفرز طرحا ثوريا في فهم النص الديني (القرآن)
و اخضاعه لمقتضيات الواقع مما أثار حنق الدغمائيين.
1- الثعالبي و تردد المصلح الديني.
نرصد فكر الثعالبي هنا في حدود 1904 أي زمن مقاضاته للمرّة الأولى
(الثانية كانت سنة 1920) اذ تنوه كل الكتابات التي تناولت سيرة هذه الشخصية
باعلان الثعالبي عن تبنيه الحرية الفكرية و تمرّده على التقليد و الجمود و
رفضه للتزمت و اصداعه بالتزام العقل و البحث و يلهج بالأفكار الاصلاحية
لمحمد عبده و الأفغاني و عبد الرحمان الكواكبي و يعلن أنه مفــكــر حــر
و"يحارب الجهل و التعصب" و ان الحكم عليه "بالسجن يشرفه" ضمن "مجمع
المفكرين الأحرار و أحباء التقدم و الحضارة" و لنا وثيقتان من تأليف
الثعالبي زمن محاكمته تعكسان رؤيته لقضية الفكر و النهضة و العلاقة الجدلية
بين تحرير العقل وفهم و تأويل النص الديني، الأولى رسالة كتبها خلال
محاكمته قصــد النشر و الثانية مؤلفه "الروح التحــررية للــقــرآن"
(esprit Libéral du Coran’L)الذي صدر بباريس سنة 1905 لكن أفكار الكتاب
تبلورت لديه أثناء سجنه في حواره مع محاميه سيزار بن عطار و بعد خروجه منه
مع صديقه الهادي السّبعي وكيل "المنار" بتونس و المنتصر هو أيضا للفكر الحر
و مبادئ الجمهورية .
إن المتمعن في الأفكار التي عبر عنها
الثعالبي هنا كتابيا و التي كان ينشرها –بداهة- بين الناس منذ عودته من مصر
سنة 1902 و التي كانت سبب غضب المحافظين عليه و تقديمه للمحاكمة يرى فيها
وفاء لآراء المجددين الدينيين المؤسسين من ابن تيميّة الى جمال الدين
الافغاني و محمد عبده و هي تدور حول نقد واقع المسلمين و خاصة ما عليه
نخبهم الدينية والروحية و محاولة تفسير ذلك الواقع ثم كيفية تعديه الى
النهضة الشاملة. فالثعالبي يرى ان استرجاع المسلمين مجدهم و عزتهم يكون
بتفتحهم على الحضارات الأخرى و خاصة حضارة الدول المتقدمة (الغرب) و
بالأساس فرنسا و الدعوة إلى نشر التعليم بين الجنسين و إصلاحه و
ضرورة ادماجه للعلوم الحديثة (العلوم الطبيعية، و علوم الحياة و العلوم
الفلكية) و خروج تعليم الفلسفة من إطار الفلسفة القديمة و موروث الفلسفة
اليونانية بالانفتاح على الفلسفات الحديثة. و يخصص الثعالبي جزءا هاما من
مؤلفه "الروح التحررية للقرآن" لنقد رجال الدين و ينفي عنهم حق احتكار
التكلم باسمه لأن الاسلام ليس فيه كهنة و ينتقد فيهم انغلاقهم و روح التعصب
لديهم و تشبّثهم بحرفية المذاهب الفقهية و يشن حملة كبيرة على الطرق
الدينية و يعتبرها من الأسباب الرئيسية في "تعطيل الحضارة الاسلامية" و
تأخر المسلمين عدة قرون و يحمّل شيوخ الطرق و الأولياء مسؤولية تحريف الدين
الاسلامي و "إقامة نظام وثنية" جديد و يعتبر انتشار الاعتقاد في السحر و
التنجيم من مظاهر التأخر و تأثير حضارة الفرس في حضارة المسلمين و ينادي
الثعالبي بالاجتهاد في الدين اهتداء بالعقل و بضرورة التسامح و التعايش بين
الأديان و الفرق لأنّ حسب رأيه القرآن "يوصي بالتسامح الى أقصى حد ممكن في
الأمور الدينية كما يوصى بحرية الفكر و احترام جميع الآراء و يستنكر أي
اعتداء على المعتقدات سواء منها الفردية أو الجماعية و على الناس أن يهتدوا
عن طريق الاقناع الذاتي فلا يجوز أن تفرض عليهم الآراء و لكن الذي ينبغي
أن يوجه قناعاتهم هو حرية الاختيار و المقارنة بين الحق و الباطل حسبما
يمليه التأمل و إعمال العقل" فالثعالبي يقر هنا صراحة بمادئ عامة يشترك
فيها "المفكرون الأحرار" و دعاة "حقوق الانسان" في حرية الفكر و حرية
المعتقد و اقرار مبدإ التسامح بين الديانات و الأجناس. لكنّ هذا ما هو إلاّ
اقرار عام يناقضه الثعالبي في الباب ذاته عندما يقول في الصفحة التسعين إن
"الدين الاسلامي هودين للبشرية قاطبة". على كل فالثعالبي سوف يتطور لاحقا و
يراجع عديد الأفكار التي كان يسلم بها في فترة شبابه تلك و يعتبرها من
نزوات الشباب و قلة التجربة . و الذي يهمنا هنا هو موضوع حرية
الفكر وان كان الثعالبي في بداية نضاله الاصلاحي ينادي بها و
يعتبرها أحد مرتكزات النهضة فانه لم يبلور مجال تلك الحرية و حدودها و
كتاباته اللاّحقة تؤكد ذلك. فمفهومه للحرية الفكرية و لسلطان العقل كان لا
يخرج عن مفهوم من سبقه من المصلحين السلفيين شأن محمد عبده فالعقل يبقى
لدى هؤلاء عونا للدين و"وظيفته تتمثل في توفير الأدلة على ما جاء به الوحي و
ليست كما هو الشأن عند الفلاسفة في استمداد الآراء من الفكر المحض و
الاندفاع وراء رغبة العقل في كشف المجهول" حسب تعبير الاستاذ عبد المجيد
الشرفي .
لكن رؤية رفيقه في النّضال الوطني الطاهر الحداد كانت مغايرة و أكثر جرأة في الالتزام بحرية الفكر و الوفاء للعقلانية.
2- الحداد و شجاعة المثقف العضوي.
مع الحداد نحن إزاء مثقّف عضوي نقابي و اجتماعي و مكافح من أجل تحرر
الانسان والوطن و لا يرى نفسه ذاك الداعية الديني أو المصلح السلفي
فهو رغم تكونه التقليدي الزيتوني قد تشبع بالفكر الحداثي والتقدمي عبر
مطالعاته و شغفه المعرفي وتمرسه بالحياة و النضال ومن خلال تواصله مع
رموز الفكر اليساري في العشرينات و بداية الثلاثينات (محمد علي الحامي،
المختار العياري، محمد الخميري، عبد الرحمان الكافي، فندوري، روبار باك،
ديرال...) لذا كان تمثله للعقلانية و لحرية التعبير أقرب للمفاهيم الحديثة
من الّتمثل السلفي الذي يعتبر العقل "كبحا للنفس و انقيادا للأوامر و
الفضائل" و تنحصر وظيفته في خدمة الدين و الدفاع عنه و حتى
الدعوة الى اطلاق سلطان العقل و الاجتهاد ترسم حدودها في إطار في ما ليس
فيه حكم و يبقى النص المقدس فوق العلم لأن النظام الفكري البياني الديني
يتناقض مع المفهوم الحديث للعقل بوصفه قدرة على التفكير و التقييم والحكم
يغذيها العلم و تغذيه و تساير قوانين الحياة و تجدد الزمن و كان ادراك
الطاهر الحداد للعقل والعلم قريبا جدا من هذا الفهم الحديث و ذاك ما عبر
عنه في كتاباته و ما طبقه في بحثه حول المرأة في الشريعة و المجتمع و الذي
كان سبب تكفيره.
فالحداد في كتاباته النثرية و الشعرية كان يمجد
العقل و العلم ولا يتسع المجال هنا للإفاضة في هذه المسألة فهو يعتقد راسخا
أن حرّية الفكر هي شرط أساسي للإبداع و الانتاج فهو يقول : " لا علم إلا
حيث يوجد الرأي ولا رأي إلا حيث يوجد العلم" فالعلم بمدلول المعرفة
العلمية و ليس المعرفة الدينية هو أحد ركائز الفكر الحدّادي اذ
يعتبره مصدر القوة و المجد و النهضة و هو الأساس الذي قامت عليه
المدنية الغربية و انبنت به قوة الدول و سيطر به الغرب على العالم وهو
مبدّد ظلمات الجهل و التعصّب . هذا النشيد للعقل و العلم يبرز كذلك في"
خواطره" التي خطها في صائفة 1933 ووضع فيها عصارة تجاربه. يقول في أحداها
مؤكدا على ضرورة تحرير الفكر : "حياتنا الخاوية سببها أننا لم نسمح حتى
الآن لعقولنا أن تنطلق من سجنها لتفكر في رسم طريق الخلاص و الفوز فنحن
أحباب عواطفنا و أعداء عقولنا، نحب الجنة ونبغض الطرق المؤدية
إليها" .
هذا الايمان بالعقل و بالحرية في التفكير طبّقه الحداد
في تأويله للنص القرآني في كتابه "إمرأتنا في الشريعة و المجتمع" فأشهر في
وجهه سلاح التّكفير و التّلحيد. لقد أكد الحداد في كتابه هذا على أن
الأحكام الواردة في القرآن ليست ملزمة في جميع الازمان و كل الظروف فهي في
اعتقاده خاضعة لقانون الحياة و الزمن في التغيير والتبدل ولا خلود في الدين
إلا في جوهره و معناه "كعقيدة التوحيد و مكارم الأخلاق و إقامة قسطاس
العدل و المساواة بين الناس" . أما آيات الأحكام فيجب في رأيه أن تتغير
لأنها اتت لتحل مشكلات معينة وتجيب على قضايا زمن نزول الوحي. و القرآن
ذاته نسخ عديد الآيات والأحكام مراعاة لمبدإ التطور والتدرّج في نحو
عشرين سنة من تأسيس الاسلام فما بالك بمرور عشرات القرون منذ نزول الوحي.
فالقرآن في نظر الحداد يبقى سلطة مرجعية في مستوى المقاصد لا الأحكام
التفصيلية. هذا التأويل الثوري للنص القرآني و اخضاع احكامه للمحتمات و
الشروط التاريخية حتى و إن كان في خلد الحداد غايته الدفاع عن الدين و
ارادة جعله يساير الحياة و يخلد هو الذي أثار ضده المتزمتين و السلفيين
الرافضين لاختلاف تأويل النص القرآني أكثر مما كان بسبب ما نادى به الحداد
من تحرير المرأة و مساواتها مع الرجل في الإرث أو رفضه لتعدد الزوجات.
على كل ان كانت جرأة الحداد الفكرية و التزامه بحرية البحث لم تلق مساندة
كبيرة زمن محاكمته من بني قومه لاعتبارات فكرية و سياسية و كذلك كان الأمر
لرفيقه الأكبر عبد العزيز الثعالبي عند مقضاته سنة 1904 فان أهل اليسار من
الفرنسيين المستقرين بتونس انبروا يساندون هذين المضطهدين في فكرهما.
III- الانتصار لحرية الفكر لدى اليسار الفرنسي بتونس بين المبدئية و التّوظيف.
1- اليسار و قضية الثعالبي.
عرفت تونس منذ أواخر القرن التاسع عشر مع الوفود المتزايد للجاليات
الأوروبية وتواجد نخبة من المثقفين من رجال الصحافة و التعليم
والقضاء و المهن الحرة تسربا للتيارات الفكرية والسياسية التي كانت تعتمل
في فرنسا وايطاليا خاصة. وكان التوجه العام للنخبة السياسية و الفكرية
الأوروبية في بداية القرن منطبعا بالصراع بين دعاة اللائكية و المتحمسين
للكنيسة حيث تكونت في تونس بعض حلقات الماسونيين و المفكرين الأحرار و
الاشتراكيين الفوضويين و الاشتراكيين الراديكاليين و هي مجموعات تلتقي كلها
في رفع شعار إعلاء العقل و اللائكية المطلقة للدولة و التعليم و العدالة
الاجتماعية والتقدم خاصة و أنّ المقيم العام آنذاك ستيفون بيشون
(1901-1907) كان من المدافعين الثابتين على تلك المبادئ و المساندين
لدعاتها. وقد بعث في تونس سنة1901 فرع للرابطة الفرنسية للتعليم و كانت
تدعو لعلمنة كلّيّة للمدارس في تونس و في سنة 1903 تكونت "حلقة الجمهورين
الكبيرة " كذلك تأسس فرع للرابطة الفرنسية للدفاع عن حقوق الانسان و
المواطن. كما تعددت الصحف السائرة في هذا التوجه مثل جريدتي اليساريين
"الريببلكان" (1903-1914) و"لابتيت تينيزي" (1888-1937) لكن المجموعات
الاشتراكية لم تتنظم فعليا الا لاحقا حيث عقد الاشتراكييون الراديكاليون
مؤتمرهم الأول في تونس سنة 1906 و تكونت الفديرالية الاشتراكية سنة 1907 .
و كان من الطبيعي أن يتأثر أفراد النخبة التونسية بما يدور حولهم من أفكار
و نشاط سياسي خاصة من بين العناصر الميّالة للأفكار التحررية والتوّاقة
للخروج من بوتقة الثقافة التقليدية و سيطرة العقليات القديمة. و كان
الثعالبي رغم تكونه الزيتوني من الذين التقوا بتلك التيارات الفكرية و
استهوته مبادئها في اعلاء راية العقل و الحرية و التقدم و التمدن و العدالة
و الاخاء بين الشعوب و الديانات و نبذ التعصب و يبدو أنه انتمى لبعض تلك
التجمعات مثل "الجامعة التونسية للفكر الحر" و كذلك لتيار الاشتراكيين
الراديكاليين وربط صداقات مع رموزها مثل العقيد إميل دستري Emile Destrées
عضو عمادة المحامين ومؤسس جريدة "كوري دوتينيزي" ) (Courrier de Tunisie
)1905( و رجل الأدب و الصحفي ريموند كلرات Raymond Colrat الأمين العام
"حلقة الجمهوريين الكبيرة" و مدير الجريدة اليسارية "لاسمان" "La semaine"
التي تأسست لاحقا (1909) و بول لمبار Paul Lambert الاشتراكي الراديكالي
مدير جريدة "لو ريببلكان") (Le Républicain و المحامي والصحفي اليساري
لويس كولن Louis Coulon و غيرهم .
و فعلا لقد هبّت هذه الشخصيات و
الجمعيات التي تنشطها وكذلك الصحف التي تديرها أو تعمل بها تدافع عن
الثعالبي أثناء محاكمته و اعتبرت تلك المحاكمة محاكمة رأي تتناقض من مبادئ
فرنسا الجمهورية من ذلك ما كتبته جريدة "لوريببلكان" Le Républicain يوم 24
جويلية 1904 حيث اعتبرت الثعالبي بريئا من التهم الموجهة اليه و انه يحاكم
لأفكاره و لانتمائه لحزب الراديكاليين الاشتراكيين و أنّ سير المحاكمة كان
غير قانوني لأن البحث فيها لم يحترم الاجراءات كذلك لم يقع الاستماع لشهود
الإدانة أثناء المحاكمة. و دعت الصحف اليسارية و حتى المستقلة أو اليمينية
مثل "لاديباش تونزيان" (La Dépêche Tunisienne ) الى اطلاق سراح الثعالبي و
نددت بعدم استقلالية القضاء الأهلي و شككت في نزاهة بعض القضاة و عدم
تسامحهم و قدّم الثعالبي "كرجل فكر ينبذ التعصب" و "تحرري" و "يدافع عن
قيم التمدن والتقدم" و كل ما اقترفه هوالتعبير عن رأيه وأوّل القرآن
حسب جهده . وانتقدت هذه الصحف موقف السلط الفرنسية الحامية وتقصيرها في
الدفاع عن مظلوم في بلد أتته فرنسا لتحميه وتضمن للجميع فيه حرية المعتقد.
وأقبلت جمعية "المفكرين الأحرار" تدافع عن الثعالبي وتهيب بالحكومتين
التونسية والفرنسية لإطلاق سراح الثعالبي. نقرأ مثلا في لائحة صوّت عليها
أعضاء تلك المجموعة بسوسة وأوردتها جريدة "لو ريببلكان" يوم 14 أوت 1904
وبعدما ذكّرت بأن المعاهدات التي أمضت عليها فرنسا تحمّلها مسؤولية ضمان
حرية المعتقد والفكر في تونس وبأن الحكومة الفرنسية أمرت بفصل التعليم
اللائكي عن فعل الجمعيات الرهبانية ومنع تأثير التعصّب الديني على النشء
فمن واجب المقيم العام والحكومة التونسية حماية العناصر التي تريد أن تندمج
في المواطنين الفرنسيين بأن تضمن لهم حرية التفكير والإنعتاق من كل
المعتقدات الدينية والدغمائية لذا تهيب بالحكومة أن تضمن فعليا لكل تونسي
أهلي مسلم أو يهودي حقه في نقد الدين أو الممارسات الدينية وحقه في التحرر
من كل معتقد ديني دون أن يخشى على حريته أو ذاته." هذه اللائحة قد أبلغت
للحكومة التونسية. كما تحرّك النشطون في "رابطة الدفاع عن حقوق الإنسان
والمواطن" للذّود عن الثعالبي حيث تدخل في أعلى مستوى رئيسها بفرنسا فرنسيس
برسنسي (Francis Pressensé) لدى وزير الخارجية الفرنسي يناشده في رسالة
بتاريخ 11 جويلية 1904 بأن يتدخل لمنع محاكمة الثعالبي الذي حسب مكتوبه لا
ذنب له إلا التعبير عن أفكار تحررية بينما يريد المتعصبون من القضاة
المسلمين إعدامه ومن واجب ممثلي فرنسا في محميتها الدفاع عن المظلومين
وضحايا التعصّب الديني .
لكن تحمّس النخبة الفكرية والسياسيّة
الفرنسية بيسارها ويمينها لقضية الثعالبي لم يكن فقط في رأينا دفاعا
مبدئيا عن مظلوم يحاكم من أجل أفكاره بل كذلك لأن الثعالبي في تلك الفترة
–وربما حتى أحداث الجلاز 1911- كان مقتنعا فعلا برسالة فرنسا التحضيرية
ودورها في النهوض وتمدين الشعوب المولّى عليها وهو ما أقرّه ذاته لاحقا
حتى أنه كان عضو "لجنة المغرب" (Le Comité du Maroc) التي ينشطها أصدقاؤه
من الرادكاليين في تونس أمثال كلرات ودستري وتعمل على تهيئة الجو السياسي
لاحتلال فرنسا للمغرب حتى أن عبد العزيز الثعالبي سافر في أواخر 1903 إلى
المغرب لإصدار جريدة إصلاحية تعمل لذاك الهدف . هذا الاجماع من القوى
الفرنسية الفاعلة في تونس لمساندة الثعالبي سنة 1904 لم يحظ به الطاهر
الحداد.
2- اليسار و قضية الحداد.
لئن كان الثعالبي سنة
1904 محسوبا في صف الموالين لفرنسا وحتى الموظفين في خدمة غاياتها
التوسّعية وحظي بحسن ظنّ النخبة السّياسية الفرنسية في تونس وتمّت مقاضاته
في ظرفيّة تاريخيّة لم تتبلور فيها بعد التناقضات بين الحضور الفرنسي
والحركة الوطنيّة فإنّ الطاهر الحدّاد على عكس ذلك كان سنة 1930 وراءه عشر
سنوات من النضال الإجتماعي والوطني ضدّ السّياسة الإستعمارية بالبلاد منذ
انخراطه في الحزب الحرّ الدّستوري التونسي (1920) ومشاركته محمّد علي
الحامي في تجربته لبعث جامعة عموم العملة التونسية (1924-1925) واضطهد من
أجل ذلك. لكن لئن عرف كمعاد للإستعمار وثائر ضدّ نتائج سياسته على المستوى
السّياسي و الإجتماعي والثقافي والإقتصادي فإنّ الحدّاد لم يكن هو أيضا
رافضا للمدنيّة الغربيّة برمّتها بل أنّ مشروعه في النهوض بالبلاد يستلهم
أسس التقدّم من تجربة الدّول الغربيّة والتي يراها الحدّاد في العلم والعمل
والتنظيم وقوّة رأس المال . غير أنّ سنة 1930 ليست سنة 1904 إذ بلغت
التناقضات بين المجتمع الأهلي التونسي والحضور الإستعماري مرحلة من التقدّم
ونضجت أكثر القوى الوطنيّة وكانت على أبواب تحوّل كبير سوف تعرفه بداية
الثلاثينات.
لذا سوف تكون ردود فعل قوى اليسار الفرنسي تجاه قضيّة الحدّاد في اعتبار لتلك المعطيّات والمستجدّات.
وبالفعل رغم أنّ القوى اليسارية الفرنسية قد بلغت مستوى من التهيكل
والإنغراس سنة 1930 إذ كان على المستوى النقابي (نقابات الكنفدرالية
العامّة للشغل...) أو على المستوى السّياسي (فدراليّة الحزب الرّادكالي،
فدراليّة الحزب الإشتراكي، فرع الأمميّة الشيوعية بتونس...) أو الإجتماعي
(رابطة الدّفاع عن حقوق الإنسان والمواطن، رابطة التعليم ...) فإنّ قضيّة
الحدّاد لم تحظ بالإهتمام إلاّ من قبل الإشتراكيّين. بينما غابت المواقف
المؤيّدة من الرّادكاليين مثلا هؤلاء الذين ساندوا الثعالبي بحزم هل لأنّ
قضيّة الحدّاد كان يراها التيّار الرّاديكالي كما تراها الصّحف اليمينيّة
التي أهملت الموضوع هي أيضا قضيّة داخليّة تهمّ الأهالي المسلمين أو لوعيهم
بأنّ الخطاب الرّادكالي المعادي للدّين ولرجاله إن كانوا مسلمين أو
مسيحيّين لا يخدم مصلحة الوجود الفرنسي بتونس ويفقد فرنسا حليفا موضوعيّا
لوجودها ؟ نعتقد أنّ ذاك السّكوت يجد تفسيره في المبرّرين معا. أمّا إهمال
الشيوعيين لمسألة الحدّاد ورغم ما قام حولها من جدال في الصّحف التونسية
وفي الرّأي العام هذا إذا استثنينا حضور بعض المناضلين الشيوعيين في حفل
تكريم الحدّاد يعود في تقديرنا إلى أنّ شعبة الشيوعيين كانت آنذاك في حالة
من الوهن بعدما منعت من الوجود القانوني منذ ماي 1922 وما تلى ذلك من
اضطهاد ومحاكمات لمناضليها ومنع لمنشوراتها ولم تعرف انتعاشة إلاّ مع بداية
الثلاثينات .
وخلافا لبقيّة التيّارات السّياسية الفرنسيّة وحتى القوى
الوطنيّة كان موقف الإشتراكيّين داعما للحدّاد في محنته رغم الخصومة التي
قامت بين الحدّاد ورفـــاقه من جـــامعة عموم العملة (1924-1925) مع
الإشتراكيّين الرّافضين زمنذاك استقلاليّة العمّال الأهليّين واتهامهم
بتقسيم وحدة الطّبقة العاملة والتعصّب والشوفينية ونال الحدّاد شخصيّا من
زعيم الإشتراكيين آنذاك جواشيم ديرال نقدا لاذعا متهما إيّاه بالتعصّب
والتحجّر الفكري ورغم ذلك الماضي القريب انبرى الإشتراكيون وخاصّة بقلم
زعيمهم الدّكتور كوهان حضريّة يدافعون عن الحدّاد معتبرين محنته وتكفيره
والمطالبة بمنع نشر كتابه هو بمثابة ممارسات "محاكم التفتيش" و "تذكّر
بالعصور الوسطى" عصور اضطهاد الكنيسة لمخالفيها وكتب كوهان حضريّة في "تنيس
سوسياليست" : "حتى وإن وافقنا على رأي شيخ الإسلام واعتبرنا كتاب الحدّاد
قد خرق المقدّسات ويدخل في باب الكفر فإني أعلن باسم حريّة التفكير : أنّ
الطاهر الحدّاد له الحق المطلق أن تكون له أفكار تخرق المقدّسات وحتى أن
تكون إلحادية. أقول إنه من الظلم أن يضرب الحدّاد في عرضه وفي عائلته وفي
مصدر رزقه لأنه عبّر علنا عن أفكار تخصّه" . وكان موقف الزعيم الإشتراكي
الآخر أندري ديران انقليفيال (A. Duran-Angliviel) أكثر عمقا وصرامة في
مناصرة الحدّاد مذكّرا في مقال له بالجريدة الإشتراكيّة بتاريخ 29 نوفمبر
1930 أنّ الحدّاد لم يفعل أكثر من أنه أوّل القرآن حسب اجتهاده شأنه شأن
المصريّين أو الأتراك فسلمته الإدارة الفرنسية "لعدالة محاكم التفتيش في
الجامع الأكبر، إنها لفضيحة !". مضيفا : "لكن ليست فضيحة في أن يتأثر الباي
وأن تطالب حاشيته بتسليط العقاب على الحدّاد وتحكم محكمة خاصّة عليه
بالطرد من حضيرة المسلمين لأنّ نظاما قائم على الدّين سوف يؤدّي حتما لهذه
النتائج من التعصّب والتعسّف ان كان الدّين آت من مكّة أو من رومة أو جيناف
أو من القدس". وينتقد الإشترراكيون بشدّة موقف المثقفين التونسيين من
الحدّاد ومن حريّة التعبير، موقفهم المندّد به أو الصّامت على اضطهاده
ويسائلهم ديران انقليفيال في المقال ذاته : "أريد أن أوجّه عناية أصدقائي
التونسيين للخطر الذي يحدق بهم برضاهم الطائش ذاك على ذاك الظلم الذي كان
ضحيّته أحدا منهم. لا يهم جوهر الجدل الدّائر ولا تهمّ أطروحة الحدّاد فإنّ
الأمر الخطير هنا هو أنّ تونسيّا لم يتمكّن من تبليغ أفكاره بأمانة حول
قضايا اجتماعية مختلفة دون أن يلقى أشدّ العقاب. وأقول لأصدقائي التونسيين
الذين جرحت شعورهم الدّيني أطروحة الحدّاد ونادى بعضهم بقتله والآخرين
بصلبه إنهم حكموا آنذاك على حريّتهم في التفكير وفي التعبير بالإعدام(...)
إنكم بقتل حريّة الفكر وحريّة الكتابة عند الحدّاد تقتلون حريّة الجميع وعن
قريب يتبيّن لكم ذلك بعد أن يكون قد فات الأوان" . وينتقد الإشتراكيون
الصّحف الفرنسية في سكوتها المريب عن اضطهاد الحدّاد شأن صحيفتي "لاديباش
تينزيان" أو "لو بتي متان" أو اصطفاف إحداها وهي "لا تينزي فرانساز" إلى
جانب المتزمّتين من الشيوخ المسلمين وإعابتها على كوهان حضريّة "قلة أدبه"
مع شيوخ الإسلام.
وتوجّه نقد الإشتراكيين بصفة حادّة إلى سلط
الحماية التي باركت مظلمة الحدّاد وأمضى مسؤولون منها على قرار العدليّة
التونسية بعد إستشارة إدارة الدّاخلية في عزل الحدّاد من خطته كعدل اشهاد
"وسقوط عدالته" وتلحيده وإخراجه من حضيرة المؤمنين معتبرين ذلك "خيانة
للمبادئ التي تقوم عليها الجمهورية الفرنسية اللائكية والدّيمقراطية" ويكتب
ديران انقليفيال : " إني لمغتاظ كيف يعقل أنّ خمسا وعشرين سنة (منذ محاكمة
الثعالبي) من الحماية لم تفلح في تلطيف صرامة نظام سياسي قام أصلا لتحضير
حكم المماليك ويبدو أنه على عكس ذلك قد تبنى أساليبه" .
كما أهاب
الإشتراكيون بالأحرار للوقوف إلى جانب الحدّاد ووجّهوا نداء إلى "رابطة
الدّفاع عن حقوق الإنسان والمواطن" للتدخل لدى السّلط الفرنسية والمقيم
العام بتونس للدّفاع عن الحدّاد مذكّرين تلك المنظمة أنّ أوّل مبدإ ترفعه
هو حريّة الفكر .
وكان لموقف الإشتراكيين هذا أثر كبير على
الحدّاد الذي أصيب بخيبة عميقة في بني قومه وتوجّه لزعيم الإشتراكيين
يشكره على دعمه له ويهديه نسخة من كتابه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" .
كيف نفهم هذا الموقف من الإشتراكيين ؟ رغم اللهجة الأبويّة والإستعلائية
أحيانا في ردود فعل قيادي الفدرالية الإشتراكية وفي سجالهم مع صحف
التونسيين المناهضين للحدّاد نعتقد أنهم بموقفهم ذلك كانوا أوفياء لقيم
تقوم عليها العقيدة الإشتراكية من إعلاء للعقل ولحريّة التفكير والمعتقد
وعداء للتزمّت الدّيني وإيمان بقيم العدل والمساواة ووقوفهم إلى صف مثقف
مضطهد سنة 1930 لم يمنعهم ثانيا من فتح أعمدة جريدتهم في باب "حق اللجوء"
للدّستوريّين الجدد سنة 1934 عندما اضطهدهم المقيم العام بيروطون- باسم
الدّفاع عن حريّة التعبير-، ممّا كلفهم منع صحيفتهم لحوالي سنتين.
خــــــاتمة :
إنّ موقف شيوخ القرار في الزيتونة من مسألة حريّة الفكر لم يتغيّر طيلة
الفترة المدروسة وحتى بعدها لأنهم بقوا سجيني نظام معرفي وقيمي تقليدي لم
يتمثل قيم الحداثة القائمة على العقلانية وحريّة الفرد وتحييد الدّين ولم
يستوعبوا منطق الزمن الحديث الذي نزعت فيه القدسيّة عن العالم فأضحوا جزءا
من الماضي ونشازا مقارنة مع ما كان ينادي به (ولا زال) دعاة الإشتراكية من
حريّة العقل وخرق المحرّمات وإعلاء صوت الإنسان والذود عن حقوقه. ولعلّ عدم
صمود الزيتونة بمنطقها ووظيفتها اللذين عرفا عليها زمن الإستعمار بعد
استقلال البلاد حجّة تاريخية على أنها كانت هيكلا روحه تعود إلى زمن ولـّى
وانقضى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق