هل من جديد تحت شمس السلطة الرابعة؟ قليل من
الجديد، وكثير من القديم. لا يفتأ المواطن يكتشف يوما بعد يوم طول المسافة
التي يتوجب على الإعلام قطعها حتى يصبح جديرا بكرسيه الرابع. هذا مسار
طويل، ولن نجتازه في القريب العاجل مهما كنا متفائلين. يلاحظ المتابع كثرة
في عناوين الصحف، وتعددا في البرامج السياسية على الإذاعات والقنوات
التلفزية، ويذهب في ظنه للوهلة الأولى أننا نعيش عصر ثورة الاعلام، وأن
الثورة، أو ما اصطلحنا على تسميتها كذلك، أمنت جانب هذه السلطة وأن
بإمكانها اليوم الالتفات إلى ما هو أهم. ولكن كثيرا من التهيؤات لم تعد
تنطلي على أكثر المتفائلين.
في البلدان التي يحترم
فيها الإعلاميون مواطنيهم، تكون مهمتهم هي الإعلام أولا، وبعد ذلك بإمكانهم
أن يبلغوا المضمون الذي يريدون، وأن يوصلوا الأفكار التي يؤمنون بها. أما
في البلدان الأخرى، فإن الخبر يختلق ويلوى عنقه منذ البداية، أو يقع تجاهله
تماما، ولا يحضر إلا الاستغلال غير الحرفي له، ككرة في ملعب بدا خاليا من
المدافعين وحارس المرمى. يكفي أن ننظر في هذا السياق إلى صحافة يوم الاثنين
2 جانفي، تاريخ بداية زيارة الرئيس منصف المرزوقي إلى ليبيا. لوهلة ظننت
أن الزيارة ألغيت، أو أنها زيارة صداقة، أو أنها زيارة علاج خاصة. تصفحت
معظم جرائد الصباح، ولم أجد فيها شيئا، أو تقريبا. في نشرة الأخبار
المسائية على القناة الأولى بدا لي أن هذه الزيارة لا تستحق أن يهتم بها
أحد فعلا، لذلك أخر الحديث عنها إلى المرتبة الثالثة أو الرابعة في أحداث
اليوم. نشرة أخبار الثامنة، وترتيبها العجيب الغريب للأحداث، أمر محير
فعلا. ولكن لعل في الأمر إبداعا من نوع جديد ما زلنا قاصرين عن إدراك
طرافته وعمقه. يحدث أحيانا أن يتأخر وعي المواطنين المتابعين للإعلام عن
فهم التقنيات والمنهجيات المستجدة في هذا العالم المتحول بسرعة، عالم
الإعلام، فيحتفظ دائما بحسن النية، وينتظر.
نفس الابداع حصل في نشرة أخبار
المساء، على نفس القناة، يوم تسلم الحكومة الجديدة مهامها، فكان ذلك الخبر
هو الطبق الرئيسي على عدة قنوات، إلا على قناتنا الوطنية الأولى. ربما تكون
تلك الحكومة قد تسلمت مهامها في بلد آخر، لتسيير دواليب دولة أخرى. وبما
أننا شعب آخر، فإن اهتماماتنا، وأولوياتنا، أخرى !
كان بإمكاننا أن نتفهم ترتيبا مماثلا للأخبار لو تعلق الأمر بقناة خاصة،
يديرها باعثها كما يريد ويشتهي، ولكن الأمر يتعلق هنا بقناة عمومية، ينفق
عليها من أموالنا جميعا. هذا هو "المرفق العمومي" كما يحلو للبعض أن يسميه
اليوم، وهم بالصدفة نفس أولئك الذين جعلوا منه ولعقود طويلة مظلمة، مرفقا
خصوصيا للرؤساء وزوجاتهم، وأصهارهم.
في
الديكتاتوريات، وكذلك في بعض الديمقراطيات الناشئة، ليس ضروريا أن يكون
هناك إشراف مباشر من الحكام والمستبدين بالحكم على الصحفيين. في كثير من
الحالات يتحول الصحفي بدوره إلى ديكتاتور صغير، لا يرينا إلا ما يرى، أو
يتوهم أنه يرى. المشكل أن ذلك ينطلي عليه أحيانا، فيذهب في ظنه أنه يصوغ
الرأي العام من منطلق الحرية، في حين أنه ينحرف به، أو يسعى لينحرف به، من
منطلق آخر مختلف تماما هو منطلق رفض الحرية إذا ما تضاربت مع ما يرى، وليته
كان يرى !
في
الأصل، تتمثل مهمة الإعلامي في أن يعلم بالخبر، وحتى لا يتحول إلى بوق
للأحداث فحسب، فإنه يحاول أن يستقرئ أبعاد الخبر، وأن يحترم المتلقي، ووعي
المتلقي، الذي يتضح في كثير من الأحيان أنه لا يعول على تلك الوسيلة
الإعلامية فحسب لتلقي المعلومات، والاطلاع على التحليلات. في كثير من
الأحيان، ينسى الصحفي أن يحترم جمهوره، فيفقد مصداقيته، وحينئذ ينهار البيت
على كل ساكنيه.
يذهب في ظن الكثيرين، مع ذلك، عندما يرون عشرات العناوين
الجديدة تغزو أكشاك الصحف، أن عصر حرية الإعلام قد بدأ فعلا. يستفيق بعد
ذلك مباشرة على أن كثيرا من العناوين التي صعقته جرأتها في "كشف" الحقائق
ليست في نهاية الأمر إلا محلات مرخص فيها للابتزاز الرخيص. يتعلق الأمر هنا
بعناوين أوراق جعل منها أصحابها مصدر رزق غير شرعي عن طريق نشر ملفات
يفترض أن تكون تحت نظر القضاء. المشكل أن هؤلاء، وأكثرهم تاريخيا من تجار
الذمم وأعوان المخابرات، يعلقون جرأتهم على شماعة الثورة وانطلاق الحريات،
وهو ما يسمح لهم بالحصول على أموال كثيرة ممن يقومون بمهاجمتهم من
المسؤولين وكبار رجال الأعمال الفاسدين. فساد يحطم آخر ولكنه لا يقضي عليه،
طبعا.
أما البكائيات المتلفزة والمذاعة، فحدث ولا
حرج. اختصت بعض القنوات والصحف كثيرة الألوان والأضواء والأموال، والتي
تقع تحت إدارة من سامنا طيلة سنوات عديدة كل صنوف التعذيب النفسي وإهانة
الذكاء الجمعي، في نوع جديد من الإعلام، تجد فيه كل شيء، عدا الإعلام.
المشكل أن هؤلاء، الذين بنوا ثروات طائلة من السخرية من ذكائنا، يعتقدون أن
طريقة العمل التي ينتهجونها مثمرة، ولكنهم لم يجرؤوا مرة واحدة على النظر
إلى وجوههم في المرآة. يذهب في ظن هؤلاء، وقد جاؤوا إلينا مدججين بالأموال
والأدران، أنهم إعلاميون دورهم رفع الغشاوة عن أعيننا، ولو رفعوها عن
أعينهم لكان أفضل لهم، ولنا. في حديث لأحد رؤساء التحرير الورقيين مع من ظن
أنهم زملاء له، صرح الرجل بأن كل الصحفيين قذرون بدرجة أو بأخرى، وأنهم
لعبوا طيلة عهد ابن علي أدورا قذرة ضد ذكاء الناس، وأنه من المفيد عدم فتح
هذا الملف لأن الجميع سيخسر من فتحه. أخطأ الرجل مرتين، بالقول أن كل
الصحفيين قذرون أولا، وبالقول أنه من المفيد ألا يفتح أحد هذا الملف. أما
الخطأ الآخر، فاعتبار نفسه صحفيا، وقد كان باستمرار عون مخابرات
لديكتاتورية حمقاء !
الديمقراطية
لا تلائم الجميع حتما، لأن من تربى على أيدي الديكتاتورية، لا يمكن أن يكون
حرا. الانتخابات ونتائجها المحبطة بالنسبة إليهم هي مربط الفرس، وهم لا
يخجلون من التصريح بذلك فيما بينهم. ودوا لو زورت، أو أنها لم تتم. المشكل
أنهم كانوا من المساهمين الرئيسيين في نتائجها التي صارت معلومة، وأن تلك
النتائج صفعتهم هم بالذات قبل أن تصفع غيرهم. ولأنهم تربوا في أحضان
المستبدين واللصوص، فلا خيار لهم غير مواصلة الهرولة في المنحدر.
في المقابل يعتقد البعض أن الحل يكمن في جعل الإعلام حكوميا، وهؤلاء ربما كانوا في مثل العمى الذي أصاب غيرهم. لا معنى في عالم اليوم لإعلام حكومي، بل لإعلام حرفي تسوس العاملين فيه أخلاقيات العمل الصحفي التي يجب أن تضبط، ولن يضبط تلك الأخلاقيات من افتقدها حتما. في الساحة كثير من الصحفيين الشبان الذين يودون أن يفسح لهم مجال، وأن ينالهم من الأضواء ما نال غيرهم دون وجه حق. هؤلاء هم مستقبل الصحافة في بلاد تعيش تحولا نحو الديمقراطية، وليس العجلات المهترئة. الآن بدأت "عربات الأجرة" تلك في التسويق لإبداعات جديدة، ولأنها لا تفهم أن لكل طريق العجلات التي تتلاءم مع طبيعتها، فإنها ستبقى مصرة على عدم إتباع إجراءات السلامة الدنيا، وعلى الاتجاه إلى الخلف عندما يتوجب السير إلى الأمام. أيها "القايد"، رجاء، هل تستطيع حقا إنقاذهم؟!
في المقابل يعتقد البعض أن الحل يكمن في جعل الإعلام حكوميا، وهؤلاء ربما كانوا في مثل العمى الذي أصاب غيرهم. لا معنى في عالم اليوم لإعلام حكومي، بل لإعلام حرفي تسوس العاملين فيه أخلاقيات العمل الصحفي التي يجب أن تضبط، ولن يضبط تلك الأخلاقيات من افتقدها حتما. في الساحة كثير من الصحفيين الشبان الذين يودون أن يفسح لهم مجال، وأن ينالهم من الأضواء ما نال غيرهم دون وجه حق. هؤلاء هم مستقبل الصحافة في بلاد تعيش تحولا نحو الديمقراطية، وليس العجلات المهترئة. الآن بدأت "عربات الأجرة" تلك في التسويق لإبداعات جديدة، ولأنها لا تفهم أن لكل طريق العجلات التي تتلاءم مع طبيعتها، فإنها ستبقى مصرة على عدم إتباع إجراءات السلامة الدنيا، وعلى الاتجاه إلى الخلف عندما يتوجب السير إلى الأمام. أيها "القايد"، رجاء، هل تستطيع حقا إنقاذهم؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق