الجمعة، 3 أغسطس 2012

التنمية في ظل استشراء مظاهر الفساد المالي أي معنى؟ علي محمد شرطاني

التنمية في ظل استشراء مظاهر الفساد المالي
أي معنى؟

لا حديث عن حركة تنموية ناجحة بدون برنامج تنموي واضح وجاد يقوم أولا وأساسا على:
ـ رأسمال وطني تتوفر له كل شروط النماء والتطور والنجاح في إطار منظومة قانونية تحميه،بعيدا عن الإستغلال والرشوة والمنافسة غير الشريفة، وبعيدا عن مخاطر السوق الموازية، وعن الضرائب الثقيلة التي تثقل كاهله وتعيق نماءه وتعرقل تطوره، وفي إطار إكرام الإنسان لأخيه الإنسان، وإعطاء الأجير أجره قبل أن يجف عرقه، وتمكينه من حقوقه الكاملة حتى يكون أكثر إنتاجا وأكثر عزيمة وحرصا، وحتى يتخلى عن الإهمال، وينصرف عن اللا مبالاة، ويتجنب الإتلاف، وينتهي عن السرقة، وينسى التواكل. لأن رصيد الرأسمال الوطني هو الإنسان ا لعامل المنتج، ورأسمال العامل الوطني المنتج هو الرأسمال الوطني، فلا غنى للواحد عن الآخر لمن أراد المعادلة الكاملة لتوفير أكثر ما يمكن من ضمانات النجاح.
فللحركة التنموية الناجحة شروطها الأساسية التي لابد منها والتي هي في الحقيقة من شأن أهل الإختصاص والذكر الذين حين لا يتحركون يجد متطفل مثلي نفسه مضطرا إلى القول فيه بما لا يفي بالغرض في الموضوع ، والتي منها على سبيل الذكر لا الحصر:
ـ الحرية: فلا تنمية بدون حرية. وقد رأى العالم كله كيف أن أمبراطورية كاملة قد انهارت بفعل طبيعتها الدكتاتورية والقهرية المصادرة لإنسانية الإنسان، في وقت مازالت تمتلك فيه الكثير من أسباب القوة الأخرى. وبدون تحرير المبادرة للمواطن كي ينصرف إلى ساحات الإبتكار والإبداع في ميادين كل مناشط التنمية الإقتصادية والمالية، في إطار ثقافة تقديم الواجبات عن الحقوق، وبعيدا عن ثقافة الرأسمالية المتوحشة التي لا اهتمام فيها إلا بالحقوق، ولا تكاد تعترف بشيء من الواجبات إلا ما يفتك منها افتكاكا.
فالإنسان الحر هوا لذي يحسن الكر والفر ،والتنمية كر باتجاه الفعل الإقتصادي في ميادين الصناعة والتجارة والزراعة والخدمات المنتجة المختلفة لتحقيق أكثر ما يمكن من الربح المشروع، وإنتاج أكثر ما يمكن من البضاعة بأكثر ما يمكن من الجودة، في أقل ما يمكن من الوقت وبأكثر ما يمكن من العمالة أيضا. لأن صاحب رأس المال الوطني، بقدر ما هو مطالب بالمحافظة على ذلك الرأسمال وبقائه وإنمائه، بقدر ما هو مطالب أيضا باستيعاب أكثر ما يمكن من اليد العاملة الوطنية المختلفة. وهي فر باتجاه المحافظة على رأس المال بعيدا عن الخسارة والإفلاس، على الأقل في حال عدم القدرة على إنمائه، للمراجعة والبحث عن أسباب ذلك
ـ الأمن: أي الأمن المحقق للإستقرار التلقائي الهادئ والطبيعي، وليس ذلك المفروض بقوة السلطة التنفيذية من أصحاب النفوذ والمصالح، أو الخوف من مصادرة الأرزاق والممتلكات، وإثقال الكاهل بالضرائب، بما يوقع المنتج أوالناشط الإقتصادي في التهرب الضريبي وتهريب الأموال واعلان الإفلاس المغشوش وتجميد الرساميل وإخراجها من الدورة الإقتصادية وهو كاره أحيانا، لينسحب ذلك سلبا بالطبع على حركة التنمية، ووضع البلاد والعباد في صعوبات اقتصادية ومالية قد يكون الأجنبي هو المستفيد الوحيد في النهاية منها .
ـ الديمقراطية السياسية: ويكون ذلك في إطار فسح المجال لكل أبناء الشعب للمساهمة في بناء البلاد وتنميتها على كل الأصعدة وفي كل المستويات، من خلال التنظيمات السياسية الحرة المختلفة المناهج والمشارب والبرامج، والجمعيات المستقلة. وفسح المجال لحرية التعبير والإعلام والنشر والتوزيع والتداول السلمي على السلطة، ليكون التنافس من أجل تنمية حقيقية عن طريق البرامج و الإحتكام الى الشعب بكل حرية وشفافية ونزاهة وتواضع ونكران للذات لصالح الوطن والشعب .
هذا التنافس من أجل الصالح العام هو الذي ينهي النهب والفساد وسوء التصرف في المال العام. وينهي المحسوبية والرشوة والتحيل والفساد الإداري واستغلال النفوذ وكل هذه الأمراض التي لا حد لها على الأقل.
ـ استقلالية القضاء: بما يعني أن يكون القضاء آخذ موقعه بالبلاد كسلطة قضائية مستقلة كما ينص على ذلك دستور البلاد لا مجرد سلك قضائي كما يتردد على لسان الرسميين في السلطة التنفيذية وفي خضوع كامل لها توظفه كيف تشاء.
ذلك أنه لا عدل بدون استقلال القضاء ولا تنمية في ظل الجور والظلم و الإستبداد والفساد ولا يستقيم القول بتنمية سياسية ولا اجتماعية ولا ثقافية ولا اقتصادية بدون استقلال القضاء لتحقيق العدل بين الناس لأن القضاء المستقل وحده هو الكفيل بتحقيق المساواة لا بين المحكومين وحدهم ولكن بين الحاكم والمحكوم وبذلك فقط يتم القضاء على جل إن لم يكن على كل الآفات المعيقة لحركة وبرامج التنمية كالرشوة والمحسوبية والفساد المالي والإداري واستغلال النفوذ. و إذا كان استقلال القضاء ركن من أركان النظام الديمقراطي فانه لا ديمقراطية بدون سلطة قضائية مستقلة ولا تنمية حقيقية كذلك بدون ديمقراطية ونظام قضائي مستقل .
ـ المحافظة على القطاع العام: ذلك أن تنمية حقيقية لا يمكن أن تتحقق في ظل مغادرة الدولة نهائيا للحركة الإقتصادية وعدم الإشراف على ادارة مشروع التنمية،و وضع كل القطاعات الإقتصادية والمالية وقطاع الخدمات الهامة بين يدي الخواص والرأسمال الخاص الأجنبي خاصة، والذي فيه ما يشبه التفريط في السيادة على الأوطان.
فلابد أن تنصرف الدولة ولو عن بعض شروط المؤسسات المالية الدولية. و أن تعمل على المحافظة على كل القطاعات الإستراتيجية والحيوية لتظل ملكا لها، لأن ملكيتها لها ليس لها من معنى غير ملكية الشعب لها.
أما التفويت فلا يعدو إلا أن يكون تسليم ملك الشعب من خلال الدولة للأثرياء من أصحاب الرأسمال الوطني ـ وهو الأمر الأقل خطورة في الموضوع ـ أومن أصحاب رأس المال الأجنبي الذين يستطيعوا أن يغادروا في أي لحظة شاءوا و مهما كانت الضوابط والإلتزامات والقوانين والإتفاقيات. لاسيما وأنهم هم الذين لم يدخلوا بلد كبلدنا إلا بشروطهم ، وهم الذين يستطيعوا أن يغادروا في أي لحظة شاءوا وكلما أرادوا أن يسقطوا البلاد كأي بلد آخر في أزمة اقتصادية وسياسية، مثلما فعلوا في نمور اقتصاد دول جنوب شرق آسيا من قبل. أوكلما حلت بها ظروف استثنائية تضطرهم الى المغادرة الى حيث الإستقرار والربح السهل والأكثر وفرة
وبقدر ما تكون البيئة السياسية والثقافية والإجتماعية من شروط نجاح التنمية الإقتصادية، فان البيئة الطبيعية ونظافة المحيط، هي كذلك من أوكد هذه الشروط ، بما للتربة والماء والهواء من قيمة ومن تأثير على نجاح خطط التنمية وبرامج تطوير الإقتصاد في أي بلد من بلدان العالم، وبما للتلوث من خطر على البيئة وعلى الإنتاج والإنسان، وعلى كل ما بالأرض برا وبحرا وجوا من حيوان وجماد ونبات. فالكل في تونس يعلم اليوم أن من أكثر الأمراض استفحالا في ولاية قفصة مثلا هو مرض السرطان جراء ما يتزود به فيهاالمواطنمن سموم ينفثها المعمل الكيمياوي بالمظيلة يوميا، وعلى امتداد مساحات كبيرة في مدة أكثر من عشرين عاما. هذا المعمل الذي ينتج الموت للإنسان والحيوان والتربة والنبات، قد تم تحديد موقعه بعناية فائقة، بحيث يجب أن تلحق أضراره كل المناطق المحيطة به والقريبة منه. فقد كانت الجهات المعنية والمسؤولة حريصة على أن يتوسط المنطقة الفاصلة بين كل من معتمدية القطار ومعتمدية القصر المتصلة عمرانيا بوسط مدينة قفصة، وليكون أقرب فقط لمركز معتمدية المظيلة، لتكون تلك خطة عادلة يكون كل أبناء هذه الجهات والمناطق قد تقاسموا بالسوية هذه الأضرار،لا بأن ينقص ما يلحق هذه تلك، ولكن ليلحق الكل نفس الضرر وبنفس القدر. والكل يعلم اليوم أن واحتي كل من قفصة والقطار آخذة كل واحدة منها طريقها وبخطى حثيثة الى الزوال بفعل ما أصبح يصيبهما وباستمرار من سموم التلوث في التربة وفي الماء وفي الهواء
ـ ثم انه لا تنمية بدون تعدد مصادر الإنتاج الصناعي والتجاري والزراعي: وتكامل هذه المصادر والقطاعات في ما بينها.
فلا تنمية حقيقية بدون إزالة مصادر التلوث، وبدون توفير مصادر المياه وإحياء الأراضي، وبدون تكامل القطاعات الحيوية الإستراتيجية./
فلكم ظلت ولاية قفصة مثلا معولا فيها على قطاع مناجم الفسفاط ، بدون أن تتم معاضدته بأي قطاع زراعي وتربية للماشية في بيئتها الطبيعية، ومن ثمة أي نشاط صناعي وتجاري حيوي آخرفحتى بعض المعالم التاريخية التي يعول عليها في القطاع السياحي، لم تتم العناية بها بما يجعلها أكثر استقطابا للزوار والسياح. فقد ظل محافظا على الإحاطة بالجفاف لهذه المناطق المنتجة للفسفاط إلى أن اختفت فيها الكثير من الحيوانات البرية والطيور النادرة بالهجرة أو بالإنقراض، وبعض الحيوانات الأهلية بالإستغناء عنها وتهميش العناية بها رغم مناسبة البيئة لها، ورغم عدم كثرة كلفتها، ورغم صلاحيتها لتزويد السوق باللحوم وبعض ما توفره على مربييها على الأقل من ألبان، كالإبل التي نشأ توجه جديد في السنوات الأخيرة لإعادة الإعتبار لها وإرسال قطعانها مرة أخرى مثلما كانت عليه من قبل وقبل عقود من الزمن .
فالتنمية: وطنية أولا، ثم عناية وجدية وحزم وصدق في التعامل مع قضاياها وقطاعاتها ومجالاتها، والعمل باجتهاد ومسؤولية ومثابرة على استكمال شروط نجاحها بدءا بالإنسان وانتهاء بالبيئة برا وبحرا وجوا، وبأغطيتها الخمسة المعروفة المكونة من الغطاء المائي، والهوائي، والنباتي، والصخري، والحيواني .
ـ فقد كان القطاع الزراعي بولاية قفصة مثلا، قابلا للتطور ووفرة الإنتاج و توفير عامل الجودة أيضا. إلا أن مسالك توزيع المنتوج ومصارف الإيداع وضيق مساحات الترويج أعاقته، وكانت من العقبات الكأداء في طريقه. إضافة الى ارتفاع الكلفة من خلال ارتفاع أسعار قطع الغيار والبذور الحية التي زادها التعديل الجيني وعدم قدرة الفلاح على التعامل الإيجابي معها خطورة وتعقيداـ بعد أن تم التفريط في بذورنا الحية الطبيعية ـ إضافة الى ما يمكن أن يترتب عنها من أمراض ومخاطر مازالت محل اختلاف نفيا وإثباتا بين الخبراء والمعنيين بهذا الموضوع ـ والإرتفاع المستمر للوقود والأسمدة، والمكوس المسلطة على المنتوجات الزراعية النازلة بالأسواق الأسبوعية خاصة، تلك التي تم التفويت فيها من قبل البلديات للخواص، الذين رأيت بأم عيني أن أعوانهم يتعاملون مع المنتجين وكأنهم شركاء معهم في منتوجهم. وغيرها من العمليات والضروريات اللازمة لهذا القطاع مما جعله يتراجع الى أدنى حد له. وأخذ الفلاحون في الأرياف يبحثون عن التخلص من زراعتهم التي أصبحت بذلك غير مربحة بما فيه الكفاية وقد أصبح منهم من ليس محافظا على مكانه إلا اضطرارا ، ويبحثون عن مناشط تجارية أخرى أكثر ربحا وأوفر حظوظا في النجاح فيها، مما يزيد حركة النزوح سرعة، ويزيد الفئات المهمشة حول المدن كثافة أضف الى ذلك نقص الإمكانيات المادية التي عادة ما تكون في شكل قروض غالبا ما يجد الفلاح نفسه مضطرا لإنفاق الجانب الكبير منها على عياله، وهو الفقير المدقع الفقر، ويفلح بالباقي ما يستطيع فلحه في أرضه على أي نحو كان تقسيط الجهات المانحة لها له والتي لا يستطيع في النهاية لها إرجاعا. وهو الذي يستثمر ذلك الباقي من الأقساط في زراعة الخضر التي غالبا ما يبيعها للمستهلك مباشرة، أمام منافسة ووفرة في الإنتاج في عرض يفوق الطلب بكثير أحيانا، إضافة الى ضعف المقدرة الشرائية للمستهلك، فيكون مردودها بذلك أقل مما يجب أن يتوفر له من الربح، مما يغطي مصاريفه، وما ينفق منه على معاشه، وما يستطيع أن يسدد به منه الديون المتخلدة بالذمة في مواعيدها أو حتى في غير مواعيدها .
تلك هي الصورة التي عليها واقع الكثير من المناطق الريفية أو مناطق الريف كلها في إطار حركة التنمية الريفية خاصة، في بلادنا سواء في ميدان الزراعة أو تربية الماشية أوالصناعات التقليدية، على خلفية تنمية تلك المناطق، وتعزيز حركة الإقتصاد الوطني، وتثبيت أهاليها وأصحابها فيها، في محاولة لمنع أو الحد على الأقل من النزوح، فان المنح والقروض الموجهة لهذه المناطق، والمسندة لطالبيها من أصحاب هذه الجهات الريفية في مختلف مستوياتها، والى مختلف الجهات الفقيرة أصلا، عادة ما يتم صرفها في غير ما منحت لصرفها فيه، لتكون النتيجة أن لا يقع العثور في النهاية على الأموال والعينات المسندة للجهات الممنوحة، ولا على المشاريع المطلوب إقامتها لإحداث التنمية الجهوية والريفية، ولا تعاد الإعتمادات المالية أوالعينية الى الجهات المانحة، ولا تبرأ ذمة المدان المقترض من الدين، ليظل في مواجهة العجز المستمر لسدادها، ولتذهب بذلك الأموال الى غير رجعة. ولعل ملاحقة هؤلاء بالعقوبة البدنية يكون واردا، من يدري ؟
وليظل الفقر والفاقة والبطالة والنزوح أسياد الموقف في تلك الأوساط والربوع دون أن يعني ذلك عدم وجود بعض حالات النجاح والتوفيق.
فلا بد والحال هذه من البحث عن حلول صحيحة وأكثر جدية، وان بمزيد الإنفاق على ذلك، وفي إطار حياة سياسية حرة وديمقراطية وعادلة، تحفظ الأموال، وتحدث التنمية المطلوبة، وتتقدم خطوات في حل مشاكل البطالة والفقر، وتفرض الإستقرار، وتنهي النزوح
ولعل بعض الحلول الممكنة حين لا يوجد أفضل منها وأقوم، وان كان بما يكلف المجموعة الوطنية المزيد من النفقات، ولكن لا بأس بذلك، إذا كان ذلك مما يمكن أن يكون من الممكن أن نتدارك به السلبيات والنقائص، بل والخسائر التي سبقت منا الإشارة إليها سالفا. وهو أن تتدخل الجهات المانحة أو المقرضة لإنجاح برامج التنمية عموما، والتنمية الريفية خصوصا، بصفة خاصة لتشغيل الأطراف والأفراد الممنوحين أو المقترضين في أراضيهم أو مشاريعهم بأجور محترمة تقع إضافتها الى مجموع أقساط القروض والمنح الواقع توجيهها الى مستحقيها لمدة تكون ـ من خلال مراقبتهم في ذلك ـ كافية لأن تعطي تلك المشاريع من الإيراد ما يصبح به المستحق قادرا على تغطية نفقاته الضرورية اليومية، وتحويل باقي إيراد فائض الإنتاج بعد المصاريف اللازمة الى الجهات المقرضة بحسب الصيغ القانونية المتفق عليها، لإستخلاص تلك القروض. وذلك من الحلول التي تخرجهم من دائرة الإضطرارللتصرف في ما تمت الموافقة لهم عليه من قيم مالية، وصرفها في ما كانوا يجدون أنفسهم مضطرين لصرفها فيه، من مآرب وأغراض فردية وجماعية تقتضيها ضرورة العيش والحياة، خاصة عندما يتعلق الأمر بجعل تلك الأموال في مشاريع طويل أمد جني ثمارها وإعطاء ايرادها، وغير سريعة الإنتاج كالبقول والأشجار المثمرة .
ولعل ذلك يكون مناسبا وكافيا وضامنا لنجاح بعض برامج التنمية في بعض الجهات، ولسداد الديون، ولصون المال العام، ولإنهاء بعض نسب البطالة، ولتحقيق تثبيت أكثر ما يمكن من الناس في بيئتهم ومحيطهم، ولقطع الطريق أكثر ما يمكن أمام النزوح والزحف على المدن. /
أما التنمية الصناعية والتجارية وفي قطاع الخدمات فقد أصبحت ـ في ظل سياسة التفويت في القطاع العام وانسجاما مع التوجهات الجديدة للرأسمالية المتوحشة في سياق الحركة الإستعمارية الحديثة في إطار نظام العولمة الذي تشرف عليه الأمراطورية الأمريكية، وتعمل على فرضه بقوة السلاح والعقوبات الإقتصادية ،وغير ذلك من الأساليب والضغوطات المختلفة، وانسجاما كذلك مع سياسة واملاءات وشروط المؤسسات المالية الدولية المدانة شعوبنا لها، والمعادة جدولة ديوننا لديها، ووضع اقتصاد البلاد وبرامج التنمية بين يدي الرأسمال الخاص، وتوجه الدولة التي يجب أن تصبح بعد ذلك دولة أصحاب رؤوس الأموال نحو الإكتفاء بجمع الضرائب سواء على المستهلك العادي أو على هذا الرأسمال الخاص ـ مقتصرة على تنمية الرأسمال الخاص وأخذ الضرائب .
هذه الضرائب التي غالبا ما تكون مرتفعة، مما يجعل المواطن العادي وبصفته مستهلكا وأجيرا أو موظفا الأكثر تضررا. لأنها تضاف الى الأسعار الملزم بدفعها للسوق المزودة له بالسلع الإستهلاكية، ويتم خصم تلك المسلطة على إيراده الشهري مباشرة من راتبه أو أجره، ثم يأتي بعد ذلك دور صاحب رأس المال ـ الذي وان كان لا يختلف في التزامه بدفع الضرائب المجرات على السلع الإستهلاكية عن الموظف والأجير بصفته مستهلكاـ فان الأمر يكون مختلفا فيما يتعلق بالدفع الضريبي باعتباره منتجا ومؤجرا هذه المرة، و لأن ارتفاع الضرائب يترتب عنه حتما لدى الجشع الرأسمالي تزوير حقيقة الدخل وتفشي ظاهرة الرشوة والتهرب الضريبي بما ينقص أكثر ما يمكن من القيم المادية الواجبة الدفع، مما يمكن أن يكون سببا في ضعف إيرادات الخزينة العامة، وذلك ما قد يضطر السلطة التشريعية فالتنفيذية أحياناـ وتفاديا لإعلان البعض الإفلاس، وحرصا من الدولة على المحافظة على استمرار هذه القطاعات في الوجودـ إذا كانت هناك رغبة في ذلك طبعا، وإذا كان تقدير المصلحة الوطنية يتجه نحو ذلك، وإذا كانت هناك جدية في التعامل مع هذه القضايا الحيوية بروح وطنية عالية ـ لتوفير أكثر ما يمكن من حظوظ الدفع الضريبي ،وللمحافظة على استيعاب مؤسسات هذه القطاعات المنتجة أكثر ما يمكن من اليد العاملة المختلفة ـ أن تقدم لأصحابها من التسهيلات ومن التشريعات ما يخفف من تلك المخاوف، وتتحقق به تلك الأهداف .
أن هذه اليد العاملة هي التي ـ من موقع المضطرـ توفر على الأعراف فائضا كبيرا من الوقت زائدا عن الوقت القانوني وبدون مقابل، وهم الذين ليس أمامهم ـ في إطار إتباع سياسة الخوصصة والتفويت في القطاع العام، و في غياب نظام ديمقراطي تعددي حر مستقل وشفاف يمارس فيه الشعب صاحب السيادة عن طريق مؤسساته ومكونات مجتمعه المدني والسياسي الرقابة والمحاسبة، ويمكن فيه لحقوق الإنسان بكل مسؤولية وهو الضامن لها ـ إلا أن يرضوا بذلك ويقبلوا به تفاديا للطرد، ومقابل العمل على مزيد استيفاء شروط الإستمرار في الشغل، وبكامل شروط الأعراف . وغالبا ما يكون العمال في مثل هذه القطاعات، وفي إطار هذه السياسة الإقتصادية المفروضة، وفي غياب كل شروط وتشريعات نظام السوق الضامنة ولو للحدود الدنيا من حقوق العمال، في بلد لا يعرف فيه الكائن البشري الحي عموما صفة للمواطنة ـ بدون ترسيم، وفي أعداد غفيرة منهم محرومين من كل الضمانات، و حتى من بعض الحقوق التي تكفلها لهم بعض القوانين المنظمة للحياة المهنية، في التغطية الإجتماعية وغيرها. لتكون النتيجة أن الخاسر الأكبر في سياسة هذا النظام الجائر الوافد علينا من حيث تولد المصائب و الشرور، ومن حيث لا يفد علينا منه إلا ما قل وندر من الخير، هو العامل. وليظل ـ وهو العنصر الأنشط في عملية الإنتاج وفي حركة الإقتصاد ـ هو الأضعف. وهو الذي عليه في النهاية القسط الأكبر حتى من الدفع الضريبي العائد الى الخزينة العامة. وهو الذي يعود منه ذلك للأعراف كذلك، ومن ثمة للرأسمال الخاص في حال عدم الترسيم وفي حال غياب حتى بطاقة خلاص له في أحيان وحالات كثيرة. وهو الذي لاحظ له في القطاع العام الذي أصبح مزودا لساحات البطالة بالآلاف من المسرحين من الشغل. والذي ليس أمامه إلا الغرق في وحل البطالة أو الإستغلال الفاحش، سواء من طرف سلطة الإشراف السياسي بدفع الضرائب و الآداءات والمكوس، أو من طرف الأعراف وأصحاب رؤوس الأموال المحليين منهم والأجانب، الذين وضع اقتصاد البلاد بين أيديهم .
فهو الذي كمستهلك يدفع ضريبة القيمة المضافة المرتفعة جدا، والمسلطة على جل إن لم يكن كل السلع والخدمات الإستهلاكية الضرورية، وغيرها من الضرائب الأخرى الكثيرة المختلفة الثقل، كتلك المسلطة عليه على استهلاك الماء والكهرباء والهاتف والعتبة وحق الجولان في بنية أساسية وشبكة طرقات ومسالك توزيع مهترئة تفتقر لأكثر مواصفات وشروط السلامة، في بلاد مقبلة على تنفيذ اتفاقيات شراكة مع دول الإتحاد الأروبي ابتداء من سنة 2007، مقابل مضاعفة هذه الضرائب والأداءات كل عام،
من غير أن يرى بعدها أثرا يذكر على تلك البنية الأساسية. فالطرقات ـ وفي جانب كبير منهاـ هي هي. وهي التي في جانب منها مازالت تلك التي مدها المستعمرون الفرنسيون لبلادنا فيها لنقل أكثر ما يمكن ـ في إطار حركة النهب الإستعماري لثرواتنا ولعقود من الزمن ـ منها الى حيث ينتفع بها من ليس له حق في الإنتفاع بها. والى حيث تصنع الأسلحة التي يقتلون بها أبناء شعبنا، وكذلك الجسور والموانئ والمطارات ـ عدى بعض الإصلاحات والإضافات القليلة التي لا تفي الى الآن بالحد الضروري لتسهيل تنقل المسافرين ونقل البضاعة، قياسا دائما لما كان يجب أن يكون عليه الوضع في إطار الزمن، وقياسا للإعتمادات المالية التي من المفروض انه يتم رصد ها لها، والتي من المفروض أن يكون دائما لمستعمليها القسط الأكبر منها ./
فكل هذه العوامل الواقعية التي نعيشها معرقلة في الحقيقة لبرامج التنمية، وليست عوامل إنجاح ودفع وتحسين لها، رغم المجهودات التي تبدو مبذولة باتجاه انجاحها . ولكن الفساد المالي والإداري، وإسناد المسؤوليات على أساس الولاء الحزبي، وليس على أساس الكفاءة والحرفية والصدق والإخلاص والقدرة على الإبداع ،هو الذي يأتي على رأس أسباب فشل برامج التنمية في مختلف قطاعات الإنتاج في بلادنا.
ومما يزيد برامج التنمية ضعفا تلك الأرصدة المالية المجمدة بالبنوك التي يعمل أصحابها على تجنب المغامرة، بروح لا وطنية، وبعيدا عن المسؤولية، وبانتهازية وأنانية فائقة، في إدخالها في الدورة الإقتصادية مباشرة، في توق الى اكتفاء بالربح ألربوي المحرم السهل الذي تدره عليهم كل يوم أو كل شهر أوكل سنة. أو باستثمارها في قطاعات غير منتجة وغير مفيدة للإقتصاد الوطني ( كقطاع البناء لغرض الإيجار مثلا وغيره من القطاعات…).
هذه الأموال التي كان يمكن أن يوجد من التشريعات بعيدا عن الموروث التشريعي الرأسمالي الإستعماري الضامن للملكية الفردية والمقدس لها ما يجيز للدولة أن تتدخل لتفرض ـ إذا لزم الأمرـ على أصحابها إلحاقها بدورة اقتصاد البلاد على غير النحو السلبي الموجودة به، وإدراجها في برامج التنمية في مشاريع وقطاعات منتجة تعود بالنفع على البلاد والعباد، وفق دراسات علمية تتوفر لها بها كل أسباب وشروط النجاح. وأن تصادر منهم إذا لزم الأمر فوائدها وأرباحها وإيراداتها للصالح العام، أواعطائهم حق التمتع ببعضها مع الإحتفاض لهم بحقهم في الأصل و ضمانه لهم وفق صيغ قانونية محددة. لأن اكتفاء الدولة بجمع الضرائب والجباية والآداءات والمكوس بعد وضع الإقتصاد بين يدي الرأسمال الوطني والأجنبي ،وعدم تدخلها في ما زاد على ذلك، يكتسي مخاطر كبيرة يمكن أن تكون هي المتضررة فيها بالدرجة الأولى، ومن ورائها في النهاية المجموعة الوطنية كلها، في صورة امتناع أصحاب هذه القطاعات وغيرهم ، وفق صيغ قانونية أوغير قانونية، عن دفع الضرائب والآداءات والجباية. أو هجرة هذه الرساميل الى مناطق وجهات أكثر استقرارا وأوفر ربحا، ويلحق الضرر بذلك الوطن والشعب كله.
إن سياسة نظام اقتصاد السوق عموما، لا يمكن أن يتحقق بها في أوطاننا ما يتوهم البعض إمكان تحققه في العالم الغربي الذي كانت الدولة فيه من إنتاج الطبقة الرأسمالية صاحبة الرأسمال الخاص والمالكة للقطاع الخاص والذي كان سابقا لنا في ذلك بقرون من الزمن. والذي أقام قواعد حياته الإجتماعية وأوضاعه الإقتصادية على ذلك الأساس منذ البداية، بعيدا عن كل منافسة اقتصادية أو حضارية أقوى منه،أو لها عليه إشراف أوتأثير مباشر أو غير مباشر الى حد الوصاية عليه، مثلما هو عليه الحال عندنا. وبذلك لا يمكن أن يتحقق لنا من خلاله برنامج تنموي حقيقي وناجح في ظل استفحال أزمة ثقة تسود المجتمع المحلي الداخلي والدولي كله. وفي ظل أزمة ثقة تحكم الحاكم والمحكوم. وتفشي عقلية الرغبة في الربح السهل، على قاعدة الغاية تبرر الوسيلة، واستيلاء ظاهرة النهم والجشع على الأنفس، واستشراء ثقافة الطمع والخوف بين الناس.
فلا تنمية حقيقية بدون حرية حقيقية وأمن واستقرار حقيقيين وبدون قطاع عام في ظل نظام ديمقراطي مستكملا لكل شروطه في التعددية الحزبية وحرية الإعلام والصحافة والتعبير واستقلال القضاء والتداول السلمي على السلطة وصيانة وضمان حقوق الإنسان.
بقلم : علي محمد شرطاني
قفصة  – تونس

http://www.blogger.com/post-edit.g?blogID=1925505757714215230&postID=8093270639922765474

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق