هذا المقال نشر في جريدة الصباح سنة 2008 عندما نشر الدّكتور محمّد
الطالبي كتابه المثير للجدل المعنون بـ ليطمئنّ قلبي و الذي رد فيه على من
اعتبرهم انسلاخسلاميين أي خارجين عن الإسلام بتأويلاتهم التي اعتبرها من
خارج نسقه ... ننشر المقال لنبحث عن نسق تطور أفكار الرّجل و الخيط الناظم
في فكره و عن أصالة اعتقاده في أنّ دينه هو الحريّة ... و ذلك بمناسبة
تعيينه مديرا لبيت الحكمة ...
ليطمئنّ عقلي 1 من 2
بقلم: الأستاذ سامي براهم (*)
ليس
من باب المزايدة على الدّكتور محمّد الطّالبي أن أعنون مقالي في التّعليق
على كتابه "ليطمئنّ قلبي" بعنوان "ليطمئنّ عقلي" فلا يخفى على كلينا أنّ
فلسفة المعرفة في الثّقافة العربيّة الإسلامية تأسّست على أن لا تعارض بين
حقائق العقول وحقائق النّقول فالحقّ لا يضادّ الحقّ ولذلك ألّف المسلمون في
درء التّعارض بين العقل والنّقل موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول وما
بين الحكمة والشّريعة من اتّصال وتحدّثوا عن موقع القلب في عمليّة التعقّل
لترجمة المعرفة العقليّة إلى فيض من الدّفق الشّعوري الدّافع للعمل
والمعاملة والسّلوك المفضي إلى النّجاة في الدّنيا الآخرة.
غير
أنّ القلب المتقلّب إذا لم يُكبح بلجام من عقل عاقل انزاح عن العدل
والإحسان إلى التشهّي وإرضاء نوازع الذّات. ويحضرني في هذا السّياق ذلك
الموقف اللافت الذي وقفه علي بن أبي طالب في إحدى المعارك إذ بصق عليه خصمه
في المعركة فأعرض عنه وهو على منازلته قادر فسُئل عن ذلك فقال خشيت أن
أقتله انتصارا لنفسي، ففي موقف مثل هذا قد تختلط فيه الغرائز ونوازع الذّات
وأهواؤها وقناعات العقل والانتماءات فضّل عليّ بن أبي طالب الإعراض عن ردّ
الفعل خشية أن تخالطه شبهة هوى من نفس منجرحة تبحث عن إشفاء الغليل
والانتصار للذّات عوض الانتصار للمبدأ فلا يكون خالصا لله .
لا إكراه في النّقد
لقد
حضرتني الكثير من الأسئلة وأنا أقرأ كتاب الأستاذ الدّكتور محمّد الطّالبي
"ليطمئنّ قلبي" تتمحور حول منهج النّقد العلمي للأفكار وذلك ما درسناه
طيلة سنوات في قسم الحضارة التاّبع لشعبة اللغة والآداب والحضارة العربيّة
بكليّات الآداب بالجامعة التّونسيّة وهو قطعا مخالف لما ورد في كتاب
الأستاذ الطّالبي بل مناقض لما درّسه هو نفسه لطلبته وما أشاعه في كتبه
ومقالاته ومساهماته في النّدوات من روح التعقّل والضّبط وأخلاق النّقد. لقد
جاء هذا الكتاب حسب ما أعلن كاتبه بقصد إرضاء الضّمير والشّهادة بالحقّ
على ما عدّه خطّة لتدمير الإسلام من داخله من طرف زمرة وسمهم بالصّفات
التّالية: "المتقنّعين بقناع الإسلام، الكافرين به، المنافقين، المداهنين،
الكائدين، المتستّرين، الكذّابين، البُهتانيّين، المندسّين، الدسّاسين،
الغشّاشين، المخادعين، الماكرين، الوقحين، المخاتلين، المزوّرين،
المموّهين، الملبسين، المضلّلين، الغاوين، المغوين، الهمزة، اللمزة،
المنسلخين عن الإسلام"! والعبارات وردت جميعها في ثنايا الفصول الأولى من
الكتاب في صيغة الفعل أو الاسم مفردا أو جمعا فحقّ على هؤلاء حسب الأستاذ
الطّالبي مدلول الآية :
"وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي
آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ
فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا
وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ
كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ
يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا
فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) الأعراف 7.
وقد
ورد في تفسير الرّازي "يقال لكلّ من فارق شيئاً بالكلية انسلخ منه. وسواء
قولك انسلخ وعرى وتباعد، وهذا يقع على كل كافر لم يؤمن بالأدلة، وأقام على
الكفر... وأيضاً فقد ثبت بالأخبار أن هذه الآية إنما نزلت في إنسان كان
عالماً بدين الله تعالى، ثم خرج منه إلى الكفر والضلال.
وهذه
الآية كما جاء في تفسير الرّازي "من أشد الآيات على أصحاب العلم، وذلك
لأنه تعالى بعد أن خص هذا الرجل بآياته وبيّناته، وعلّمه الاسم الأعظم،
وخصّه بالدّعوات المستجابة، لمّا اتّبع الهوى انسلخ من الدين وصار في درجة
الكلب .. "!
أيّ مورد يريد الأستاذ الطّالبي يا ترى أن
يوردنا في فترة عصيبة من هذا الزّمن العربيّ الرديء الذي تتصارع فيه
الطّوائف والملل والنّحل والأحزاب والايديولوجيّات تتنازع وتتقاتل على
الشّرعيّة لإثبات الذّات عبر نفي الآخر؟
لقد نحت الأستاذ
الطّالبي مصطلحا جديدا خاصّا بهذه الطّائفة من النّاس أطلق عليه
الانسلاخسلاميين وكأنّ معجم الإقصاء والتّبديع والتّفسيق والتّكفير الذي
تعجّ به كتب الجدل الدّيني والمذهبي والكلامي والسّياسي لا يفي بالغرض
فنحتاج إلى تضخيمه بمصطلح أشدّ تعبيرا عن المفاصلة والمباينة بين أفراد
المجتمع الواحد.
والطّريف أنّه علّل هذا الاختيار برفضه
لمصطلح "مرتدّ" لأنّه يرفض أصلا حكم الردّة غير القرآني ويؤمن بحريّة
المعتقد ويعتبر أنّ الانسلاخ من الإسلام حقّ من حقوق الإنسان بل هو يحترم
المنسلخ عن الإسلام ويدافع عن حقّه في الانسلاخ عنه إذ ليس الإيمان
بالإكراه ولا يجب أن نُرغم المنسلخ على التستّر والتّظاهر بالإيمان خوفا من
حكم الردّة، لأنّ انسلاخه ممارسة لحريّته التي وهبها الله وهي حريّة
التّعبير عن هذا الاختيار الانسلاخسلامي وحسب الأستاذ الطّالبي يجب أن تكون
كاملة ومطلقة حتّى لا تبقى ذريعة للتّقنّع!
ولكنّ الأستاذ
الطّالبي يرى أنّ النّفاق ليس حقّا من حقوق الإنسان لذلك آلى على نفسه كشف
أباطيل هؤلاء المنسلخين المنافقين وخطّتهم المسيهوديّة المبيّتة لتدمير
الاسلام من الدّاخل. وهو على قناعة راسخة أنّه " ليس طبعا الحقّ لأيّ إنسان
أن يُدْخِلَ في الإسلام أو يُخْرِجَ منه من يشاء ليس له الحقّ في الحكم
بإسلام هذا وتكفير ذاك، فالله بمفرده له الحقّ في أن يقول من المسلم. وحيث
أنّ هذا الحقّ حقّ الله فنحن قد أوردنا قوله وقوله القول الفصل لا معقّب
عليه"! وهو على قناعة راسخة أنّه لم يكفّر أحدا بل لا يتعدّى الأمر تطبيق
أمر الله وإنفاذ إرادته في من لا يتوافق قولهم وسلوكهم مع المستفاد من
قوله. وينسى الأستاذ الطّالبي في غمرة حماسه في الدّفاع عن قول الله أنّه
يعرض ما فهمه هو من ذلك القول الذي لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن يكون
مطابقا بشكل كليّ مطلق للمقصود الإلاهي الذي يبقى تحصيله عمليّة اجتهاديّة
متواصلة. يذكّرني هذا التمشّي الحجاجي الذي يبدو في ظاهره منطقيّا بما وقع
في إحدى النّدوات التي حضرتها حيث كان المحاضر يدافع عن حريّة المعتقد
والضّمير والحقّ في وضع كلّ الثّوابت والمسلّمات موضع النّقد والتّساؤل
والشكّ وإن أدّى ذلك إلى نقضها فقال له أحد الحاضرين بكلّ تلقائيّة وثقة
أنت تطالب بالحقّ في الكفر فلا تصادر حقّنا في التّكفير! وكأنّه يصدر عن
نفس المنطق الحجاجي للدّكتور الطّالبي الذي يعتقد أنّ الشاكّ أو المشكّك في
الثّوابت ليس له أن يتمسّك بالانتماء إلى رابطة العقيدة الإسلاميّة بل هو
أمام خيارين لا ثالث لهما: فإمّا أن يعلن كفره وخروجه عن الإسلام صراحة
فتندرج أفكاره ضمن حريّة المعتقد وعدم الإكراه في الدّين واحترام المخالف،
أو يصرّ على البقاء تحت راية الإسلام وتسويق آرائه تحت مسمّى الاجتهاد
والتّجديد فتصدق فيه صفة المنافق والانسلاخسلامي واستحقّ من الأستاذ
الطّالبي وكلّ مسلم غيور على الإسلام التّشهير والفضح والكشف عن النّوايا
السيّئة وذلك بالنّسبة إليه فرض عين على كلّ مسلم قادر يستطيعه. ولا يكتفي
الدّكتور الطّالب بذلك بل يصرّح في سابقة خطيرة أنّ " من رفض الشّهادة
صراحة وعلانية باللسان بدعوى الاحتشام ... أو بدعوى أنّ الأمر بينه وبين
ربّه لا يهمّ غيره وليس لغيره أن يسأله هل هو مسلم أم لا وأنّ ذلك من باب
التجسّس والتدخّل في شؤون الغير والوقاحة فليس بمسلم " ممّا يستدعي حقّ كلّ
فرد من المجتمع أو هيئة أو سلطة في التّفتّيش عن عقائد النّاس ومطالبتهم
بالنّطق العلني الصّريح للشّهادتين ليتأكّد إسلامه وتنتفي عنه شبهة
الكفر... عجبا للأستاذ الطّالبي كيف يتبنّى حريّة المعتقد باعتبارها
مسؤوليّة فرديّة بين العبد وخالقه ثمّ سرعان ما يتراجع عنها كالتي نقضت
غزلها من بعد قوّة أنكاثا.
بهذا المنطق المتهافت يريد
الأستاذ الطّالبي أن يؤسّس معرفة علميّة نقديّة عن المختلف ويؤسّس لإسلام
الحداثة والحريّة والمسؤوليّة والتّنوير والعالميّة ؟
ليس ما
أوردناه من تحفّظ على منهج الأستاذ الطّالبي في مقاربة أدبيّات ما اصطلح
على تسميته بالإسلاميّات التّطبيقيّة أو الإسلامولوجيا دفاعا عن هذه
الأدبيّات أو تبنّ لأطروحاتها بالكليّة إذ نشترك معه في ملاحظة ما تنطوي
عليه من ثغرات ومواطن ضعف وتهافت رغم ما أضافته من أبعاد جديدة لدراسة
الظّاهرة الدّينيّة ولا سيما التّاريخ الإسلامي وعلومه ومعارفه وذلك بتوظيف
مفهوم التّاريخيّة في ضوء جدليّة الفكر والواقع، ولكنّا نتمسّك إلى أقصى
الحدود بمنهج النّقد الموضوعي القائم على آليّات تحليل الخطاب وتفكيك بناه
الدّاخليّة وتمثّل مسلكه الحجاجيّ دون الخروج عن ضوابط الأخلاق العلميّة.
(*) باحث في الجامعة التونسية
(المصدر: جريدة "الصباح" (يومية – تونس) الصادرة يوم 9 مارس 2008)
ليطمئــن عقلـي (2 من 2)
بقلم الأستاذ: سامي براهم (*)
تنشر «الصباح» اليوم الجزء الثاني والأخير من مقال الأستاذ سامي براهم بعنوان ليطمئن عقلي.
× الدّاعيــــة والعالــــم
نحن
نقدّر غيرة الأستاذ الطّالبي على الدّين ورغبته الملحّة في الدّفاع عن
قيمه ومضامينه وحقائقه التي بدا له أنّ الانسلاخسلاميين أرادوا التّشويش
عليها وتشويه صفائها، ومن باب إحسان النيّة في صدق طويّته لن نسلّط على
مقاربته نفس المنهج الذي توخّاه مع خصومه من خلال البحث عن مقاصدهم
الثّاوية في ضمائرهم والكشف عمّا في نفوسهم من أمراض أخلاقيّة ونوازع
شرّيرة وعلاقات مشبوهة كانت دافعا وراء ما حوته كتبهم من أفكار، ولكنّنا مع
كلّ ذلك نعتقد أنّ ترجمة شعور الغيرة على أيّ معتقد خاصّة إذا كان دينيّا
على مستوى الخطاب تختلف باختلاف الموقع والوظيفة والوعي، فخطاب الدّاعية
مثلا يهدف إلى التّرغيب عبر دفع المؤمنين إلى الأوامر والطّاعات، والتّرهيب
عبر تحذير المؤمنين من النّواهي والمعاصي، ويمكن له في هذا السّياق أن
يحذّر المؤمنين ممّا يعدّه خطرا على معتقدهم من كتابات أو أفكار
وايديولوجيّات وفلسفات. ويختلف هذا الخطاب الدّعوي باختلاف وعي الدّعاة
ومعرفتهم الدّينيّة، أمّا الدّعاة العامّة المقتصرين على الثّقافة
النّقليّة التي غالبا ما تكون مذهبيّة شفويّة فينزعون عادة إلى خطاب
طهرانيّ حدّيّ قائم على المفاصلة المانويّة والمباينة التّقويّة بين الخير
والشرّ والايمان والكفر والطّاعة والمعصية فيكون خطابهم مشحونا بالأحكام
الوثوقيّة المطلقة عل العباد والتّهديد والوعيد والفتاوى المسقطة والجنوح
إلى الحكم الأقصى في مواجهة المخالف بنسبه إلى الكفر أو النّفاق أو الردّة
أو البدعة والفسق في أهون الأحوال. أمّا الدّاعية المتشبّع بقيم التّنوير
والتحرّر من الجمود على المنقولات فينزع إلى التّذكير عبر تحريك ملكة
التّفكير وتجنّب الأحكام الحديّة خاصّة تلك المتعلّقة بما في ضمائر النّاس.
وقد أورد أبو حامد الغزالي في فيصل التّفرقة بين الإسلام والزّندقة ما نصّه:
فإذا
رأيت الفقيه الذي بضاعته مجرّد الفقه يخوض في التّكفير والتّضليل فاعرض
عنه ولا تشغل به قلبك ولسانك فإنّ التحدّي بالعلوم غريزة في الطّبع لا يصبر
عنه الجهّال ولأجله كثر الخلاف بين النّاس ... فالتوقّف في التّكفير أولى
والمبادرة إلى التّكفير إنّما يغلب على طباع من يغلب عليهم الجهل".
هذا
حال الدّعاة أمّا العلماء الباحثون المشتغلون بالمعرفة ونقد الأفكار فمجال
اهتمامهم مختلف بشكل كليّ فلا تعنيهم نوايا أصحاب الأفكار التي يتناولونها
بالنّقد والتّحليل ولا ينبشون في ضمائرهم إنّما قصارى ما يطلب منهم العلم
تحليل الأفكار بكلّ تجرّد وبيان ما تنطوي عليه من صواب أو خطا من تماسك أو
تهافت. نعم يمكن لعالم النّفس أو المحلّل النفّساني أن يُخضع نصوصا ما إلى
منهج التّحليل النّفسي ولكن ذلك بغاية الفهم والتّفسير لا الاتّهام
والتّشهير وتبقى المقاربة النّفسيّة مجرّد مدخل جزئيّ قاصر عن الإحاطة
بظاهرة التّفكير وإنتاج المعرفة، ويبقى للفلسفات والنّظريّات والمقاربات
النّقديّة الكبرى - إذا ما تجنّبنا التّفسير التّآمري - أصالتها الذّاتيّة
النّابعة من منطقها الدّاخلي القائم على ترتيب الأفكار والحجاج والخطاب
بعيدة عن أن تكون انعكاسا آليّا لنوازع الذّات والمصالح .
وحتّى
لا يكون كلامنا من باب المزايدة والتّسفيه لمقاربة الأستاذ الطّالبي الذّي
نكنّ له الكثير من الاحترام والمودّة وندين له بالكثير من المقاربات
التّجديديّة التّنويريّة في صلب التّفكير الإسلامي المعاصر نريد أن نحيله
على محاولة جادّة في مناقشة نفس الأدبيّات التي تعهّدها بالردّ ونقصد بذلك
ندوة الدورة السّادسة عشر لمجمع الفقه العالمي التي عقدت بدبي في دولة
الإمارات العربيّة المتّحـدة بتـاريخ 9 - 14 / 4 / 2005 تحت عنوان:
القراءات الجديدة للقرآن وللنّصوص الدّينيّة وذلك تحت إشراف الأمين العامّ
لمجمع الفقه الإسلامي فضيلة الدّكتور محمّد الحبيب بلخوجة وقد شارك فيها
عدة تونسيين بينهم الأستاذ محمّد الهادي أبو الأجفان، بمداخلة عنوانها "
القراءة الجديدة لنصوص الوحي ومناقشة مقولاتها"، بالإضافة إلى ثلّة من
الباحثين والعلماء من مختلف أقطار العالم الإسلامي. والملاحظ أنّ جميع هذه
البحوث والمداخلات لم تنزع إلى تكفير أصحاب هذه القراءات أو وسمهم بصفة
المنسلخين عن الإسلام الخالعين لربقته من أعناقهم بل اجتهدت بكلّ عناية في
تفكيك آليّات هذا الخطاب ونقده وكشف ما انطوى عليه من ثغرات. وحسبنا دليلا
على ذلك ما أورده الدّكتور أبو الأجفان سليل الجامعة الزّيتونيّة في مشروع
اللائحة الذي اقترحه في ختام النّدوة، فرغم تنصيصه على ما في هذه القراءات
من أخطار على الثّقافة الإسلاميّة فقد أورد من جملة توصياتها ضرورة توسيع
الحوار مع أصحابها واتّخاذ وسائل مناسبة مثل عقد النّدوات والمناقشات
لإرشاد ذوي القراءات الجديدة إلى التعمّق في دراسة علوم الشّريعة وتكثيف
الرّدود العلميّة الجادّة وتشجيع المختصّين على قراءة كتبهم وأخيرا تكوين
خليّة عمل تابعة لمجمع الفقه تؤسّس مكتبة لمؤلّفات هذه القراءات والرّدود
عليها... تمهيدا لكتابة الرّدود والبحوث الجادّة.
* الانتماء إلى الملّة أو المواطنة
لعلّ
أخطر ما في مقاربة الأستاذ الطّالبي حسب تقديرنا هو نكوصها عن قيمة
المواطنة التي نشط خطاب النّهضة العربيّة منذ الطّهطاوي في ترسيخها في
الفكر العربي واجتهد المفكّرون الإسلاميّون المعاصرون في تأصيلها باعتبارها
رابطة بديلة عن الانتماء الملّي. بينما يصرّح الأستاذ الطّالبي أنّ "كلّ
من يرفض أن يوجّه وجهه نحو القبلة ليس من أمّتنا وليس له أن يملي علينا كيف
نضطلع بالحداثة وكيف نمارسها وكيف نتعامل معها" فالأمّة حسب فهمه هي أمّة
المؤمنين المشهود لهم بصدق الإيمان والمقيمين للفرائض، هؤلاء وحدهم لهم
الحقّ في الاضطلاع بدور النّهوض والتّحديث. وفي مقابل ذلك فإنّ " الذي لا
يصلّي وينكر الصّلاة ولا نشاهده في صفوفنا على الصّراط المستقيم ليس منّا
ولسنا منه وفرض عين على كلّ مسلم أن يؤكّد ذلك بوضوح... وكلّ من لا يسلك
الصّراط المستقيم على النّحو الذي أمر به الله فقد انسلخ عن الإسلام بمحض
إرادته " وانسلخ تبعا لذلك عن انتمائه إلى الأمّة، وبذلك يعود بنا الأستاذ
الطّالبي إلى جدل حسبناه ولّى وانتهى - على الأقلّ في السّاحة الثّقافيّة
والسّياسيّة التّونسيّة - حيث المواطنة فيه بدعة غربيّة لأنّها تساوي بين
المؤمنين والملحدين والمختلفين دينيّا ومذهبيّا وسياسيّا وفكريّا في الحقوق
والواجبات دون تمييز أو تفاضل أو محسوبيّة، شركاء جميعهم في البحث عن سبل
نهضة الوطن ورسم السّياسات الكفيلة بنقله إلى الأمم المتقدّمة. لقد أصبحت
المواطنة اليوم ولنعلنها بكلّ وضوح فرض عين سياسي وثقافي وديني بما تضمنه
من حريّة المعتقد وحقّ الاختلاف والغيريّة والعيش سويّا ودخول جميع
المتباينين في عقد ولاء اجتماعي سياسي لا يمنح فيه الانتماء الدّيني أو
المذهبي أو الثّقافي أو السّياسي أو الجهوي أو العرقي... أيّ شكل من أشكال
الامتياز أو التّفاضل في هيئة الانتظام الاجتماعي والقوانين المنظّمة له
والوظائف الاجتماعيّة والسّياسيّة فذلك لا يتمّ بمقتضى ما يختاره أفراد
المجتمع من عقائد وأفكار إذ الكلّ متساوون بحسب امتثالهم لما اتّفقت
المجموعة على أنّه مصلحة عامّة. ويبقى للحراك الثّقافي والاجتماعي
والسّياسي وما يحدثه من تدافع متكافئ وتنافس سلميّ نظيف دور إحداث التّراكم
المعرفي وفرز الأطروحات المتماسكة وترشيحها عبر الإرادة الشّعبيّة للقيام
بأدوار متقدّمة على غيرها من الأطروحات. ولكن أهمّ ما يوفّره هذا الحراك في
ظلّ قيمة المواطنة هو التّواصل بين الفرقاء وما يؤدّي إليه من تجاوز
التّباغض والتّدابر وسوء الفهم والاحتراب الدّاخلي، ثمّ تبادل الخبرات وما
يؤدّي إليه ذلك من توسيع دائرة النّظر والاختيار والتّثاقف والنّقد الذّاتي
والمراجعات. لا قيمة للثّقافة حسب تقديرنا إذا كانت سببا في تسميم الحياة
الثّقافيّة والاجتماعيّة ولم تساهم في تحقيق السّلم والتكافل والتّواصل بين
أفراد المجتمع وإن كانوا مختلفين.
× سياسة المكيالين ولاهوت قتل الحوار
" أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى" (سورة النجم الآية 21 ـ 22)
لم
تقتصر مقاربة الأستاذ الطّالبي - القائمة على المفاصلة والمباينة - على
الدّاخل الثّقافي فحسب بل تجاوزته إلى أصحاب الدّيانات الأخرى السّماويّة
على وجه الخصوص في ردّ على المستشرقين وعلى البابا بونوا 16. والعجب من
الأستاذ أنّه يحلّ لنفسه ما يحرّمه على الآخرين إذ أعاد صياغة كلّ الأفكار
التي دحضها عن الإسلام لينسبها إلى الدّيانة المخالفة ورموزها. فكلّ ما
نفاه عن نبيّ الإسلام من تهم كالها له المستشرقون نسبه إلى عيسى الذي جاء -
حسب ما فهمه الأستاذ الطّالبي من آيات الإنجيل - ليضرم النّار في الأرض
ويعمل فيها السّيف ويكره النّاس على الدّخول في الملكوت. أمّا بولس الرّسول
فقد نال الحظّ الأوفر من المقاربة التّحليليّة النّفسيّة التي خصّصها لفهم
ظاهرة الوحي النبوّة. والعجيب أنّه بذل قصارى جهده المعرفي في دحض هذه
المقاربة النّفسيّة عندما تعلّقت بنبيّ الإسلام وما نسب إليه من صفات
الهلوسة والتّخمير وفي مقابل ذلك بذل نفس قصارى الجهد لإلصاقها ببولس، فهو
شخصيّة فصاميّة أصيب بضربة شمس قويّة أفقدته بصره فانهارت قواه الرّوحيّة
والجسديّة ثمّ انخرط في حالة من الهلوسة، وجعلته بنيته النّفسيّة الفصاميّة
يشعر بصدق المشاعر الدّينيّة غير العقلانيّة التي انتابته. ثمّ يكيل لبولس
كلّ الصّفات البغيضة من قبح المظهر وقصر القامة وتقوّس السّاقين والعقد
النّفسيّة والغمش الهستيري والجنون الدّينيّ والصّرع والمسّ من الجان
والوسواس والكبرياء والغرور والعُجب وحبّ الظّهور والوقاحة.
ثمّ
يفسّر الأستاذ بكلّ ثقة ما يعدّه المسيحيّون وحيا ضربا من الهلوسة
التّخاطريّة فقد سمع بولس صوت ضميره الباطنيّ ويتساءل بكلّ عقلانيّة " من
منّا لم يسمع قطّ في حياته صوتا من دون أن يرى شخصا؟... وليس من النّادر أن
يسبق النّوم سماع أصوات ورؤية وصور... كلّ شيء بدأ بضربة شمس ومنها انطلق"
بهذه
المضامين يؤثّث الأستاذ الطّالبي عنوان فصله لاهوت الحوار ونستغرب كيف
يكون هذا اللاهوت مفضيا للحوار وقد انتهج خطاب السبّ والقذف لشخصيّة
يقدّسها الطّرف المعنيّ بالمحاورة ونستغرب أكثر بأيّ منطق يسوّغ لنفسه
إلصاق نفس التّهم التي ينفيها عن نبيّ الإسلام بشخصيّة دينيّة اعتباريّة في
مقام بولس الرّسول عند المسيحيين؟؟؟ هو منطق لا يقوم حسب تقديرنا على
العدل والانصاف المنهجي فضلا عن أنّه لا يؤسّس أخلاقا للحوار بين الأديان.
لقد تراجع الأستاذ الطّالبي عن كلّ المضامين التّنويريّة التي أثّث بها
ندوات الحوار بين الأديان ونشر بعضها في مجلّة لأفهم COMPRENDRE أو
إيسلاموكريستيانا التي كنّا نتلقّفها بكلّ شغف لنتطلّع إلى خطاب إسلاميّ
جديد يؤمن بالمغايرة والتّعايش بين الأديان في كنف الاحترام المتبادل
وتعميق التّجربة الرّوحيّة بالانفتاح في ما بينها.
ما الذي
يفسّر كلّ هذه المفارقات في كتاب الأستاذ الطّالبي؟ هل هو الغضب من كتابات
من أسماهم بالانسلاخسلاميين وتصريحات البابا بونوا 16 المثيرة للجدل عن
الإسلام؟
لقد تساءل الأستاذ الطّالبي بكلّ حرقة الغيور على
الدّين في سياق تعليقه على أحد آراء من عدّهم من الانسلاخسلاميين " كيف لا
نعتبر قوله وقاحة في حقّنا ؟ كيف لا يثيرنا ولا يغضبنا قوله ؟ فهل كان ما
دوّنه أستاذنا في كتابه "ليطمئنّ قلبي" استجابة لسورة الغضب التي انتابته
فاختلّت موازين المنهج النقدي العلمي الذي طالما حرص هو وبقيّة الأساتذة
الذين تتلمذوا عليه أن يدرّبونا عليه ؟ أليس مدلول الآية " يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ
وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا
هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ " الأعراف (8) حاسما في الدّعوة إلى ضرورة انتهاج العدل مع
الخصم وعدم مقابلة شنآنه بالمثل ؟ أليس إنتاج المعرفة ضربا من الشّهادة
التي تستدعي من المفكّر أن يكون شاهدا بالقسط مخضعا كلّ هواجسه الفكريّة
وخطراته المعرفيّة إلى ميزان العدل القائم على الضّبط والرّبط المنهجيّين
والتنزّه عن الحميّة والنّزعة الانتصاريّة والدّفاعيّة وتنسيب الحقائق
وموافقة صريح المعقول لصحيح المنقول؟
لقد انتهج الأستاذ
الطّالبي مسلكا خاصّا ليُطَمْئِنَ قلبه قائم على الخلط بين المعتقد الدّيني
والعلم، بين الإيمان الدّينيّ ومنهج النّقد الموضوعي، أمّا ما نفهمه من
سياق تجربة النبيّ إبراهيم من الشكّ إلى اليقين - وقد نسب له القرآن قوله "
بَلَى ولَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي " فهو: لا يَطْمَئِنُّ قلبي حتّى
يطمئنَّ عَقلِي.
(*) باحث في الجامعة التّونسيّة
(المصدر: جريدة "الصباح" (يومية – تونس) الصادرة يوم 11 مارس 2008)
_____________________
بمناسبة تعيين
الدّكتور محمد الطالبي مديرا لبيت الحكمة ننشر هذا المقال لنثير السّؤال
حول حقيقة اعتقاده أنّ الإسلام هو دين الحريّة ...
أصبح الأستاذ الطالبي رمزا للحرية و العقلانية و الحكمة و نسي الناس كتابه ليطمئن قلبي الذي كفر فيه الأستاذ عبد المجيد الشرفي و مجموعة من أساتذة و أستاذات الجامعة ... هذا الكتاب الذي كان ردة فكرية و أخلاقية و منهجية بأتم معنى الكلمة حيث اخترع مصطلحا اقصائيا عزز به معجم التكفير و التفسيق و التبديع و هو الانسلاخسلاميين ليدعم مصادرة الأفكار و الحق في المعتقد و حرية النقد و التاويل ... بل ذهب فيه إلى حدّ التعبير عن موقف حدي عقائدي من المختلف الديني من خلال قراءة دينيّة مذهبية للمسيحية لا تختلف عن ثقافة الملل و النحل في المدونة الوسيطة ... عجبا للنخبة كيف تنسى ... يبدو أنّ هجومه على احد رموز التيار الاسلامي التونسي شفعت له لدى لدى إكليروس الحداثة في تونس فكافأته على ذلك دون أن يقدم نقدا ذاتيا على نزعته التكفيرية التي اثرت في كثير من شباب الجامعة من ذوي الحماس الدينيالعاطفي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق